نود أن نُنوّه في بداية هذه المقالة بأنّ أول من نَشَر هذه الرسالة هو الدكتور (محمد عبد الهادي أبو ريدة)، ضمن «رسائل الكندي الفلسفية». غير أنّ أبا ريدة كان قد تشكك في نسبة هذه الرسالة إلى الكندي نفسِه؛ حيث لم يرِد ذكرُ هذه الرسالة باسمها هذا عند أحدٍ مِمّن ترجم للكندي وأحصى مصنفاته. فلم يرد لها ذكر عند مؤرخي سيرة الكندي من القدماء، مثل (ابن النديم) الذي يُذكر له 241 عنوانا، أو (صاعد الأندلسي) الذي يُذكر له 7 عناوين، أو (القفطي) الذي يُذكر له 228 عنوانا، أو (ابن أبي أصيبعة) الذي يُذكر له 281 عنوانا.
كانت هذه المسألة قد شغلت بالَ الدكتور محمد عبد الهادي، فاحتمل ثلاثة أسباب لعدم ذكر القدماء لها، فقال: «إن اسمها سقط مثل غيرها من الثبت الأول الذي اعتمد عليه المؤرخون، أو أنها لم تكن في متناول أحد منهم، أو أنها مذكورة بعنوان آخر. ولعله الذي نجده عند أبى أصيبعة وهو: «مسائل كثيرة في المنطق وغيره وحدود الفلسفة». وهذا العنوان الأخير وَرَد فعلا عند أبى أصيبعة في «عيون الأنباء»، منفردا بذلك من بين كل مؤرخي الكندي القُدامى.
وكان مما حمل أبا ريدة أيضا على التشكّك في نَسَب هذه الرسالة إلى الكندي هو خلوها من الديباجة والخاتمة، وذلك على غير عادة رسائل الكندي الأُخرى؛ فبدت كأنها مقطوعة من أصل آخر، أو أنّها مضافة من قِبل متأخر أراد فهرسة المصطلحات الفلسفية التي يكثر استعمالها عند الكندي. غير أن (ريتشارد مكارثي)، صاحب «التصانيف المنسوبة إلى فيلسوف العرب»، ظنّ أن عنوان «مسائل كثيرة في المنطق وغيره، وحدود الفلسفة» عنوانا واسعا قد يشمل عنوانَ «رسالة الكندي في حدود الأشياء ورسومها»، أي أنّ الرسالة الأخيرة كانت جزءا من أصل العنوان الأول؛ وذلك إذا فُهمت «حدود الفلسفة» ببعض الاتساع.
يختلف مع رأي أبى ريدة الدكتور (عبد الأمير الأعسم) في كتاب «المصطلح الفلسفي عند العرب» الذي يؤكد نسبة هذه الرسالة إلى الكندي. ويقول لنا أنّ أول إشارة إليها وردت في محتويات مخطوط مكتبة (أيا صوفيا) برقم 4832، والتي عرّف بها أول مرة المستشرقان ريتر Hellmut Ritter وبلسنر Martin Plessner في بحث لهما بمجلة «الأرشيف الشرقي» التشيكوسلوفاكية سنة 1932. ولقد نبّه إلى ذلك كلٌّ من أبي ريدة، وريتشارد مكارثي، وبروكلمان صاحب كتاب «تاريخ الأدب العربي». ولقد ذهب عبد الأمير الأعسم في كتابه المذكور أعلاه إلى أن لرسالة الكندي ديباجةً وخاتمة، وأنها وحدةٌ مستقلة بذاتها لا صلة لها بعمل آخر للكندي.
أبدى المستشرق شتيرن S. M. Stern اهتماما ملحوظا بهذه الرسالة؛ فنشر عام 1959 بحثا سجل فيه ملاحظاته على نص الكندي. غير أنه لم يخرج بملاحظاته عن المألوف في معالجة نصوص الكندي عامة؛ فهي تهتم بالميتافيزيقا والنفس والدين، كما تحتوي على بعض المقولات بوجه خاص، وذلك حسب تعبير عبد الأمير الأعسم.
كانت نشرة أبى ريدة لرسالة الكندي في «حدود الأشياء ورسومها» هي أول نشرة علمية للرسالة بالعربية وغير العربية. ويذهب أبو ريدة إلى أن هذه الرسالة هي أول عمل في اللغة العربية يتناول التعريفات والحدود الفلسفية عند العرب، ويعتبرها أول قاموس وصل إلينا في هذا الباب. غير أن عبد الأمير الأعسم يختلف مرة أخرى معه ويعتبر أنّ هذا خطأ، ومكمن الخطأ عند أبى ريدة من وجهة نظر الأعسم أنّه تجاهل كتاب «الحدود» لجابر بن حيان، الذي نشره المستشرق باول كراوس Paul Kraus في «المختار من رسائل جابر بن حيان». غير أن الأعسم يُقر بأن رسالة الكندي كانت أكثر تأثيرا من رسالة جابر بن حيان؛ لأنها مرحلة تالية متطورة بعد جابر بن حيان، ففيها يحدد ويعرف 109 مصطلحات فلسفية، منهم 45 مصطلحا لم يعرفها جابر في حدوده ولا في اللغة الفلسفية التي عبر بها عن هذه الحدود. فرسالة جبار بن حيان إذن هي مرحلة نشوء المصطلح وبدء التعامل به في التعبير الفلسفي، أما مرحلة الكندي فهي التدقيق المهم لتلك المصطلحات وتنسيقها وتهذيبها والرجوع بها إلى أصلها الفلسفي.
وهذا وصفها وفق نشرة أبى ريدة:
– قام أبو ريدة بتقديم تصدير عام للرسالة.
– استغرق النص حوالي 15 صفحة.
– تبدأ الرسالة بمصطلح «العلة الأولى» دون ديباجة.
– تنتهي الرسالة بمصطلح «البهيمية» دون خاتمة.
– علّق أبو ريدة على النص بما يساوي 114 هامشا على نص الرسالة التى تحتوي على 109 مصطلحات أساسية وفرعية.
وهاكم المختار من بعض مصطلحات رسالة الكندي «في حدود الأشياء ورسومها». لكن نود إيضاح معنى عنوان الرسالة أولا؛ فما هو الحد؟
الحد أو التعريف التام: هو تعريف الشيء بالجنس القريب والفصل المميز له، مثل قولنا: «الإنسان حيوان ناطق».
والرسم هو: تعريف الشيء بالجنس القريب والخاصة المميزة له، وذلك مثل قولنا: «الإنسان حيوان ضاحك».
• المختار من الرسالة:
– العلة الأولى: مُبدعة، فاعلة، متممة الكل، غير متحركة. (ويقصد الكندي هنا بالعلة الأولى «الله»، وهذه بعض صفاته.)
– العقل: جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها.
– الطبيعة: ابتداء حركة وسكون عن حركة، وهي أول قوى النفس.
– النفس: تمامية جرم طبيعي ذي آلة قابلة للحياة. ويقال: هي استكمالٌ أول لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة. ويقال: هي جوهر عقل متحرك من ذاته بعددٍ مؤلف.
– الجرم: ما لَه ثلاثة أبعاد؛ طول وعرض وعمق. (يغلب عند الكندي استعمال لفظ «الجرم»، لا لفظ «الجسم» الذي غَلَب فيما بعد. وليس هناك تعريفا للجرم في تعريفات الجرجاني مما يدل على تطور الاصطلاح الفلسفي على يد الكندي.)
– الإبداع: إظهار الشيء عن ليس. (ليس هنا بمعنى العدم.)
– الهيولي: قوة موضوعة لحمْل الصور، ومُنفعلة.
– الصورة: الشيء الذي به الشيء هو ما هو.
– العنصر: طينة كل ذي طينة.
– الجوهر: هو القائم بنفسه؛ وهو حامل للأعراض، ولم تتغير ذاتيته.
– الكمية: ما احتمل المساواة وغير المساواة.
– الكيفية: ماهو شبيه وغير شبيه.
– المضاف: ما ثبت بثبوته آخر.
– الحركة: تبدل حال الذات.
– الزمان: مادة تعدها الحركة؛ غير ثابتة الأجزاء.
– المكان: نهايات الجسم، ويقال هو التقاء أفقٍ أفقي المحيط والمحاط به.
– الإضافة: نسبة شيئين؛ كل واحد منهما ثباته بثبات صاحبه.
– الحاس: قوة نفسانية مدركة لصورة المحسوس مع غيبة طينته. (الحاس هنا هو «النفس». راجع ذلك في رسالة «ماهية النوم والرؤيا» للكندي.)
– الحس: إنية إدراك النفس صور ذوات الطين في طينتها بأحد سبل القوى الحسية. ويقال: هو قوة للنفس مدركة للمحسوسات.
– القوة الحساسة: هي التي تشعر بالتغيّر الحادث في كل واحد من الأشياء.
– المحسوس: هو المدرك صورته مع طينته.
– الروية: الإمالة بين خواطر النفس.
– الأزلي: الذي لم يكن ليس، وليس بمحتاج في قوامه إلى غيره؛ والذي لا يحتاج في قوامه إلى غيره فلا علة له، وما لا علة له فهو دائم أبدا.
– الفلك: عنصر وذو صورة، فليس بأزلي. (فكرة حدوث العالم وتناهيه في الزمان والمكان أساسيّة عند الكندي.)
– الكل: مشترَك لمشتبِه الأجزاء وغير مشتبِه الأجزاء.
– الجميع: خاص للمشتبِه الأجزاء.
– الجزء: لما فيه الكل.
– البعض: لما فيه الجميع.
– العزم: ثبات الرأي على الفعل.
– اليقين: هو سكون الفهم مع ثبات القضية ببرهان.
– الضرب: هو تضعيف أحد العددين بما في الآخر من الآحاد.
– القسمة: تفريق أحد العددين على الآخر؛ وتفريق بعض العدد على بعضه أو غيره.
لمّا كان في غير مستطاعنا ذكرُ كل ما ورد في رسالة الكندي؛ فاكتفينا بذكر هذه الحدود الفلسفية التي ذكرها في «في حدود الأشياء ورسومها». ومن أراد الاطلاع عليها كاملةً يجدها منشورةً في كتاب «رسائل الكندي الفلسفية» للدكتور (محمد عبد الهادي أبو ريدة).