الذي يدفعني إلى فقدان صوابي حقًا عندما أقوم بمطالعة ردود الأفعال النقدية، حتى بعضها الذي يحوز على إعجابي، هو تصنيفي بشكل دائم على أنني ناقد ما بعد حداثي، وهو الشيء الوحيد الذي لا أرغب في أن أكونه. أنا أعتبر نفسي فيلسوف يهتم بالأسئلة والمشكلات الأنطولوجية التقليدية والأساسية، وربما أكثر من ذلك، فأنا أرى نفسي فيلسوف تقليدي خارج من عباءة المدرسة المثالية الألمانية.
كل من شاهد فيلم (فيرتيجو – Vertigo) للمخرج الشهير (ألفريد هيتشكوك – Alfred Hitchcock) سيتذكر المشهد الغامض في حديقة سيكويا عندما كانت بطلة الفيلم مادلين تمر على قطع الخشب الأحمر المقطعة عرضيًا ورأت جذع الشجرة الذي يعود لألف عام مضت ورأت مراحل نموه على مدار السنين والمشار إليها بالتواريخ، ثم أشارت إلى خطين دائريين بالقرب من الحافة الخارجية لجذع الشجرة وقالت: “هنا قد ولدت.. وهنا قد مت”.
وبطريقة مشابهة، يمكننا أن نتخيل الفلسفة على إنها شخص يقف أمام التاريخ الأوروبي ويشير إلى تاريخين يقعان بالقرب من بعضهما البعض، ويقول: “هنا قد ولدت.. وهنا قد مت”، التاريخ الأول سوف يشير إلى عام 1781، تاريخ إصدار كتاب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (نقد العقل المحض- Critique of pure reason)، والتاريخ الثاني سيشير إلى عام 1831 وهو العام الذي توفي فيه جورج فيلهيلم فريدريك هيجل.
من وجهة نظري، وبشكلٍ ما، فإن كل الفلسفة قد حدثت في تلك الخمسين عام، التطور الهائل السابق على تلك المرحلة كان مجرد تحضير لشروق فكرة المتعالي، أما بالنظر إلى التطور الذي شهدته الفلسفة في مرحلة ما بعد هيجل فإن الفلسفة تعود أدراجها إلى تلك النزعة التجريبية المبتذلة للقرن التاسع عشر. ومن وجهة نظري فإن المثاليين الألمان الأربعة الكبار (كانط – فخته – شيلنج – هيجل) قاموا بإضاءة الطريق نحو المثالية الذاتية، وقاموا بتكوين نظرة غير ميتافيزيقة بخصوص جوهر التاريخ وشعور الاغتراب الملازم لوجودنا. فقد ناضلوا من أجل الفكاك من براثن فكرة الذاتية المطلقة مع مراعاة تجنب الانحدار إلى واقعية مرحلة ما قبل المتعالي.
ولكن ماذا أعني تحديدًا؟ ما هو المنطلق الذي أتحدث منه؟ حسنًا، لتبسيط وجهة نظري إلى أقصى درجة، يمكنني القول أن الثالوث الذي يمكن تعريف موقفي الفلسفي من خلاله هو باروخ سبينوزا وإيمانويل كانط وفريدريك هيجل. يمكن تعريف سبينوزا بأنه ذروة الأنطولوجيا الواقعية؛ هناك حقيقة كبيرة خارج عالمنا المحسوس، ونحن يمكننا معرفتها من خلال عقولنا عن طريق تبديد الأوهام المحيطة بتفكيرنا. بينما تحول كانط الترانسندنتالي يقوم بإلقاء الضوء على فجوة جذرية هنا: نحن لا يمكننا أبدًا معرفة الأشياء في ذوتها، لأن عقولنا مقيدة داخل الإطار الظاهراتي، وإذا حاولنا الوصول إلى معرفة ما وراء الإطار الظاهراتي أو إلى مجمل وجود الأشياء فإن عقلولنا سوف تقع في فخ التناقضات والمفارقات.
أما ما قام به هيجل هنا هو افتراض أنه لا يوجد واقع في ذاته وراء الظواهر، وهذا لا يعني أيضًا أن كل ما هو موجود هو فقط تفاعل الظواهر مع بعضها البعض.
إن العالم الظاهراتي ما يميزه هو الإطار الذي يغلفه مفهوم الاستحالة، ولكن خلف هذا الإطار لا يوجد شيء، لا يوجد عالم آخر، لا يوجد واقع فعّال، لذلك نحن لا نعود إلى واقعية ما قبل كانط؛ ما يميز كانط هو تسليمه بمحدودية قدرتنا على المعرفة، أو بقول آخر، استحالة الوصول إلى حقيقة الشيء في ذاته هي خاصية مدرجة بالفعل في طبيعة ذلك الشيء.
علاوة على ذلك، فإن هيجل لا يعد مفكرًا يقدم موقفًا حاسمًا، ولكن موقفع الأساسي هو موقفًا توفيقيًا، ولا أعني هنا التوفيق كهدف طويل الأجل، ولكن التوفيق أو المصالحة كواقع يفرض نفسه مع الحقيقة المريرة التي تحملها المثالية التقليدية.
لو كان هناك شعار يلخص فلسفة هيجل فأنه سيكون: “أوجد الحقيقة في كيفية تحول الأشياء إلى الاتجاه الخطأ”! إن رسالة هيجل ليست هي روح الالتزام -عنوان كتاب (روبيرت براندوم – Robert Brandom) الأخير عن فينومينولوجيا هيجل- ولكن بالأحرى “روح عدم الالتزام”. إن فرضية هيجل هي أن كل مشروع بشري ضخم يتحول إلى خطأ وفقط بتلك الطريقة يشهد على حقيقته. الثورة الفرنسية كانت تنادي بالحرية على مستوى عالمي وبلغت ذروتها في الإرهاب الذي شهدته في حقبة اليعاقبة، وأرادت الشيوعية التحرر من قيود الرأسمالية وكانت هي السبب في إنجاب الإرهاب الستاليني.. الدرس الذي نتعلمه من هيجل بنسخته الجديدة يمكن أن نجده في شعار جورج أوريول من روايته الشهيرة 1984: “الحرية هي العبودية” : عندما نحاول فرض الحرية مباشرة، سوف تكون النتيجة هي العبودية. لذلك، أيًا كانت طبيعة هيجل، فهو بالتأكيد ليس مفكرًا تقليديًا للمثالية التقليدية التي نتعامل معها منهجيًا.
(هينرش هينه – Heinrich Heine) الذي كان طالبًا عند هيجل في أيامه الأخيرة، روى أنه ذات مرة أخبر هيجل أنه لا يستطيع تأييد الصيغة الهيجلية القائلة بأن:
“كل ما هو حقيقي هو عقلاني”
عندها قام هيجل بالنظر حوله جيدًا وقام بإخبار طالبه بصوت خافت:
“ربما كان علي القول بأن كل ما هو حقيقي يجب أن يكون عقلاني”
وحتى لو كانت تلك القصة قد حدثت بالفعل فإنها على أي حال كذبة فلسفية -إن كانت ليست من نسج خيال هينه- فهي تمثل محاولة هيجل إخفاء الرسالة المؤلمة لحقيقة فلسفلته.
وختامًا، فعلي الاعتراف بأن هيجل هو النقطة المرجعية الرئيسية لعملي بأكمله.
ترجمة: مايكل ماهر
تحرير: هدير جابر