سيريس: أصغر وأقرب كوكب قزم

600px-PIA21906-Ceres-DwarfPlanet-HighResolution-Dawn-20170920

سيريس

في القرن الثامن عشر، تنبأ العلماء رياضيًا بوجود كوكب بين المريخ والمشتري، وبأسرع وقت قام الفلكيون بلهفة بتوجيه تليسكوباتهم إلى تلك المنطقة باحثين عن الجرم المفقود. وفي الأول من يناير عام 1801 أتت اللحظة المنتظرة، بالفعل تم إكتشاف كوكب، أو بالأحرى ما كان يعد كوكبًا حينها، في تلك المنطقة بعدسة عالم الفلك الصقلي (جوزيبه بيازي- Giuseppe Piazzi) مانحًا لاكتشافه الاسم (سيريس-Ceres) تبعًا لسيريس إلهة الزراعة والمحاصيل بالمثيولوجيا الرومانية.
وبعد ذلك، في خلال عقد واحد تم اكتشاف أربعة أجرام أخرى بنفس المنطقة، وبالتأكيد، في تلك الفترة تم إعتبارهم جميعًا كواكب تمامًا مثل كوكبنا، ومثل سيريس وقتها.
استمر هذا الوضع حتى مرور 50 عامًا أخرى، حينها تم اكتشاف العديد من الأجرام الصغيرة في تلك المنطقة ألا وهي مكونات حزام الكويكبات (The Asteroid Belt)، وحينها أيضًا تم خفض رتبة سيريس من كونه كوكبًا إلى مجرد كويكب صغير.
تغيرت الأمور مرة أخرى في عام 2006 حيث حصل سيريس على ترقية، لا ليصبح كوكبًا مرة أخرى -نظرًا لفشله في (تنظيف الجوار) أي تنظيف المنطقة المجاورة حول مداره باستخدام قوى جاذبيته مسيطرًا على الأجرام المحيطة، فهذا أحد المعايير الثلاثة المعتمدة في تعريف الكوكب الآن- ولكن ليصبح كوكبًا قزمًا (Dwarf Planet).

لعلك سمعت عن ذاك المصطلح من قبل، أتذكر بلوتو؟ إن كنت لا تعلم، فبلوتو أيضًا تم خفض رتبته من كوكب إلى كوكب قزم، ولنفس السبب الخاص بسيريس.
وبالحديث عن بلوتو، فعلى الرغم من شهرته إلى الآن كأحد أقرب الكواكب القزمة للأرض، ففي الحقيقة نسبيًا هو ليس قريبًا على الإطلاق إذا ما قارناه بالكوكب سيريس الذي يعد بالفعل أقرب وأصغر كوكب قزم لكوكبنا العزيز.

سيريس هو كوكب قزم يقع في حزام الكويكبات الواقع بين كوكبي المريخ والمشترى، وهو الكوكب القزم الوحيد الواقع في الأجزاء الداخلية للنظام الشمسي حيث يقع البقية في حدود أبعد فى حزام كايبر (Kuiper Belt) الممتد من كوكب نيبتون لأبعد من ذلك.
يُكَوِّنُ سيريس حوالي ثلث كتلة حزام الكويكبات، بالرغم من كونه أصغر كوكب قزم معروف الى الآن فقط بقطر 950 كيلومتر، أي تقريبًا بحجم ولاية تيكساس بالولايات المتحدة. ويمر اليوم عليه في حوالي 9 ساعات أرضية، بينما يكمل دورته حول الشمس في حوالي 4,6 سنة أرضية.

كتلة الكوكب القزم الضئيلة وقربه من الأرض جذبت انتباه العلماء إليه حيث إن خصائصه تلك تمنحه إمكانية كونه سطح مناسب للهبوط المأهول مستقبلًا وأيضًا لانطلاق البعثات المأهولة في مهمات فضائية لمناطق أعمق مما أعتدنا عليه.

يتميز سيريس بشكله الكروي مع وجوده بين الأجسام الصخرية غير منتظمة الشكل التي تملأ حزام الكويكبات، وبالإضافة إلى ذلك فإنه يختلف عن أغلب الأجسام في حزام الكويكبات من حيث أنه يحتوي على مياة، هذا قد يعني أن عوالم مشابهة في النظام الشمسي الأولي منذ قديم الزمن كانت سببًا في إحضار المياه إلى الأرض.
طبقًا للنماذج الحالية لنشأة النظام الشمسي، كان من المفترض أن تنشأ الأرض ككوكب صخري تمامًا، وأي مياة تواجدت على سطحها كانت لتتبخر حين ارتطم بها كوكب أولى في الحادثة التي أدت لتكون القمر طبقًا لإحدى الفرضيات.
لفترة طويلة، ظن العلماء أن المياة قد أتت إلى الأرض عن طريق المذنبات نتيجة إرتطامها بالأرض، ولكن الدراسات أثبتت أن الصخور الجليدية لا تحتوي على النوع الصحيح من المياة التي بإمكانها جعل تلك الصخور مسئولة عن إنتقال المياة للأرض، وبالتالي، توجهت الدراسات حديثًا إلى أجرام تعرف بكويكبات الحزام الرئيسي (Main-Belt Asteroids)، وهم الجيران الصخرية والجليدية لسيريس.
طبقًا لبيان من كريستوفر راسيل، الباحث الرئيسي فى مهمة مسبار ناسا الفضائي (داون-Dawn) وعالم الكواكب بجامعة كاليفورنيا:

إن كانت فقط القليل من الأجرام الشبيهة بسيريس إرتمطت بالأرض، فبإمكاننا تفسير من أين أتت المياة إلينا.

في السادس من مارس عام 2015، أصبح مسبار داون أول مسبار يدور في مدار فلكي لأكثر من جسم فضائي واحد، فبعد مفارقة الكويكب ڤيستا (Vesta) سافر مسبارنا إلى سيريس الذي بدا كعالم جليدي يختلف عن كل ما حوله، وبالرغم من أننا مازلنا لا نعرف الكثير عن سيريس إلا أن ما نعرفه بالفعل كفيل بجعله مثيرًا للإهتمام.

الأغلبية العظمى من سطح سيريس تظهر بلون رمادي باهت وهي غنية بمادة معينة تسمى بالكربون الغرافيتي التي تُعَد مادة لم تتطور لتكون الجرافيت الأصلى، ولكنها قريبة.
بإقتراب داون من سطح سيريس، بدأت بقعة ساطعة بأن تصبح أكثر وضوحًا على سطح الكوكب، ومع المزيد من المعيانة اتضح وجود أكثر من 130 بقعة مختلفة في درجة السطوع، أغلبها متعلق بوجود فوهات على سطح الكوكب. وبالتالي الآن أصبح لدينا السطح الرمادي الباهت الذي يظهر عاكسًا كسطح من الأسفلت المصبوب حديثًا، والبقع الساطعة التي يتراوح لمعانها بين اللمعان الطفيف للأسمنت إلى البريق الخلاب للأسطح الثلجية الموجودة على سطح الأرض.
تقع أكثر المناطق لمعانًا في إحدي الفوهات الموجودة على سطحه تعرف بفوهة أوكاتور (Occator Crater) حيث تحتوي على العديد من التجمعات المشهورة لتلك البقع الساطعة.

ما تلك البقع على سطح سيريس ولم هي ساطعة في الأصل؟

أحد التخمينات الأولية بالنسبة لتلك البقع تضمن إحتمالية وجود براكين جليدية على سطح سيريس، ولكن إتضح أنه لا يوجد إلا جبل وحيد يرتفع من سطح الكوكب بطول 6437 متر وبشكل يشبه شكل الأهرامات، ومن الجدير بالذكر أن وجود هذا الجبل في هذه المنطقة بالتحديد محيرٌ بعض الشيء حيث لم يستطع العلماء العثور على أي دليل لنشاط بركاني أو حدث جيولوجي يفسر تكونه الي الآن.
حسنًا، إذا فالبقع ليست براكين جليدية، فلندعنا من التخمين إذا وننظر إلى بعض الدراسات علَّنا نجد إجابة.
قامت دراسة على تلك البقع بالكشف عن علامات لكبريتات الماغنسيوم المائية، وهي نفس المادة المكونة للملح الإنكليزي (Epsom Salt) الذي يستخدم لبعض الأغراض العلاجية على الأرض، وبالمزيد من الفحوصات تبين وجود علامات كيميائية لوجود ملح كربونات الصوديوم متكونًا من الكربون، في الأرض كما تعلم عادة ما يبقى الملح مترسبًا مع تبخر المياة، فربما يُعَد هذا دليلًا على تكون هذه الأملاح في ظروف رطبة تحت قشرة الكوكب، وبم أن أغلب هذه البقع اللامعة مرتبط بوجود الفوهات على السطح، فقد يكون تكونها ناتجًا عن الإصطدامات بالأجسام الفضائية، إذا فعلى الأرجح أن تلك البقع معظم تكوينها هو كربونات الصوديوم، يشير هذا إلى أن الأملاح ربما تنتقل وتظهر على سطح الفوهات بطريقة ما..

سيريس قاتمًا ورماديًا

سيريس قد يبدو قاتمًا ورماديًا، ولكن يُحتمل أنه لم يكن دائمًا كذلك، يظن العلماء أن سيريس احتوى على محيط من المياه السائلة في الماضي، باستخدام داون لكتلة الكوكب القزم لتفصيل حقل الجاذبية الخاص به، بالإضافة إلى ما رصده من وجود أسطح ثلجية على سطح الكوكب، تم استنتاج وجود محيط في الماضي بعد أن وُُجِدَت آثار له بداخل القشرة بالإضافة إلى طبقة طينية تحت السطح.

إن كان المحيط قد إختفى فماذا عن الآن؟

الآن يحتوي سيريس على كمية مياة سائلة تُقَدَّرُ بربع وزنه تقريبًا تتواجد بداخل القشرة، أي يحتوي على مياه عذبة أكثر من الموجودة على الأرض. استنتج العلماء هذا بقياس كثافته وهي 2,09 جم/سم3 بينما كثافة كوكبنا 5,52 جم/سم3.

إذا فالكوكب يتكون من قشرة خارجية ترابية رفيعة مكونة من الصخور ونواة داخلية صخرية في المركز، بينهما تقع الطبقة المائية والجليدية كوشاح للكوكب القزم.

أظهر الرصد الطيفي للكوكب أن السطح يحتوي على طين غني بالحديد، وكذلك تم إيجاد علامات دالة على وجود الكربونات مما جعل سيريس أحد ثلاث أجرام معروفة إلى الآن في النظام الشمسي تحتوي على كربونات وبجانبه الأرض والمريخ. تتكون الكربونات من عملية تتضمن الماء والحرارة، وهي تعد مؤشرًا جيدًا على إحتمالية وجود حياة بالإضافة إلى بعض العمليات التي تحدث تغيرات كيميائية بالداخل متضمنة الحدثين التاليين..
تقوم الأملاح بخفض درجة التجمد في المياة الواقعة بداخل القشرة جاعلة تجمدها أبطأ من تجمد المياه النقية.
حين يصطدم جسم خارجي بسيريس لابد وأنه يقوم بتكسير قطعة من القشرة مسببًا في إقتراب الجليد الباطني من السطح وتعرضه لأشعة الشمس، حينئذ يتحول ذلك الجليد إلى غاز في عملية تعرف بالتَصَعُّد (Sublimation).

عام 2014 قام مرصد هيرشل الفضائي بوكالة الفضاء الأوروبية برصد أعمدة من بخار الماء تتصاعد من سطح سيريس بمعدل 6 كيلوجرامات في الثانية الواحدة، وكان هذا أول كشف واضح لا شك فيه لوجود المياه ليس على سيريس فقط بل في حزام الكويكبات بأكمله.

ولكن داون في البداية قد كشف لنا أنه ليس جميع المياه مختبئة بداخل القشرة حيث رصد وجود بقع جليدية تتزايد في الحجم على السطح كما وجد فريقان بالمعهد الوطني الإيطالي للفيزياء الفلكية بقعة نامية من الجليد على إحدي الفوهات المسماه بفوهة چولينج (Juling)، وأيضًا تغيرات في التربة مما قد يعد دليلًا على أثر الكربونات.

قد يكون هذا دليلًا على أن العمليات المذكورة السابقة تحدث بالفعل في فوهة چولينج، حيث توفر هذه البقع تعويضًا للمياة المفقودة بالتصعد تحت التربة. إذا فالمياه بالتأكيد موجودة على سطح سيريس بل وإنها تحدث تغيرات جيولوجية ومعدنية على السطح.

من الجدير بالذكر أن تلك البقع قد تتغير بمرور آلاف السنين حيث أن سيريس يميل بالنسبة إلى مدارة من درجتين إلى حوالي 20 درجة على مدار 24 الف و 500 سنة، حين نتحدث فلكيًا فهذا وقت قصير جدًا نسبيًا، هذا قد يُحدِث تأرجحًا بالنسبة لأي الفوهات سوف تستطيع الاستمرار في إحتوائها على المياه تحت سطحها على المدار الطويل.
في اللحظة الحالية، ميل سيريس يقترب من حده الأدنى وبالتالي مساحات كبيرة من اليابسة الموجودة حول القطبين لا يتلقى أشعة الشمس بشكل مباشر، أما منذ حوالي 14 ألف عامًا، كان ميل سيريس عند حده الأقصى وبالتالي انكمشت تلك المساحات تاركة مساحة صغيرة استطاع فيها الماء أن يكمل وجوده خلال تلك المرحلة الانتقالية.

إلى الآن علمنا أن سيريس يحتوي على المياة والجليد والأملاح والكربونات بالإضافة إلى معادن مائية تحتوي على الأمونيا. ماذا يتبقى بعد؟

المواد العضوية على سطح سيريس

إكتشف داون مواد عضوية بالفعل في بعض المناطق على سطح الكوكب القزم، وحصل على معلومات أدت إلى إقتراح أن تلك المواد العضوية محلية الأصل وغالبًا ما تم إنتقالها إلى السطح من باطن الكوكب.

إذا أضفنا معلومة عن كوكبنا القزم فهي أنه يحتوي أيضًا على المكونات الرئيسية اللازمة لتواجد حياة.

المصدر

http://sc.egyres.com/NM4Io


ترجمة: كريم خالد
مراجعة: آية غانم
تحرير: زياد الشامي

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي