في عام 1893، قرر المؤلف السير آرثر كونان دويل أن يُلقي شارلوك هولمز من أعلى الجرف. كان يقع هذا الجرف الخيالي في سويسرا، على شلالات رايخنباخ. ولكن كان كونان دويل يجلس في منزله عندما قرر القيام بهذه الجريمة، هناك حيث كتب: «ها أنا أتناول قلمي بقلب يعتصره الأسى لأدون هذه الكلمات الأخيرة عن المواهب المميزة التي انفرد بها صديقي السيد شارلوك هولمز»، كما جاء على لسان الدكتور واتسون -صديق ومساعد شارلوك هولمز- في قصته «المشكلة الأخيرة»، والتي نُشرت في مجلة ستراند (The Strand magazine) في ديسمبر من العام 1893.
ربما اعتقد كونان دويل عندما قرر إنهاء قصص شارلوك هولمز أن هذه هي نهاية الأمر. ولكن باعتقاده هذا، لم يفهم ما يفكر به المعجبون -خاصةً معجبي هولمز- جيدًا؛ فجاء رد الفعل العام على وفاة شارلوك هولمز كما لم نراه سابقًا في أي أحداث رواية أو قصة خيالية. فألغى ما يزيد عن عشرين ألف قارئ اشتراكهم في مجلة ستراند، غضبًا من مقتل هولمز السابق لأوانه. وبالكاد نجت المجلة من إعلان إفلاسها للأبد، حتى أن موظفيها أشاروا لموت شارلوك هولمز على أنه «الحدث المروع».
شارلوك هولمز وآخرون
إن عقلي مثل محرك يعمل بقوة، فيتحطم ذاتيًا إلى قطع إذا لم يعمل لما صُنع لأجله
شارلوك هولمز هو شخصية خيالية ابتكرها الكاتب الاسكتلندي السير آرثر كونان دويل. أول نموذج للمحقق الحديث الذي يمتلك عبقرية لا مثيل لها؛ ظهرت شخصية شارلوك هولمز أول مرة في رواية «دراسة في اللون القرمزي» عام 1887. وباعتباره «المحقق الاستشاري» الأول والأوحد في العالم، فقد قام بملاحقة المجرمين في جميع أنحاء لندن الفيكتورية والإدواردية، وجنوب إنجلترا، وقارة أوروبا.
وعلى الرغم من أن فكرة المحقق الجنائي توقعها أولًا الكاتب الأمريكي «إدجار آلان بو» في شخصيته «أوجست دوبين»، والكاتب الفرنسي «إميل جابوريو» في شخصيته «السيد لوكوك»، إلا أن شارلوك هولمز ترك أثرًا فريدًا من نوعه في الخيال الجمعي، وكان الشخصية الخالدة في الأدب البوليسي.
صاغ كونان دويل أساليب هولمز وسلوكياته على غرار أساليب دكتور جوزيف بيل، والذي كان أستاذه في كلية الطب بجامعة أدنبرة. إذ كانت قدرة هولمز الخارقة على جمع الأدلة استنادًا إلى مهاراته العظيمة في المراقبة والتفكير الاستنباطي، موازيةً لطريقة الدكتور بيل في تشخيص الأمراض المختلفة. ليقدم شارلوك هولمز بعض الرؤى لأسلوبه الفريد، قائلًا: «عندما تستبعد المستحيل، يجب أن يكون كل ما تبقى -مهما كان غير محتمل- هو الحقيقة». وأصبحت قدراته العظيمة كمحقق جنائي واضحة للغاية، بالرغم أنها لم تكن أقل روعة عندما يصفها ويشرحها رفيق دربه الدكتور واتسون، والذي يسرد القضايا الجنائية التي يلاحقها بالاشتراك مع هولمز.
وتصف رواية الدكتور واتسون أن هولمز شخص متقلب المزاج ومعقد جدًا، وهو شخص غير منظم للغاية. وتُعنى السيدة هدسون مدبرة المنزل بنظافة البيت الذي يسكنه، والكائن بشارع بيكر (رقم 221 ب). وكما نعرف فإن هولمز يتعرض لنوبات من الهوس والاكتئاب، يصاحبها تدخين الغليون، والعزف على الكمان، وتعاطي الكوكايين.
وخلال الأربع روايات والستة وخمسون قصة قصيرة التي قدمت شارلوك هولمز كان هناك عددًا من الشخصيات التي يتكرر ظهورها، بما في ذلك مفتش سكوتلاند يارد المتلعثم ليستراد. ومجموعة الأطفال المتشردين الذين عُرفوا باسم جنود شارع بيكر غير النظاميين، ويستعين بهم هولمز كمخبرين أثناء حل قضاياه. وشقيقه الأكثر حكمة ولكن أقل طموحًا مايكروفت. وعلاوة على ذلك، أبرز شخصية، عدوه اللدود، البروفسور جيمس موريارتي، الذي يعتبره هولمز «نابليون الجريمة». (1)
العبء الذي مثله شارلوك هولمز
ظهرت شخصية شارلوك هولمز أول مرة في الرواية القصيرة «دراسة في اللون القرمزي» عام 1887.
كان مشهورًا منذ البداية، تلك الشهرة التي جعلت كونان دويل يندم على ابتكاره من الأساس؛ إذ طغت الشخصية على ما اعتبره دويل أعماله الهامة التي تمتاز بالجدية مثل روايته التاريخية «ميكا كلارك» عام 1888. وتزاحم القراء على أكشاك الصحف، بانتظار مجلة ستراند في يوم النشر، كلما نُشرت بها قصة جديدة لشارلوك هولمز. وبسبب هولمز، كان كونان دويل، كما كتب أحد المؤخرين: «يتمتع بذات شهرة الملكة فيكتوريا». وبدا أن الطلب على قصص هولمز لا نهاية له، وستدفع المجلة لكونان دويل بسخاء، ليكتب لهم قدر ما استطاع.
ولد آرثر كونان دويل في اسكتلندا في عام 1859، وقد حاز على شهادة الطب من جامعة أدنبرة، والتحق بمستشفى ميداني بأفريقيا، واستمر في مزاولة المهنة لدى عودته للبلاد مرة أخرى. وكان يعاني دائمًا من الضائقة المالية؛ منذ كان طالبًا كتب بعض القصص ليحسن من دخله. وشملت أعماله على عدد من المواضيع، من المومياوات، إلى النباتات التي تأكل البشر.
ولبعض الوقت، حافظ دويل على الاتزان بين المهنتين. جذبتا أول روايتان عن هولمز، «دراسة في اللون القرمزي» و«علامة الأربعة»، بعض الاهتمام ولكن ليس بما يكفي بالنسبة له للتخلي عن مهنة الطب. ومع ذلك، لم ينوي قضاء بقية حياته في اختراع وحل الجرائم الخيالية. فكان كل ما ينويه كسب بعض المال لدعم فنه الحقيقي؛ روايات مليئة بما راوده من أفكار هامة وبيانات سياسية.
في الواقع، رأي أن هذه القصص ليست سوى مجرد أعمالًا هابطة تجارية فحسب. واعتبر أن روايته التاريخية «الشركة البيضاء» عام 1890، التي تدور أحداثها في القرن الرابع عشر، هي أفضل إنجاز له.
وفي بدايات عام 1890، نقل دويل شخصية شارلوك هولمز من الروايات إلى القصص القصيرة، وهو ما كان قرارًا تجاريًا؛ فقد كان عدد المجلات في لندن في ازدهار دائم. إذ اعتقد دويل أن القصص ذات الشخصيات المتكررة ستتفوق على الروايات المتسلسة، والتي أطفأت حماس القراء خاصةً من فاتهم التتابع. وعلاوة على ذلك، كانت هذه الألغاز تناسب أكثر القصص القصيرة.
حققت القصص نجاحًا فوريًا ومذهلًا للغاية؛ فاصطف القراء على الأكشاك بانتظار كل حلقة جديدة. ولمدة عامين، كرّس دويل نفسه لبطله العبقري، ليتقاضى الأموال أعلى من أي وقت مضى نظير مجهوداته. ورغم ذلك، سرعان ما شكلت المواعيد القاسية لتسليم القصص عبئًا عليه، وعلى الرغم من أن كل قصة يمكن قراءتها في جلسة واحدة، تذمر دويل من أن الحبكات المعقدة تتطلب العمل الذهني الذي تتطلبه الروايات. كما استمر في اعتقاده أنها ليست من أفضل إنجازاته. (2)
شارلوك هولمز: من الموت إلى الخلود
يا صديقي العزيز، إن الحياة -وبشكل غير محدود- أكثر غرابة من أي شيء قد يختلقه عقل الإنسان
بحلول عام 1893، عندما كان كونان دويل يبلغ من العمر 34 عامًا، قرر أن يقتل شارلوك هولمز، «حتى لو دفنت حسابي البنكي معه» كما كتب في سيرته الذاتية. وأعد المشهد في شلالات رايخنباخ، وهي إحدى شلالات جبال الألب بسويسرا. توسل إليه محررو المجلة، ولكنه شعر بالراحة فحسب، قائلًا: «لقد أُلقي باللوم علي لأني قتلت الرجل، لكني لا أعتقد أن ذلك يعد قتلًا، هو قتل مبرر للدفاع عن النفس، لأني لو لم أقتله، لكان قد قتلني بالتأكيد».
لذلك، جعل البروفيسور الشرير موريارتي يدفع هولمز أسفل الشلالات. لكن جاء رد الفعل مفاجئًا للغاية، احتج القراء بشدة على إنهاء حياة شارلوك هولمز مبكرًا؛ ارتدى الرجال شارات الحداد السوداء، أصاب العائلة الملكية الإنجليزية الذهول، وأكثر من عشرين ألف قارئ ألغوا اشتراكهم لمجلة ستراند التي كان يظهر هولمز على صفحاتها.
استغرق الأمر ثماني أعوام، وبحلول العام 1901، ازداد الضغط الشعبي بصورة هائلة؛ مما جعل كونان دويل يكتب قصة جديدة بعنوان «كلاب باسكرفيل»، تتضمن هولمز ولكن تدور أحداثها قبل موته. ولكن في العام 1903، قرر دويل الذهاب لأبعد من ذلك، وبعث هولمز من بين الأموات من جديد، مفسرًا ذلك بأن موريارتى هو من مات في السقوط بينما تمكن هولمز من تزييف موته. وعادت البهجة للقراء مرة أخرى. (3)
وبعبارة أخرى، يمكن القول أن دفع شارلوك هولمز من فوق الجرف لم يمتلك أدنى فرصة لقتله؛ لأنه سوف يعود دائمًا، في هذه الحياة وفي الحياة القادمة. وسيحظى بالخلود، مدام هناك من يقرأ قصصه، حتى بعد أن مات مؤلفه.
إعداد: محمد يوسف
المصادر:
- Sherlock Holmes | Description, Stories, & Facts [Internet]. Encyclopedia Britannica. [Cited 2018 Nov 13]. Available from: https://www.britannica.com/topic/Sherlock-Holmes
- Miller JJ. The Burden of Holmes. Wall Street Journal [Internet]. 2009 Dec 23 [Cited 2018 Nov 13]; Available from: http://www.wsj.com/articles/SB10001424052748704240504574585840677394758
- The Death of Sherlock Holmes | Conan Doyle Info [Internet]. [Cited 2018 Nov 13]. Available from: https://www.conandoyleinfo.com/sherlock-holmes/the-death-of-sherlock-holmes