طوق الحمامة ونفحات من الحب والحزن والجوى

006

|

كيف لكلمة من حرفين أن تعجز أبجدية كاملة عن التعبير عنها، بل كيف للأدباء والشعراء وأصحاب الكلمة والفلسفة أن تقيدهم حدود اللغة والحروف فلا يصفون منها إلا النزر اليسير الذي لا يسمن ولا يغني من جوع!

تحمل كلمة (الحُب) ما تحمل من أسرار، وتجلب ما تجلب من أفراح وأتراح، فما أن يُصاب الإنسان بالحب، إلا وتتغير حاله، وتتبدل شؤونه؛ فالحب يفعل ما يفعل في الإنسان لما له من أسرار وأعراض.

حتى كان من أمر الكتاب الذي أُرسل إلى «ابن حزم» -الإمام البحر ذو الفنون والمعارف- من صديقه الذي كُلِّف فيه أن يصنف رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وأن يغوص في بحار هذا السر الذي خُلِق مع الإنسان، فيُخرِج لنا أصوله، ويُعرفنا على أعراضه ونواحيه، وصفاته المحمودة والمذمومة، وكذلك الآفات التي تدخل على الحب وتلازمه، موردًا فيها من أخبار السابقين وأحاديث الثقات من أهل زمانه، مسميًا من لا ضرر في تسميته، دون إشهار لمن لا يجوز كشف هويته وقد كان.

ومن السذاجة أن نظن بأن الحافز لذلك كان حافزًا واحدًا بسيطًا، وأن امرءًا (فقيهًا) يكتب رسالة في الحب وهو يستشعر: «نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطات، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع كاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر وانتظار الأقدار»، إن إمرءًا على هذه الحال إنما اندفع إلى ذلك بتوجيه حافز بسيط بل أقدر أنه قد وجد ولابد حوافز أخرى لكتابة هذه الرسالة، وما كانت تسلية الصديق إلا انقداح الشرارة الأولى، التي بعثت الماضي كله حيًا في نفسه.

وفجأة انتقل الأمر من تسلية الصديق إلى تعزية النفس، فابن حزم الذي كان في حاضره حينئذ يفكر في صيانة الأهل والولد  وفي الحصول على الرزق له ولهم، كان يريحه أن يعود إلى الماضي، لأنه لا يمثل الحب وحسب، بل يمثل المجد والجاه والغنى والراحة والحياة الرغيدة ولهو أيام الطلب، ولذة المحادثة مع الأخوان  قبل أن يغيرهم الزمان  ؛ لقد تركته تجاربه الكثيرة بين علو وانحدار يحس بوطأة العمر رغم أنه لم يقطع من حبل العمر إلا نصفه، أصبح «شيخًا» في إحساسه، فهو يريد أن يصرف عنه هذا الإحساس؛ وكان شاعرًا وجدانيًا، وهو ذا يتحول متكلمًا عقلانيًا، فهو يريد أن يخلد شعر فترة الشباب والصبا في كتاب، وهو قد عرف الناس وخبر نفسياتهم، وأدرك مدى سيطرة الحب على نفوسهم، فليس هو وصديقه اثنين من أولئك الناس وحسب، يرضيهما أن يكونا في انسجام مع نماذج عديدة تعرضت لما تعرضا له، بل إن ابن حزم ينفرد عن صديقه ثم عن سائر الناس بأنه يستطيع أن يستوعب تلك التجارب، وأن يخضعها للدراسة والتحليل، ليتجاوز بها تسلية صديقه، وتعزية ذاته، فتصبح رصدًا لحركات النفوس وطبيعة العلاقت العاطفية والاجتماعية. (1)

فاحتوت الرسالة على مجموعة من أخبار وأشعار وقصص المحبين، وتناول عاطفة الحب الإنسانية بالبحث والدرس وشيء من التحليل النفسي. حتى قيل عنها أنها أدق ما كتب العرب في دراسة الحب ومظاهره وأسبابه. وترجم الكتاب إلى العديد من اللغات العالمية.

مخطوطة طوق الحمامة

سلكت مطبوعة «طوق الحمامة» طريقًا طويلًا حتى وصلت إلينا في نسختها الحالية، وتعاقب على نسخها وتحليلها وتصحيحها العديد من المستشرقين، الذين كان لهم الفضل الأكبر في إيصالها لنا.. ففي نهاية النصف الأول من القرن السابع عشر، قام السفير الهولندي المستشرق (فون وارنر-  Von Werner) بدراسة المخطوطات العربية خلال فترة انتدابه سفيرًا في الآستانة، ومن محاسن الصدف أنه اشترى ألف مخطوط من (حاجي خليفة) الذي كان يملك واحدة من أكبر مكتبات الآستانة، وكان من بين هذه المخطوطات مخطوطة «طوق الحمامة»، الذي قُدر له أن يستقر في مكتبة ليدن/هولندا، لمدة 175 عامًا، إلى أن جاء مطلع القرن التاسع عشر، حيث قام المستشرق الهولندي (رينهارت  – Reinhart) بإصدار أول طبعة لفهرس المخطوطات العربية في جامعة ليدن، عَرَف العالم من خلالها على مخطوطة «طوق الحمامة»، ودام الحال إلى أن قام المستشرق الروسي الشاب (د. ك. بتروف – DK Petrov) بنشر النص العربي لطوق الحمامة كاملًا، في سلسلة كتب كانت تصدرها كلية الآداب في جامعة بطرسبرغ. وطبع في مطبعة بريل العربية في ليدن عام 1914. وبعد سبعة عشر عامًا قام السيد (محمد ياسين عرفة)، صاحب مكتبة عرفة في دمشق، بطبع النص العربي ثانية عام 1930، ولم يجر تغييرًا كبيرًا عن نسخة بتروف، إلى أن صدرت الطبعة الثالثة عام 1949 على يد المستشرق الفرنسي (ليون برشيه –  Leon Bercher) في الجزائر، وبعدها بعام أي عام 1950 قام الأستاذ (حسن كامل الصيرفي) بطباعة النسخة الرابعة للكتاب في القاهرة. لكن هذه الطبعة جاءت أسوأ مما صدر من طبعات، لجهل الصيرفي بتاريخ الأندلس وحضارتها. ومن ثم تقدم (د. الطاهر أحمد مكي)  بضبط نص الكتاب وتحرير هوامشه، في طبعة صدرت عن دار المعارف المصرية في العام 1975.. (2)

سبب تسمية الرسالة

 سمى ابن حزم رسالته «طوق الحمامة»، فلماذا يا ترى اختار هذا الاسم؟

يقول (الثعالبي): «طوق الحمامة يضرب مثلًا لما يلزم ولا يبرح ويقيم ويستديم (3)»، ترى هل هذا هو المعنى الذي أراده ابن حزم حين اختار هذه التسمية؟  دعوني أقرر أنها فريدة، بادئ ذي بدء، ولكن من درس أحوال الحب في الكتاب يجد أن معنى «الدوام» ليس من الأمور التي تلازم الحب، لا من حيث النظرية ولا من حيث التجربة، غير أن هذا لا ينفي أن الطوق للحمامة زينة منحتها بدعاء نوح، حين أرسلها لتستكشف المدى الذي سترسو عنده سفينته، فطوق الحمامة هنا كناية عن استلهام الجمال الذي هو مثار الحب اعني جمال الطوق لأنه حلية متميزة عن سائر لون الحمامة.

ولست أستطيع هنا أن أتحدث عن «الحمائم» التي تقود مركبة فينوس – ربة الحب – في الأساطير الرومانية، فربما كان التوجه إلى هذا المعنى إيغالًا في التصور، ونقلًا من حضارة إلى حضارة أخرى، ولست كذلك أتوجه إلى أفانين الحب التي يمارسها الحمام، والتي يرى الجاحظ – أو من نقل عنه – أنها هي عين الممارسات التي توجد لدى الإنسان ، كأنما هي صورة طبق الأصل من شتى المواقف من إخلاص وغيرة وشذوذ وتضحية وما إلى ذلك من فنون، ولكني حين أجدني أصل إلى الحيرة في سر هذه التسمية، أتوقف عند الجمال والتميز، وكأني بابن حزم يقول: هذا كتاب يتحدث عن العلاقة السرية بين الجمال والحب أو هذا الكتاب بين الكتب كطوق الحمامة بالنسبة للحمامة؛ وعند هذا الحد أجد الثعالبي يقول أن الحمامة إنما أعطيت طوقها» من حسن الدلالة والطاعة»، فأضيف إلى الجمال والتميز عنصر «الطاعة» وهو عنصر هام في مفهوم الحب. (4)

ومع أن ابن حزم يقول في رسالته:

«وكلفتني أعزك الله ان أصنف لك رسالة في صفة الحب وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة»

فعن العنوان الذي اختاره لرسالته هو «في الألفة والألاف»، يعني أنه تجاوز في رسالته ما كلفه به صديقه لأن «الألفة» كلمة أعم من «الحب» وهي ناظرة إلى الحديث الشريف في الأرواح: «فما توافق منها ائتلف». وبسبب هذه العمومية نجده أحيانًا يخرج في أمثلته. التي يوردها من دائرة العشق، وذلك شيء سأتحدث عنه عند الحديث عن العلاقة بين نظريته في الحب، وتطبيقه لتلك النظرية. (5)

لقد عرض ابن حزم نظريته الفلسفية عن الحب في ثلاثين بابًا مع ملاحظات دقيقة، وفكر محلق، يغزو ويشد على الدوام اهتمام من يطل بين صفحاته. منها في أصول الحب، وفي أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة، والآفات الداخلة على الحب، وباب في قبح المعصية والباب الأخير في فضل التعفف.

الحب ليس بمنكر في الدين ولا بمحظور في الشريعة

«الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جِدّ. دقَّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكَر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل..» (6)

بهذه الفقرة استهل  الإمام ابن حزم الأندلسي رسالته متحدثًا عن ماهية الحب، ذاكرًا من أخبار كبار الأندلسيين، فاستكمل قائلًا:

«وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبد الرحمن بن معاوية لدعجاء، والحكم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم وشغفه بطروب أم عبد الله ابنه أشهر من الشمس، ومحمد بن عبد الرحمن وأمره مع غزلان أم بنيه عثمان والقاسم والمطرف معلوم، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هاشم المؤيد بالله رضي الله عنه وعن جميعهم»

والحب عند ابن حزم اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة، فالنفوس المتماثلة تتصل وتتوائم، أما النفوس المتنافرة فتتباعد. والمحبة متعددة: فمنها محبة القرابة ومحبة الألفة ومحبة المصاحبة ومحبة البر ومحبة الطمع في جاه المحبوب  ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه لستره ومحبة بلوغ اللذة ومحبة العشق وأفضلها محبة المتحابين في الله. وكل ضروب المحبة تنقضي بانقضاء عللها، إلا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس، فهي لا فناء لها بالموت. والإنسان بطبعه يقع في حب الصورة الحسنة للوهلة الأولى، وإذا لم يتجاوز هذا الحب الصورة الحسنة سمي بالشهوة. وقد شبه الحب بالداء، والدواء منه على قدر المعاملة  لا يود المصاب به الشفاء.

«والحب –أعزك الله- داء عَيَاء، وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقامٌ مستلذ، وعلةٌ مشتهاة، لا يودُّ سليمُها البرءَ، ولا يتمنَّى عليلُها الإفاقة، يُزين للمرء ما كان يأنف منه، ويُسهّل عليه ما كان يصعُب عنده، حتى يُحيل الطبائع المركبة والجِبِلَّة المخلوقة.» (6)

وللحب علامات

 إدمان النظر إلى المحبوب وملاحقته أينما حلّ، والانذهال عند رؤيته فجأة، واضطراب المحب لدى ورود ذكر المحبوب والإقبال بالحديث عبر الاستماع إليه، وتصديقه حتى ولو كذب، ودعم أقواله حتى ولو جار على الآخرين، ومحاولة لمسه، وعدم الرغبة في مغادرة المكان المتواجد فيه، وفي هذا يقول:

فَلَيْسَ لِعَيْنِي عِنْدَ غَيْرِكَ مَوْقِفٌ     كَأَنَّكَ مَا يَحْكُونَ مِنْ حَجَرِ البَهْتِ
أُصَرِّفُهَا حَيْثُ انْصَرَفتَ وَكَيْفَمَا    تَقَلَّبْتَ كَالمَنْعُوتِ فِي النَّحْوِ وَالنَّعْتِ

ويقول أيضًا:

وَإِذَا قُمْتُ عَنْكَ لَمْ أُمْشِ إِلُّا       مَشْيَ عَانٍ يُقَادُ نَحْوَ الفَنَاءِ
فِي مَجِيئِيء إِلَيْكَ أَحْتَثُّ كَالبَدْ       رِ إِذَا كَانَ قَاطِعاً لِلسَّمَاءِ
وَقِيَامِي إِنْ قُمْتَ كَالأَنْجُمِ العَا        لِيَةِ الثَّابِتَاتِ فِي الإِبْطَاءِ

كل هذه العلامات قبل استعار الحب، أما عندما يتمكن الحب من الإنسان فعندها ترى الحديث همسًا، والإعراض جهارًا عن كل الناس عدا المحبوب ومن علاماته الانبساط الزائد، وكثرة الغمز، وتعمد ملامسة المحبوب، والاتكاء عليه، وشرب فضلة ما أبقى من إناء شرابه.

ثالث أبواب رسالته هو باب من أحب في النوم. وهذا الباب هو من أبعد أسباب الحب، إذ يرى المحب في منامه طيف خيال ويهيم به ويذهب قلبه به ويعتريه الهم، ويشغل نفسه بوهم لا وجود له.

ورابع الأبواب هو باب من أحب بالوصف، وهو على وصفه من غريب أصول العشق، إذ يقع المحب في حب محبوبه فقط على الوصف أو لصفة ما يتمتع بها أو لسماع صوته، فيبدأ الهم والوجد، فيكون المحب كمن بنى بناء بغير أساس، إذ أن المحب يقوم بتخيل صورة معينة لمحبوبه، فإذا توافقت الصورة مع مخيلة المحب يثبت الحب، وإن حصل العكس انتهى ذلك الوهم. وحُب النساء في هذا أثبت من حُب الرجال؛ لضعفهن وسرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن، وتمكّنه منهن. وقال شعرًا في ذلك، منه:

وَيَا مَنْ لَاَمنِي فِي حُبِّ      مَنْ لَمْ يَرَهُ طَرْفِي
لَقَدْ أَفْرَطْتَ فِي وَصْفِكَ     لِي فِي الحُبِّ بِالضَّعْفِ
فَقُلْ: هَلْ تُعْرَفُ الجَنَّةُ        يَوْمًا بِسِوَى الوَصْفِ

وخامس الأبواب هو باب من أحب من نظرة واحدة، وهو عشق إنسان لا تعرف من هو أو من أين أتى، ووقوعه دليل على قلة الصبر نظرًا لسرعة الإحساس به، وهو كحال الأشياء التي تأتي بسرعة وتنتهي بسرعة، وقد تعمد ابن حزم ألا يورد في رسالته كشف الحيل وذكر المكائد في هذا الصدد لأن هذا ليس القصد من رسالته وإلا كان استرسل في كشف ما يحير اللبيب ويدهش العاقل.

وسادس الأبواب هو باب من لا يحب إلا مع المطاولة، وهو الحب الذي يتأنى صاحبه في التوغل فيه بجل مشاعره بل ويحاول في بعض الأحيان أن ينأى بنفسه عنه، إلى أن يتمكن منه الحب، وهو على هذا أشدهم لصوقًا بأكباد هذه الصفة وفور تمكنه منهم لن يحل أبدًا. وبطبيعة الحال أرباب هذا الحب لا يصدقون بوجود الحب من نظرة واحدة فهو بمثابة هزل وشهوة ونزوة عابرة، وفيها يقول:

مَحَبَّةُ صِدْقٍ لَمْ تَكُنْ بِنْتَ سَاعَة     وَلَا وَرِيَتْ حِينَ ارْتِيَادٍ زِنَادُهَا

وَلَكِنْ عَلَى مَهلٍ سَرَتْ وَتَوَلَّدَتْ     بِطُولِ امْتِزَاجٍ فَاسْتَقَرَّ عِمَادُهَا

فَلَمْ يَدْنُ مِنْهَا عَزْمُهَا وَانْتِفَاضُهَا     وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا مُكْثُهَا وَازْدِيَادُهَا

 يُؤَكِّدُ ذَا أَنَّا نَرَى كُلَّ نَشْأَةٍ        تَتِمُّ سَرِيعًا عَنْ قَرِيبٍ معادُهَا

 وَلَكِنَّنِي أَرْضٌ عزَازٌ صَليبةٌ     مَنِيعٌ إلى كُل الغُرُوسِ انْقِيَادُهَا

 فَمَا نَفِذتْ مِنْهَا لَدَيْهَا عُرُوقُهَا    فَلَيْسَتْ تُبَالِي أَنْ تَجُودَ عِهَادُهَا

وسابع الأبواب هو باب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفه، وفيه يصف الإمام كيف يصيب الحب المحب بالعمى، فيستحسن من الصفات ما لم يستحسنه من قبل فيقول:

«واعلم أعزك الله إن للحب حكمًا على النفوس، ماضيًا، وسلطانًا قاضيًا، وأمرًا لا يخالف، وحدًا لا يعصى، وملكًا لا يتعدى، وطاعة لا تصرف، ونفاذًا لا يرد، وأنه ينقض المرر، ويحل المبرم، ويحلل الجامد، ويخل الثابت، ويحل الشغاف، ويحل الممنوع.
ولقد شاهدت كثيرًا من الناس لا يهتمون في تمييزهم، ولا يخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا اختلال بحسن اختيارهم، ولا تقصير في حدسهم، قد وصفوا أحبابًا لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمستحسن عند الناس ولا يرضى في الجمال، فصارت هجيراهم، وعرضة لأهوائهم، ومنتهى استحسانهم، ثم مضى أولئك إما بسلو أو بين أو هجر أو بعض عوارض الحب، وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان عنهم تفضيلها على ما هو أفضل منها في الخليقة، ولا مالوا إلى سواها؛ بل صارت تلك الصفات المستجادة عند الناس مهجورة عندهم وساقطة لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت أعمارهم، حنينًا منهم إلى من فقدوه، وألفه لمن صحبوه».  (6)

وفي هذا الصدد قال بعض الأبيات:

يَعِيبُونَهَا عِنْدِي بِشُقْرَةِ شَعْرِهَا  فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الَّذِي زَانَهَا عِنْدِي

 يَعِيبُونَ لَوْنَ النَّورِ وَالتِّبْرِ ضِلَّةٌ  لِرَأْيِ جَهُولٍ فِي الغِوَايَةِ مُمْتَدِّ

 وَهَلْ عَابَ لَوْنَ النَّرْجِسِ الغَضِّ عَائِبٌ  وَلَوْنَ النُّجُومِ الزَّاهِراتِ عَلَى البُعْد

وثامن الأبواب هو باب التعريض بالقول، ويعمد المحبون هنا إلى كشف أحاسيسهم من خلال إنشاد الشعر، مثلًا، أو تسليط اللسان، ويستخدمون هذه الوسيلة طلبًا للوصل ولكشف مكنونات قلوبهم تجاه المحبوب، فيبدأ وإن رأى أنسًا وتسهيلًا زاد واسترسل. وقد كان الشعر الغزلي دائمًا هو رسول المحبين فتفننوا في نسج أحرفه بخيوط من الذهب مودعين فيه جل مشاعرهم المتأججة؛ فجاءت أشعارهم تحفة فنية خالصة.

أما تاسع الأبواب هو باب الإشارة بالعين، وهو يلي باب التعريض بالقول حيث تتعدد إشارات العين وتفسيراتها، والعين كما يقول تنوب عن الرسل، فبها يهدد ويوعد، يأمر وينهي، يضحك ويحزن. وأورد ابن حزم بعض من تفصيلات النظرات في هذا الباب، كالإشارات الخفية بمؤخر العين، أو قلب الحدقة وإطباقها.

وعاشر الأبواب، باب المراسلة، وتنوب الرسائل عن المحب في سرد ما يشعر به تجاه المحبوب، كما تنوب عن رؤيته، ويقول ابن حزم إن هذه الرسائل يجب أن تكون مميزة الورق لأنها تعبر عن لسان المحب، وكثيرًا ما تمتزج حروف هذه الرسائل بدموع المحب أو ريقه أو دمائه.

وقال فيه:

جَوابٌ أَتَانِي عَنْ كِتَابٍ بَعَثْتُهُ   فَسَكَنَ مُهْتَاجًا وَهَيْجَ سَاكِنًا
سَقِيتُ بِدَمْعِ العَيْنِ لَمَّا كَتَبْتَهُ    فِعَالَ مُحِبٍّ لَيْسَ فِي الوِدِّ خَائِنًا
فَمَا زَالَ مَاءُ العَيْنِ يَمْحُو سُطُورَهُ   فَيَا مَاءَ عَيْنِي قَدْ مَحَوْتَ المَحَاسِنًا
غَدَا بِدْمُوعِي أُوْلُ الحَظِ بَيْنَنا    وَأضْحَى بِدَمْعِي آخِرُ الحَظِ بَاِئنًا

 

أما الباب الحادي عشر فهو باب السفير أو باب رسول الحب والذي يجب أن يكون لبيبًا يفهم الإشارة، وأمينًا أمانة مطلقة، كونه يحمل سر المحبين الذي إذا ما فضح تم القضاء عليهما. ويختار المحبون عادة شخصًا بسيطًا أو عجوزًا لا يشك بها، أو ذا صفة تمكنه من التقرب من المحبوب كالطبيب أو المعلم أو القريب قرابة عائلية. أو ربما يكون رسول الحب حمامة!

تَخَيَّرها نُوحٌ فَمَا خَابَ ظَنُّه     لَدَيْهَا وجَاءتْ نَحَوْهُ بِالبَشَائِرِ
سَأُودِعُها كَتْبِي إليْكَ فَهاكَها     رَسائِل تُهْدى فِي قَوادِمِ طَائِرِ

والباب الثاني عشر هو باب طي السر:
يعد باب طي السر أو الكتمان من أحد صفات الحب، وفيه يتظاهر المحب بالصبر ويكبت نار الحب المتأججة في ضلوعه، ولا تظهر عواطفه إلا من خلال نظراته. قد ينجح المحب في البدء في إخفاء مشاعره، أما حين تستفحل هذه المشاعر يصبح من المستحيل إخماد ذلك السر وتنطق به نظراته ولفتاته والاهتمام بكل تفاصيل المحبوب.

وأما الباب الثالث عشر فهو باب الإذاعة:
وهو على حد رأيه ثلاثة أنواع أولها: محاولة المحب التشبه بالمحبين، ورغبته في أن يُحسب عليهم، وهذه عاطفة مزيفة وخلافة لا ترضى، وثانيها: فتكون هنا إذاعة الحب لغلبة المشاعر على المحب بحيث لا يتورع عن المجاهرة بها متغلبًا بذلك على حيائه. وثالثها: في حال رأى المحب غدرًا أو مللًا أو كراهية من محبوبه، فيعمد إلى إذاعة حبه له وذلك انتقامًا منه، وهذا وجه مرفوض للحب وفعل ساقط.

والباب الرابع عشر هو باب الطاعة:
وباب الطاعة هو من عجيب ما يقع في الحب، حيث يطيع المحب محبوبه ويغير الكثير من طباعه لتتماشى مع طبائع المحبوب، لنرى مثلًا شرس الطباع وصعب الشكيمة بعد أن تنسم عبير الحب قد تحول إلى شخص سهل المراس ويستسلم استسلامًا كاملًا للمحبوب. ويقول ابن حزم في هذا الباب:

لَيْسَ التَّذَلُّلُ فِي الهَوَى يُسْتَنْكَرُ    فَالحُبُّ فِيهِ يَخْضَعُ الُمسْتَكْبِرُ
لا تَعْجَبُوا مِنْ ذًلَّتِي فِي حَالةٍ    قَدْ ذَلَّ فِيهَا قَبْلِي المُسْتَنْصَرُ
لَيْسَ الحَبِيبُ مُمَاثِلًا وَمُكَافِياً    فَيَكُونَ صَبْرُكَ ذِلَّةٌ إِذْ تَصْبُرُ
تُفَّاحَةٌ وَقَعَتْ فَآلمَ وَقْعُهَا    هَل قَطْعُهَا مِنْكَ انْتِصَاراً يُذْكَرُ

أما الباب الخامس عشر فهو باب المخالفة:
وقد يركب المحب رأسه ويتعمد الحصول على شهوته ومسرته من محبوبه، شاء هذا الأخير أم لم يشأ، فيذهب غمه ويبلغ مراده، وهذا مرذول في الحب وهو ليس بحب بل شهوة مجردة من عاطفة الحب النبيلة.

والباب السادس عشر فهو باب العاذل:
ويعتبر هذا الباب من آفات الحب، والعذال نوعان، فأولهما صديق، رقيق بالمحبين، يعرف متى ينهي، وهو مع المحب على الحالين سواءً كان مخطئًا أو مصيبًا، وثانيهما عاذل زاجر، لا يكف عن الملامة وهذا صعب الاحتمال، وقد ترتكب أخطاءً لمجرد مخالفته أو رغبةً في العناد مع ملامته.

والباب السابع عشر من أحب الأبواب وهو باب المساعد من الإخوان:

ويقول فيه:

«ومن الأسباب المتمناة في الحب أن يهب الله عز وجل للإنسان صديقًا مخلصًا، لطيف القول، بسيط الطول. حسن المآخذ دقيق المنفذ. متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المساعفة شديد الاحتمال صابرًا على الإدلال، جم الموافقة، جميل المخالفة، مستوى المطابقة، محمود الخلائق، مكفوف البوائق، محتوم المساعدة، كارهًا للمباعدة، نبيل المدخل، مصروف الغوائل، غامض المعاني عارفًا لا لأماني، طيب الأخلاق، سري الأعراق، مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، نافذ الحس، صحيح الحدس، مضمون العون، كامل الصون، مشهور الوفاء، ظاهر الغناء، ثابت القريحة، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع، رحب الذراع، واسع الصدر، متخلقًا بالصبر، يألف الإمحاض، ولا يعرف الإعراض، يستريح إليه بلا بله، ويشاركه في خلوة فقره، ويفاوضه في مكتوماته، وإن فيه للحب لأعظم الراحات، وأين هذا، فإن ظفرت به يداك فشدهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك البخيل، وصنه بطارفك وتالدك، فمعه يكمل الأنس، وتنجلي الأحزان، ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عونًا جميلًا، ورأيًا حسنًا» (6)

وقد تعمدت كتابتها كما هي لإظهار مدى حسن بيان ابن حزم في وصف هذا المساعد، فبتلك الصفات أوضح مدى كمال هذا الصديق المخلص من لطف وأنس وطيب الأخلاق فهو كما يقول ما أن تجد هذا الصديق ظفرت براحة في الحب ليس بعدها راحة ووفاء لن تجد معه خيانة أبدًا. والنساء أقدر من الرجال في المحافظة على أسرار المحبين وخاصة العجائز منهن.

أما الباب الثامن عشر وأعيذك بالله منه هو باب الرقيب:
والرقيب من آفات الحب وأمراضه. وينقسم الرقباء إلى رقيب غير متعمد، تصادف وجوده في مكان اجتماع المحبوبين، فكان شاهدًا على حبهما، ورقيب أحس بأمرهما، وأراد تبين ذلك، فعمد إلى مراقبتهما وإحصاء أنفاسهما. ورقيب على المحبوب الذي ما يلبث أن يتحول إلى رقيب له وليس عليه بعد استرضاء المحبوب له. ورقيب ذاق الهوى ولم يرتو منه واستحال هواه سقمًا فأراد أن يذيق المحبين من مر الكأس التي شربها . والطريف في هذا الباب أن يكون المحب والرقيب على مذهب واحد في حب المحبوب فيتحول كل منهما إلى رقيب على صاحبه.

والباب التاسع عشر هو باب الواشي:
والواشي هو أحد شخصين، فواحدٌ يرغب في الفصل بين المحبين كأن يهمس في أذن المحبوب واشيًا على المحب، ويعمد إلى الوقيعة بينهم، أو هو واشٍ ليفصل بين المحبين، لينفرد بعدها بذلك المحبوب وليستأثر به.

وباب الوصل هو الباب العشرون:
باب الوصل هو وجه من وجوه العشق وأعلى درجة منه وهو رحمة من الله وفضل. وإن وصل المحبان إليه وصلا إلى الصفاء والسلام الكامل حيث تكتمل فيه الآمال والأماني، وهو فناء المحبوب في محبوبه روحيًا وقلبيًا وجسديًا. وهو منتهى الرجاء بعد طول التمني، وأحسن الوصل بعد طول التمنع. فلا رقيب ولا عاذل ولا واشٍ.

أما الباب الحادي والعشرون هو باب الهجر:
وهو من آفات الحب على أنواعه فهو إما هجر يفرضه وجود رقيب على المحبين إبعادًا للظنون وهو أحلى من كل وصل كما يقول ابن حزم، أوهجر بغرض التذلل بهدف امتحان حب كل من الطرفين، أوهجر لذنب ارتكبه المحب وهو موجع، لكن فرحة اللقاء ثانية لا تعدلها لحظة أخرى في الحياة، أوهجر لملل أحد الطرفين من الآخر، وهجر المحب لمحبوبه لدى إحساسه بجفائه أو ميله إلى شخص آخر، وأخيرًا هجر القلب وهو يذهب بالعقول وليس له دواء شاف.

والباب الثاني والعشرون هو باب الوفاء:
وهو من أهم الفضائل في الحب، وهو دلالة على طيب الأصل. وأولى مراتبه وفاء المحبين أحدهما للآخر، وهذا حق وواجب، وثاني المراتب الوفاء لمن غدر، وهذا عادة ما يقوم به المحب وهو غير ملزم للمحبوب، وثالث هذه المراتب الوفاء حتى بعد قضاء أحد المحبين والعزوف عن الحياة والزهد فيها.

الباب الثالث والعشرون هو باب الغدر:
ويعتبر من الأعمال المذمومة، إذا اتخذ المحب رسولًا بينه وبين من يحب، فإذا به يسعى لاستئثاره دون من يحب.

أما الباب الرابع والعشرون فباب البين:
سمع أحد الحكماء شخصًا يصف البين «الموت» قائلًا: الفراق أخو الموت، فرد الحكيم، بل قل إن الموت أخو الفراق.
وقد يكون الفراق لفترة زمنية محددة تشجي القلب وتؤلم صاحبها ولا يبرأ منها الإنسان إلا باللقاء، وقد يكون المحب والمحبوب في نفس الدار ولا يسمح لهما باللقاء مما يبعث على الحزن والأسى. وهناك فراق متعمد من قبل المحب خوفًا من أن يدري أحد ما بهذا الحب فيجبر الطرفان على الابتعاد.
وأخيرًا بينُ الموت، وهو أصعبها لما يصيب المحبين من حزن وألم لا يمحوه أحيانًا إلا موت صاحبه، وساعة ترق فيها القلوب القاسية ساعة انقطاع الآمال.

والباب الخامس والعشرون هو باب القنوع:
وهنا لا بد للمحب بأن يرضى بحرمانه الوصل والاكتفاء بالقليل من المحبوب كالزيارة أو المخاطبة أو الاحتفاظ بشيء من أثر المحبوب وما إلى ذلك، والقنوع بأقل القليل من المحب حتى وإن تهاديًا خصل الشعر أو المسواك بعد مضغه. بل قد يكون بالرضا برؤية من تحب كطيف خيال أو رؤية منام.

وباب الضنى هو الباب السادس والعشرون:
فبعد حالات الهجر أو الموت، يصاب المحبان بالمرض والنحول والسقم، وفي هذه الحالة الوحيد الذي يمكنه المساعدة هو الطبيب.

أما الباب السابع والعشرون فهو باب السلو:
والسلو هنا أو النسيان إما يأتي طبيعيًا وكأن الشخص لم يحب أو لم يفقد حبيبه، وربما جاء سلوًا نتيجة الملل فيوصف الشخص بأنه من ذوي الأخلاق المذمومة، لأنه لم يكن سوى طالب شهوة، وإما سلو قسري أو تطبعي، يرغم فيه الإنسان على التذرع بالصبر وإخفاء ما يعتري قلبه من حزن ولكنه يرى بعض الشر أهون من بعض.

والباب الثامن والعشرون هو باب الموت:
تقول الأمثال: «من عشق فعف فمات فهو شهيد» إذ عندما يعظم الحب إلى درجة كبيرة ويحصل الفراق ينحل صاحبه ويضعف إلى أن يموت.

أما الباب التاسع والعشرون فهو باب قبح المعصية:
وهنا يغلب لشخص شهواته على عقله. وبحسب ابن حزم فالإنسان يتمتع بطبيعتين: الأولى خيرة تغلب العقل على الشهوة، والثانية شريرة تغلب الشهوات على العقل، ويربط بين هاتين الطبيعتين الروح.

والباب الثلاثون والأخير هو باب فضل التعفف:
يمنع التعفف الإنسان عن ارتكاب المعاصي، ويغلب العقل على الشهوة. وختم به ابن حزم رسالته باعتباره مسك الختام لحديث رقيق طويل، حيث أن الحب عفة، وجميل المحبين العفيف الطاهر.

وبهذا الباب انتهى ابن حزم الأندلسي من كتابه، مقدمًا لنا آية خالصة عن الحب، واصفًا إياه بأنه استسلام غير مشروط وذوبان كامل للمحب بالمحبوب تحت وطأة العشق والوجد والوصل.

 

كتابة وإعداد: نهى عبد السميع

مراجعة: آلاء محمد مرزوق

المصادر:

(1) حنان سعادات عودة. رسائل ابن حزم, د.ت.

(2) https://bit.ly/2N5vFBG

(3) عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب. دار المعارف, د.ت.

(4) أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. الحيوان, د.ت.

(5) http://bit.ly/2OaNUBX

(6) ابن حزم الأندلسي. طوق الحمامة في الألفة والألاف. الطبعة الأولى. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة, 2016.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي