فان جوخ: المُغادِر نحو الربيع

فان-جوخ3

||||||||||||||||||||||||||||||||||

الحزنُ الكامنٌ، الثِّقة الكاملة، التمرُّد المُستمر، والفنُّ الطَّاغي.. لوحاته، رسائله، علاقته الوطيدة بأخيه. لم يعترِ بفقره، وكان يشتري من الكتب وأدوات الفن ألوانًا شتّى. كان الجمال عنوانًا لحياته، يرى الدنيا بعيون فنان، الفلسفة القوية بوجه الحياة، والتي انتهت بانتحارٍ سودويّ، اكتظَّت خطاباته بتفاصيل دقيقة عن الطبيعة.. وأخرى عن اللوحات.. كُلُّ تلك الأشياء لا يمكن إلا أن تصف شخصًا شديد الجمال، شديد الصفاء والعذوبة.. إنَّه الرسَّام، والكاتب، والمُبدع: (فينسينت فان جوخ – Vincent Van Gogh).

من ينظر إلى لوحات فان جوخ يدرك أنه أمام شخصية تتبع منهجًا مختلفًا في التفكير و التأمُّل، ففي لوحته (ليلة النجوم – The Starry Night) لم ير النجوم كما نراها نحن نقط متناثرة تشع ضوءًا، بل جعلها أكثر حيوية؛ فصوَّرها دوائر مُتداخلة و جعلَ نورها يمتد عبر تلك الدوائر. حياة فان جوخ أيضًا كانت مليئة بالغرابة والغموض، و لم تكن نهايته أقل إثارة للدهشة، حيث أطلق النار على نفسه في حقل كان قد رسم لوحة له -الحقل- قبل أيام.

أنّني أُحاولُ جاهدًا أن أكون نفسي، ولا يهمني كثيرًا هل يقبلُ الناس أم يرفضون ذلك

.Vincent van Gogh Self-Portrait with Pipe

فنسنت فان جوخ الثالث – Vincent Van Gogh

(30 مارس 1853 – 29 يوليو 1890) كان رسامًا هولنديًا، مُصنف كأحد فناني الانطباعية. تتضمن رسومه بعضًا من أكثر القطع شهرة وشعبية وأغلاها سعرًا في العالم. عانى من نوبات متكررة من المرض العقلي -توجد حولها العديد من النظريات المختلفة- وأثناء إحدى هذه الحوادث الشهيرة، قطع جزءًا من أذنه اليمنى، كان من أشهر فناني التصوير التشكيلي، اتجه للرسم التشكيلي للتعبير عن مشاعره وعاطفته، في آخر خمس سنوات من عمره رسم ما يفوق 800 لوحة زيتية.

ولد فينسنت فان جوخ في جروت زندرت بهولندا في 30 مارس/آذار 1853. جاءت ولادة فان جوخ بعد سنة واحدة من اليوم الذي ولدت فيه أمه طفلًا ميتًا بالولادة، سمي أيضًا بفينسنت. وقد كان هناك توقع كبير لحدوث صدمة نفسية لفينسنت لاحقًا كنتيجة لكونه «بديل طفل» وسيكون له أخ ميت بنفس الاسم وتاريخ الولادة.

حاول العديد من أطباء النفس المعاصرون تحديد الاضطراب النفسي الذي عانى منه فان جوخ، وقد اتفق العديد منهم على أنه عانى من عدة اضطرابات نفسية مثل الهلوسة والاكتئاب والصرع حتى أنه قام بقطع أذنه بعد أن اختلط عليه الأمر بين رأسه في اللوحة ورأسه في الحقيقة. بالإضافة لذلك يُذكر أنه عانى من انفصام الشخصية والهوس ومرض الزهري.

قد نوجد نار عظيمة في أرواحنا، لكن لا يأتي أحد ليستدفئ بها، ومن يمرون بنا لا يرون إلا خيطًا رفيعًا من الدُخان

رسالة من فِليكس رَي، الطبيب الذي كان يُعالج فان جوخ خلال وجوده في آرل، وهي توضح الجزء الذي بتره الرسام من أذنه اليسرى في ديسمبر/كانون الأول 1888.

قدرٌ، فنٌّ، وهوى

بدأ فان جوخ مسيرته الفنية في سن السابعة والعشرين، لم تكن بداية مشوار فان جوخ الفني سوى مصادفة، حيث أنه كان يحاول التخفيف عن نفسه من خلال الرسم بعدما طرده والداه من منزلهم بسبب فشله في الحصول على وظيفة.

حاول فان جوخ العمل في وظائف متعددة كبائع قطعٍ فنية ومعلم وأمين مكتبة وقسيس، ولكنه فشل وتم طرده من جميع هذه الوظائف لأسباب مختلفة.

إنني أعمل من جديد في لوحة أولئك الفلاحين الذين تجمعوا ليلًا حول وجبة من البطاطا في إحدى الأمسيات.. وطول الأيام التي كنت أعمل خلالها في لوحتي هذه كان الأمر بالنسبة لي بمثابة معركة متصلة

لوحة من أعمال فنسنت الأولى بعنوان آكلو البطاطا.

 

رسالة من فينسينت إلى أخيه ثيو يحكي له فيها عن نجاح لوحة آكلو البطاطا.

عُرف عن فان جوخ وقوعه في حب نساءٍ عديدات وإقامته لعلاقات عديدة مع بائعات الهوى. ولعل أكثر بائعات الهوى تأثيرًا في حياة فان جوخ هي «سِين»، وهي بائعة الهوى التي تعرّف عليها أثناء إقامته في هولندا. وقع فان جوخ في حب «سِين» وانتقل للعيش معها، وقام برعايتها ومعاونتها في الاعتناء بابنها الصغير.

لم يلبث فان جوخ حتى انفصل عن «سِين» وذلك بسبب الخلافات العديدة التي سببتها علاقته بها مع عائلته، واستمر فان جوخ في القيام بالعلاقات العابرة مع بائعات الهوى إلى أن مات وحيدًا.

إذا أراد الإنسان أن يُحسن صُنعًا في هذا العالم، فعليه أن يموت في سبيل رسالته؛ فالإنسان لم يوجد على الأرض ليكون سعيدًا وحسْب، ولا ليكون أمينًا ليُحقِّق للإنسانية أشياءً جليلة، ويمارس النُبل ويتجاوز السُّوقية التي يتردَّى فيها وجود جميع الناس تقريبًا

تمرُّد الألوان

أحد أهم أسباب نجاح فان جوخ هو مهارته الفذة في انتقاء ألوان لوحاته، ولكن الألوان التي انتقاها فان خوخ ليست تلك التي نراها في لوحاته الآن. السبب في ذلك يعود لاستخدام فان جوخ والعديد من الفنانين في ذلك الوقت صبغات ذات تركيبة غير مستقرة وخاصة الصبغة الصفراء، مما أدى إلى بهوت اللون مع مرور الوقت وتغيره لدرجات قريبة للون البني.

.Vincent van Gogh The Old Tower in the Fields

يظهر هذا التغير في الألوان بوضوح في لوحات فان جوخ لاستخدامه اللون الأصفر بكثرة في أغلب لوحاته.

.Sunflowers

منذ أيام وأنا أعاني من تفاقم المرض غير أنني أصارع مع المرض. قماشة لوحتي في صورة «الحاصد» التي غمرتها كلها بطلاء أصفر كثيف، ورغم بساطة المشهد إلا أنني أرى ذلك الحاصد تحت وهج حرارة الشمس كأنه شبحًا غامضًا يقاتل كالشيطان لإنجاز مهمته.. فبدا لي صورة للموت.. وبدت لي سيقان القمح التي يجمعها بمنجله كأنها بشرًا.. ولا أعرف كيف خرج هذا الحاصد الشيطاني إلى الوجود لكنه أتى على النقيض ممن أردت رسمه من قبل.. ويثيرني أن صورة الموت هذه تمضي في خطواتها الواثقة دون أي مظهر من مظاهر الحزن.. ماضية في جرأة في وضح النهار تحت ضوء الشمس الذهبي الذي يغمر الأشياء جميعا

لوحة الحاصد.

خدعوك فقالوا: جنون العظمة!

في مدة لا تتجاوز الثلاث سنوات، قام فان جوخ برسم أربعة وثلاثون لوحة لنفسه. من السهل اتهام فان جوخ بالغرور بسبب حبه لرسم نفسه، ولكن السبب الرئيسي وراء ذلك هو الفقر العاطفي والمادي الذي عانى منه فان جوخ طيلة حياته

.Vincent van Gogh: Self-Portrait
.Vincent van Gogh: Self-Portrait

ابتكر أكثر أعماله شهرة أثناء إقامته في مصحة نفسية؛ ففي عام 1888 تعرض فان جوخ لنوبة عصبية حادة لجأ بعدها لمصحة نفسية في جنوب فرنسا. استمرت فترة علاجه عدة أشهر ورسم أكثر لوحاته شهرة «ليلة النجوم» أثناء إقامته في المصحة.

بالرغم من كونها اللوحة التي جعلت من فنسنت فان جوخ اسمًا فنيًا ذا قيمة، إلا أنها لم تنل إعجابه واعتبرها أحد أعماله الفاشلة.

«لوحة الليلة النجمية – The Starry Night»

ويُقال أن لولا جهود جوانا زوجة ثيودور فان جوخ لما حظي فنسنت بهذا القدر من الشهرة في مجال الفن. ورثت جوانا بعد وفاة فنسنت وثيودور فان جوخ العديد من اللوحات التي رسمها فنسنت، وأخذت على عاتقها مهمة نشر أعمال فنسنت للمتاحف المختلفة حول أوروبا.

كما قامت بنشر الرسائل التي كتبها فنسنت لأخيه ثيودور كأعمال أدبية منفصلة بهدف نشر سيرته الذاتية.

بعد وفاة جوانا، قام ابنها فنسنت فان جوخ الرابع بتأسيس متحف فان جوخ في أمستردام عام 1973 وتم نقل جميع أعمال فنسنت إلى متحفه الرسمي.

لم يكن لفان جوخ أي أصدقاء ليقوم برسمهم، ولا المال الكافي لتأجير العارضات المحترفات التي يأجرهن الفنانون لرسمهن.

وعند تحليل القصص التي سردها أفراد عائلته عنه يمكن القول إنه عانى من درجة من درجات التوحد أيضًا. وصفت أخت فان جوخ المسماة اليزابث فان جوخ أخاها في طفولته بأنه كان شديد العزلة وجديّ للغاية، وكان يتميز بمشية خرقاء ويتجنب النظر في أعين الآخرين.

فإذا كنا متعبين، أليس ذلك بسبب أننا سِرنا مسافات طويلة؟ وإذا كان صحيحًا أن المرء أمامه معركته التي يجب عليه أن يخوضها على الأرض إذن أليس الشعور بالإنهاك والاحتراق في الرأس دلائل على أننا مازلنا نقاوم؟

تُظهر لوحة «جذور الشجرة» لفان جوخ تكوينًا معقدًا يرتسم على كامل مساحتها، دون وجود أي نقطة بعينها، تستحوذ على تركيز الناظر إليها.
تُظهر لوحة «جذور الشجرة» لفان جوخ تكوينًا معقدًا يرتسم على كامل مساحتها، دون وجود أي نقطة بعينها، تستحوذ على تركيز الناظر إليها.
لوحة «حقل القمح والغربان»، التي تعود إلى يوليو/تموز 1890، تظهر نفس الأسلوب القلق والمضطرب، ولكن الأجواء فيها تبدو أكثر قتامة.
لوحة الحقل.
لوحة الراحة من العمل.

رسائل فينسينت الكاتب

فان جوخ «الكاتب» في هذه الرسائل لا يختلف عن فان جوخ «الفنان». فهو يملك شعورًا بالإحساس النبيل للناس، فهو بينما يبدأ رسائله بتعبيره عن تقديره للرابطة الأخوية التي تجمعه بأخيه ثيودور، فإن لوحاته تنبض بالإحساس و المشاعر، إضافة إلى أنه رسم العديد من اللوحات التي تصور الطبقة الكادحة.. فان جوخ بصريٌّ أيضًا في رسائله، فهو يجد متعة ليخبر أخاه عن نزهاته في الطبيعة ويصوِّر له المناظر بتصويرٍ أدبيٍّ يخيل للقارئ أنه رسم لوحة بالألوان لا بالكلمات!

إن الاحساسَ حتى ولو كان إحساسًا عارمًا بجمالِ الطَّبيعة، لا يُماثل أبدًا الإحساس الدينيّ، على الرغم من اعتقادي أن كلاهُما لهما علاقة مُباشرة ببعضهما البعض. إن كُلٍّ مِنَّا تقريبًا لديه نوعًا من الإحساس بالطَّبيعة؛ فأحدهم قد يكون لديه احساس أكبر، والآخر بشكلٍ أقل، وهكذا. ولكن القليلون الذين يشعرون بأن الخالق هو عبارة عن روح، وأولئك الذين يعبدونه يجب أن يعبدوه كرُوحٍ، وحقيقةٍ معًا

ترك الفنان الهولندي «فنسنت فان غوخ – Vincent Van Gogh» تراثًا أدبيًّا فريدًا تمثّل في رسائله المُسهبة التي بلغ ما تبقى منها نحو تسعمائة وثلاث رسائل تشغل باللغة الهولندية ستة مجلدات كبيرة. ومن المعروف أن الرسام الكبير قد عاش حياةً مضطربة اتَّسمت بالترحال الدائم وعدم الاستقرار والفقر المدقع؛ إذ لم يفلح في الحصول على اعتراف الأوساط الفنية وتجار اللوحات في أثناء حياته على الرغم من منجزه الكبير الذي تجاوز ألفي قطعة فنية بين تصوير ورسم وحفر. وتُقدم تلك الرسائل رؤيةً مُفصَّلةً عن حياة الفنان الأسطوري الذي غيَّر وجه الفن الحديث، وتسرد حكايات عن نشأة أعماله وتطوُّر أفكاره عن الحياة والفن والأدب أيضًا. وهي ترسم خط سيرته الذاتية خلال الثمانية عشر عامًا التي كُتبت خلالها، وهي أيضًا مرآة للحياة الفنية والثقافية والاجتماعية في ذلك الوقت من نهايات القرن التاسع عشر في هولندا وبلجيكا وإنجلترا وفرنسا. والأغلب الأعم من هذه الرسائل موجه لشقيقه «ثيو – Theo» صديقه المخلص وراعيه الأمين، وإن ضمَّت المجموعة رسائل أخرى لوالديه أو إحدى شقيقتيه أو بعض أقاربه وأصدقائه وزملائه من الفنانين.

رسالة فان جوخ إلى شقيقه ثيو..

لاهاي، السبت 11 مارس 1882م

عزيزي ثيو،

ستكون قد تلقَّيت رسائلي، وأنا أردُّ على رسالتك التي تسلَّمتها هذه الظهيرة. وبموجب طلبك، فقد أرجعت على الفور عشرة جيلدرات إلى «ترستيج» الذي كان قد أقرضني إيَّاها هذا الأسبوع. كتبت لكَ عن أمر العمِّ «كور»، وهذا ما حدث. اتَّضح أن «كور» كان قد تكلم مع «ترستيج» قبل أن يأتي لزيارتي. على أي حال بدأ بالكلام عن أشياء من قبيل «تكسب عيشك» وقد خطرت ببالي الإجابة سريعًا في لمحة وهي صحيحة فيما أعتقد. وهاك ما قلته: أكسب عيشي! ما الذي تقصده بذلك؟ أن يكسب المرء عيشه أم أن يستحق المرء عيشه. ألّا يستحق المرء عيشه، أي ألّا يكون جديًرا بخبزه، هذا ما نسميه جريمة، وكل رجل شريف جدير بخبز كفافه، لكن ألّا يكسبه على الإطلاق فيما هو يستحقه، فذلك هو سوء الحظ، وسوء حظ عظيم. إذن، فلو كنت تقول لي هنا والآن: أنت لا تستحق خبزك، فأنا أفهم أنك تسبني، أما إذا كنت تقصد الإشارة العادلة إلى أني لا أكسبه دائمًا لأنني أحيانًا أفتقر إليه، فليكن، ولكن ما فائدة تعليقك هذا لي؟ سيكون مفيدًا بالكاد لو انتهى الأمر عند هذا الحد. لقد حاولت مرارًا مؤخرًا شرح ذلك لترستيج، لكن قد يكون لديه صعوبات في السمع في أذنه أو ربما كان شرحي مضطربًا بسبب الألم الذي سببته لي كلماته.

رسالة من فينسينت لأخيه ثيو

رسالة فان جوخ إلى صديقه رابارد

نيونن، نحو الإثنين، 13 يوليو 1885م

صديقي العزيز رابارد،

ما مرّ يعني أنني حين أجلسُ للكتابةِ لكَ فإن ذلك لرغبةٍ في الاستيضاح أكثر منها رغبة في المتعة. أما عن إرفاقي خطابَك السابق هنا، فثمة سببان لذلك، لكليهما ضرورة خاصة. أولًا- هب أن تعليقاتِكَ

على مطبوعة الليثوغراف التي أرسلتُها إليكَ صحيحة، هب أنّه ليس لدي ما أردّ به عليها – حتى في هذه الحال، فلا شيءَ يمنحكَ الحقّ في شجبِ عملي بهذا الأسلوب المهين، ولا في تجاهله كما فعلت. ثانيًا- لمّا كنت قد حظيتَ بقدرٍ من الصداقةِ أكبر مما أعطيت، ليس مني فقط، بل من عائلتي أيضًا، فأنت لا يحق لك ادعاء أنه وفي مناسبةٍ مثل مناسبةِ موتِ أبي، كان لزامًا علينا إرسالُ شيءٍ لكَ خلا ملاحظة مطبوعة.

ليس لزامًا عليّ أنا تحديدًا، بما أنك قبلها لم تردّ على خطابٍ منّي. ليس لزامًا عليّ، بما أنك في مناسبةِ موتِ أبي قد أرسلتَ تعبيرًا عن تعاطفكَ في خطابٍ مُرسلٍ إلى أمي – خطاب حينَ وصلَ ولّد تساؤلًا في البيت عن ماهية السبب الذي منعك من الكتابةِ إليّ أنا حينها، وهو الأمرُ الذي لم أُرِدْه، بأي حال، ولا أريده. أنت تعلمُ، أنني لم أكن على علاقةٍ طيبةٍ بهم في البيت لسنواتٍ خلت. في الأيامِ الأولى بعد موت أبي، اضطررتُ لمخاطبةِ العائلةِ القريبة. لكن بمجرّد وصول العائلة، انسحبتُ من الأمر برمّته. أما عن أي تقصيرٍ، فهو ليس منّي، بل من العائلة. وعليّ إخبارك أنه وعلى كل المستوياتِ فأنت استثناء، فقد سألتهم في البيتِ: إن كانوا قد أرسلوا إليكَ كلمةً وتبيّن أن ذلك جرى نسيانه. وهذا كافٍ للغاية في هذا الصدد.

تحياتي، فينسينت.

رسالة فينسينت إلى صديقه رابارد

الرسالة الأخيرة..

عزيزى ثيو..

إلى أين تمضي الحياةُ بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقدُ الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، إنني أتعفن مللًا لولا ريشتى وألوانى هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد، كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن، ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطًا وألوانًا جديدة، غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم.

كل الألوان القديمة لها بريقٌ حزينٌ في قلبي، هل هي كذلك فى الطبيعة أم أن عينيّ مريضتان؟ ها أنا أعيدُ رسمَها كما أقدحُ النارَ الكامنةَ فيها.
في قلبِ المأساة ثمة خطوطٌ من البهجةِ أريد لألواني أن تظهرها، فى حقول «الغربان» وسنابل القمح بأعناقِها الملوية. وحتى «حذاء الفلاح» الذى يرشح بؤسًا، ثمة فرحٌ ما أريد أن أقبضَ عليه بواسطة اللون والحركة.. للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك.
اليوم رسمت صورتي الشخصية، ففي كل صباح عندما أنظر إليّ المرآة أقول لنفسي: أيُّها الوجه المُكرَّر، يا وجه «فانسنت» القبيح، لماذا لا تتجدد؟
أبصق فى المرآة وأخرُج… واليوم قمتُ بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون..
عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط عليّ، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها… حسنًا ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟.
أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أنى أحبُّها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليكِ أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها… الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل إن إصبعي السادس -الريشة- لتستطيع أكثر من ذلك: إنَّها ترقص وتداعب بشرة اللوحة..
أجلس متأملًا: لقد شاخَ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر.. آه يا إلهي، ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الرُوح؟ الفرشاة، الألوان، و… بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة.. ألواني واضحة وبدائية. أصفر، أزرق، أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج توًا من بيضته الكونية الأولى.
مازلت أذكر: كان الوقت غسقًا أو ما بعد الغسق وقبل الفجر. اللون الليلكيّ يُبلل خط الأفق.. آهٍ من رعشة الليل. عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت البريّ. كنت مستقرًا فى جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما «أورسولا» الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان وفجأة اختل توازنها وهوت. ارتعش صدري قبل أن تتعلَّق بعنقي مُستنجِدة. ضممتها إليّ وهي تتنفس مثل ظبي مذعور.. ولما تناءت عني كانت حبَّة توت قد تركت رحيقها الليلكيّ على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت فى الثانية عشرة وأنا أحس رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة وأنا أحس بأن سعادة ستغمرني لو أن ثقبًا ليلكيًا انفتح فى صدرى ليتدفق البياض.. يا لرعشة الليل..
الفكرة تلح عليّ كثيرًا فهل أستطيع ألا أفعل؟ كامنٌ فى زهرة عبَّاد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا. أمتص من شعاع هذا الكوكب البهيج. أحدق وأحدق فى عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقني عيناي.
شيئان يحركان رُوحي: التحديق بالشمس.. وفي الموت. أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني! متى سنمضي؟ نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المُدماة.. ولكن إلى أين؟ إلى الحُلم طبعًا.
أمس رسمت زهورًا بلون الطين بعدما زرعت نفسى فى التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسي وغِربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغِربان. غِربان وقمح… الغربان تنقر فى دماغي. كُلُّ شيٍء حُلمٍ. كُلُّ شيٍء حُلمٍ. كُلُّ شيٍء حُلمٍ. هباءُ أحلام. وريشة التراب تخدعنا فى كُلِّ حين.. قريبًا سأُعيد أمانة التراب، وأُطلق العُصفور من صدري نحو بلادِ الشمس.. آهٍ أيتها السنونُ سأفتح لك القفص بهذا المسدس:

القُرمزيُّ يسيل.. دمٌ أم نار؟

غليونى يشتعل: الأسودُ والأبيضُ يلونان الحياةَ بالرماديّ. للرماديّ احتمالات لا تنتهي: رماديٌّ أحمر، رماديٌ أزرق، رماديٌ أخضر. التبغُ يحترق، والحياةُ تنسرب. للرماد طعمٌ مُرٌّ بالعادةِ نألفه، ثم ندمنه، كالحياةِ تمامًا: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلُّقًا بها… لأجل ذلك أُغادرُها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟! إنه الإخفاقُ مرَّةً أخرى. لن ينتهى البؤسُ أبدًا…

 وداعًا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع..
كتابة وإعداد: هبة خميس
تحرير: آلاء محمد مرزوق
المصادر:
  1. Sooke A. The mystery of Van Gogh’s madness [Internet]. [cited 2019 Feb 1]. Available from: https://bbc.in/2aHMKxz
  2. Vincent van Gogh | Biography, Art, & Facts [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2019 Feb 1]. Available from: https://bit.ly/2n6zpUB
  3. Before he died, Van Gogh wrote a letter to his brother explaining how a true artist must live [Internet]. The Plaid Zebra. 2015 [cited 2019 Feb 1]. Available from: https://bit.ly/2DQuWik
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي