هل كان هيث ليدﭼر أول ضحايا الـﭼوكر؟!

هيث-ليدﭼر

هيث ليدﭼر||||

حقق رواجًا هائلًا في سنوات عمره الأخيرة بما حققه من نجاح منقطع النظير بتجسيده المميز للشخصية التي ينتقيها فيتلبَّسُها أو تتلبّسُه  فينصهرُ فيها وجدانًا وقلبًا وقالبًا حتى يكاد يُنسيك حقيقة من يكون وتجد نفسك تعرفه بكونه الشخصية التي يؤديها؛ بل قد يسلبُك عقلك ويتسلل إليك رغمًا عنك فتجد نفسَك مأخوذًا بالشخصية التي يقدمها حتى لو.. كانت شخصية سفاح سيكوباتي مولع بالشر.

(هيث ليدﭼر- Heath Ledger) أو.. الـﭼوكر كما تعرفنا إليه في إحدى أكثر شخصياته شهرةً وإثارةً للجدل.
موهبةٌ فنيةٌ فريدة لم تستمر طويلًا على الساحة الفنية؛ إلا أنك لو كنت قد تعرفت إليه من خلال أحد أكثر أدواره تألقًا وشهرة في فيلم (Brokeback Mountain) والذي حصل عن دوره فيه على جائزة المعهد الأسترالي لأفضل ممثل بخلاف ترشحه للفوز بجائزة الأوسكار والجولدن جلوب عن نفس الدور؛ أو دوره في فيلم (The dark knight) والذي فاز عنه بجائزة الأوسكار كأفضل ممثل مساعد. ستدرك أنه قد حقق من خلال هذين الدورين ما قد يستمر كمسيرة فنية كاملة لا يخفُت ألقُها ولا يخمدُ صداها في أرجاءِ الساحةِ الفنيةِ حتى اليوم.

هيث ليدﭼر

كانت البداية عندما كان ليدﭼر غير راضٍ تمامًا عن أعماله الفنية التي كان يخطو بها أعتاب التجربة واكتساب الخبرة حتى بلوغه الثانية والعشرين من عمره؛ حتى أنه وجد نفسه غير مقبلٍ على مشاهدة أفلامه، فأنّى له أن يثير في جمهوره شغفًا يفتقده تجاه موهبته. من هنا بدأ باختيار أدواره بعناية واهتمام ومعايير مغايرة. وقد كان دوره في فيلم Ten Things I hate about you (1999) بمثابة انطلاقة لمستوى أعلى في مساره المهني، لكن كان فيلم (The brothers Grimm 2005) هو المنعطف التحولي في حياة ليدﭼر؛ وقد كان للمخرج Terry Gilliam الفضل في ذلك حيث أسند لكلٍ من ليدﭼر ومات ديمون شخصيات لم يؤدوا مثيلها في سابقاتهم الفنية؛ حيث ساعد جيليام ليدﭼر على أداء دور المهرج وهو الدور الذي صرح ليدﭼر بعد ذلك أنه استمد منه أثرًا في لعب شخصية الـﭼوكر فيما بعد.

على شَفَا الجنون

في عام 2006 كانت الأمور على خير ما يُرام. هيث المترشح للفوز بالأوسكار عن دوره في فيلم (Brokeback Mountain)؛ الأب الحديث العهد لطفلة تُدعى ماتيلدا كانت ثمرة علاقته بالممثلة ميشيل ويليامز وتمتعهم بحياة مستقرة في مدينة نيويورك.
عندما عرض عليه المخرج (كريستوفر نولان- Christopher Nolan) المشاركة في فيلم Batman begins؛ لم يتحمس ليدﭼر كثيرًا معللًا أنه لن يحسن تجسيد آداء دور بطلٍ خارق: «أشعر وكأنني سأبدو أبلهًا سخيفًا. لن أستطع تجسيد الدور بخلاف أن هناك الكثيرين ممن يستطيعون آداء الدور ببراعة». إلا أنه بعد صدور الفيلم وانبهار ليدﭼر به؛ أبدى اهتمامه بتجسيد شخصية الـﭼوكر في الأجزاء اللاحقة.

 madness is like gravity.. all it takes is a little push
إن الجنون كما الجاذبية.. كل ما يتطلبه الأمر هو مجرد دفعَة صغيرة

الـﭼوكر

يصف ليدﭼر شخصية الـﭼوكر بأنه: «مُهرج سفاح سيكوباتي عديم الشفقة». وقد سعى ليدﭼر لتجسيدٍ فريدٍ من نوعه للشخصية يختلف عن الأداءات السابقة. تم استدعاء بعض السمات والأفكار الفلسفية في الفيلم مثل الأناركية والفوضى، وأيضًا استحضار بعضٍ من أعمال الرسام الإنجليزي ذي الأصول الأيرلاندية Francis Bacon -يختلف عن الفيلسوف الإنجليزي-. وفي أحد لقاءاته الإعلامية، صرح ليدﭼر بأن تجربته بتجسيد شخصية الـﭼوكر هي من أمتع التجارب الفنية له على الإطلاق.

يقول الصحفي الأمريكي (michael musto – مايكل موستو) أن ليدﭼر قد سعى لتجسيد وتطوير تلك الشخصية بشكلٍ مُتعمقٍ فريدٍ من نوعه يتسم بالقتامة بما يتوافق مع طبيعتها، حتى أنه انغمس تمامًا بين ثنايا تلك الشخصية المولعة بالشر والسوداوية.
ومن المدهش أيضًا أن هيث ليدﭼر كان قد بدأ في التحضير للدور بعزل نفسه في غرفة في أحد فنادق لندن لفترة واستحضار أصوات وتركيبة شخصية الجوكر داخله، حتى أنه بدأ في تدوين مذكرات يومية بشخصية الجوكر حتى يتشبَّع تمامًا بدواخل تلك الشخصية، ووُجدت تلك المذكرات مُختَتمة بـ.. «الوداع».

لقد انتهى بي الأمر مستقرًا تمامًا على أرض صومعة ذاك السيكوباتي؛ ذي الضمير المُعدَم حيال ما يفعل، ذلك المُهرج السفاح ذو الدمِ المُثلج

هيث ليدجر

تم تصوير فيلم The dark knight خلال 8 أشهر امتد فيهم التصوير لساعاتٍ طويلة، مما تسبب لهيث في نفس المشكلة التي واجهته خلال تصوير (Brokeback Mountain) وهي الأرق؛ مما قد ساهم في انغماسه وانفعاله بأداء السمات السيكوباتية لشخصية الجوكر.

توغل هيث في الانغماس في الـﭼوكر خاصته فـ انزلق عالقًا فيه حيث واجه صعوبات في ترك عباءة الـﭼوكر وبقي عالقًا في هاويته المُظلمة حتى وفاته. يُقال أنه كان يتوقف جسديًا عن الأداء لكن عقله لم يستطع سوى المُضي باحتدامٍ وطاقةٍ هائلة حتى وصل لذروة الإنهاك.
صرح هيث لجريدة النيويورك تايمز أنه كان قد بدأ بتناول العقاقير الموصوفة له من قِبل الطبيب مثل عقار ال Ambien لكن دون جدوى. وفي غضون الشهور الأخيرة من تصويره للفيلم تم تداول خبر عن انفصال ميشيل وهيث الأمر الذي تم تأكيده من قِبل والدها بعد ذلك.

يرى الكثير أن قدرة الفنان التمثيلية التي يلِجُ ويخرجُ بها بسهولة بين ضفتي الواقع والأداء التمثيلي أو -بقولٍ آخر- الفانتازيا؛ هي أحد أكثر المواهب المصقولة التي تبرز الفنان وتُزيده ألقًا وشهرةً وبراعة في عالم الفن، لكن هل يمكن للفنان أن يملك زمامَ الأمورِ كل الوقت بحيث لا تتغشّى عدسة الواقع لديه بضبابِ الفانتازيا؟
هل من الممكن أن يستطيع الفنان العبور آمنًا بين ضفتي الواقع والخيال دون أن يقتطع من ذاتِه أثرًا يفقده هُناك؟

هذا ما تناولته (بولا تومسون- Paula Thomson) الباحثة في علم الكينزيولوجيا (علم حركية الإنسان) في جامعة كاليفورنيا في بحثها العلمي، تناولت فيه المقارنة بين الانفعالات العاطفية للفنانين وغيرهم.
تناولت تومسون في دراستها تقييمات لبعض الظواهر النفسية مثل: الثبات الانفعالي؛ القدرة على تجاوز الصدمات؛ السلوكيات الارتباطية. وقد أوضحت أن المشاركين ممن يمتهنون التمثيل قد أبدوا بعض الانفعالات الارتباطية خلال مواجهتهم ببعض الأحداث الحياتية الصادمة، على النقيض من الآخرين الذين أبدوا تجنب مثل تلك المواجهات، وهو المؤشر على بعض الارتباطات التعلقية غير الآمنة لديهم. مما ساهم في جعل المشاركين من الفنانين أكثر اضطرابًا وتشوشًا من غيرِهم إذا تم استدعاؤهم لتلك الصدمات مرةً أخرى.
وقد استخلصت من تلك الدراسة أن الممثلين المؤدين لبعض الأدوار أو التجارب الانفعالية الصادمة هم أكثر عُرضة لاستدعاء تجاربهم الحياتية الذاتية من نفس النوع، مما يجعلهم أكثر هشاشةً وحساسيةً تجاه اضطرابات ما بعد الصدمة. وقد أكدت أنه على الرغم من أن الممثلين قد يبدون معدلات مرتفعة من الأمان الذاتي إلا أن نسبة كبيرة تبلغ النصف منهم هم أكثر عُرضة لاضطراباتٍ فُصامية بالمقارنة مع نسبة ضئيلة جدًا تبلغ ال 3% ممن لا يمتهنون التمثيل مما يدعم تلك النتيجة الختامية التي أكدتها تومسون: «أن على الممتهنين بالفن مضاهاة تلك الموهبة الترفيهية الممتعة لهم ولجمهورهم بمثيلها من أعباءٍ نفسيةٍ أخرى»

ما لا يقتُلُك قد يجعل منك.. غريبًا

Whatever doesn’t kill you simply.. makes you stranger

قالها الـﭼوكر في افتتاحية فيلم The dark Knight، عبثًا قالها نصًا من سيناريو الآداء؛ لم يعلم أن ما قد يجعلُك غريبًا قد يقتُلُك أيضًا. لم يكن يعلم أن ما بدأه تجسيدًا وفنًا قد يستشري داخله فيجعله غريبًا عن نفسِه، وقد يضطره لفقدِ ذاتِه؛ بل فقدِ حياتِه.

أشرقت شمس صباح يوم الثاني والعشرين من كانون الثاني/ يناير من عام 2008؛ ليكون آخر شروق يشهده ليدﭼر. عثرت عليه مديرة منزله تريزا سولمن فاقدًا الوعي في سريرِه في شقتِه في مانهاتِن. وصلت الإسعاف لبيت ليدﭼر في تمام الساعة 3.33 عصرًا وباءت كل محاولاتِ الإنقاذِ بالفشل. وعند الساعة 3.36 تم إعلان ليدﭼر فقيدًا ونُقل إلى مثواهِ الأخير وهو لم يتجاوز الـ 28 من عمره بعدما تم تشخيص سبب الوفاة جراء تعاطي جرعة زائدة من العقارات الموصوفة له للتغلب على العوارض الصحية التي لازمته تلك الفترة.

قد يكون هيث ليدﭼر أحد أبرع المواهب الفنية وأكثرهم تفانيًا لموهبته؛ قد يكون ليدﭼر متتبعًا مقتفيًا إثر بارقةِ نجاحٍ أسَرهُ بسحرِه فطاردَه بعُنفوان.. لكن هل يستحق ذلك النجاح ما دُفع من أجله؟!

كتابة وإعداد: آلاء محمد مرزوق

المصادر:

1- https://bit.ly/2x9iXEY

2-Thomson, P., Jaque, S. V. (2012). Holding a mirror up to nature: Psychological vulnerability in actors. Psychology of Aesthetics, Creativity, and the Arts. Advance online publication. doi: 10.1037/a0028911

3-Neumaier, Joe (November 16, 2006). “A look at how Heath Ledger viewed his career'”New York Daily News. New York City: Tronc. Retrieved September 28, 2015.

4-Otto, Jeff (August 22, 2005). “Interview: Matt Damon and Heath Ledger”IGN. San Francisco, California: J2Global. Retrieved September 28, 2015.

5-Calautti, Katie (3 December 2012). “Christopher Nolan Reflects On His Batman Trilogy, Heath Ledger & More”comicbookresources.com. Retrieved 28 September 2015.

6-Collura, Scott (November 7, 2006). “The Dark Knight: Heath Ledger Talks Joker”IGN. San Francisco, California: J2Global. Retrieved September 29, 2015.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي