فرانسيس بيكون (رسول العلم الحديث)

francis-bacon

لئن كان برتراند راسل قد قال في الفصل الخاص بأرسطو في كتابه (تاريخ الفلسفة الغربية): «إنّك ترى كل خطوة -تقريبًا – من خطوات التقدم العقلي، مضطرةً أنْ تبدأ بالهجوم على رأى من الآراء الأرسطية. »، فذاك يصدُق بشكلٍ أساسيّ على (فرانسيس بيكون)، فمحور نهضة أوروبا كان استبدال المنهج القياسي -الذي وضعه أرسطو- بالمنهج الإستقرائي الذي وضعه فرانسيس بيكون .
كان هذا المنهج العلمي الجديد في أوروبا في بداية عصر النهضة ذو وجهين، وتولى كلًا منهما رجل. أحد الرجلين هو (رينيه ديكارت) الذي أراد أنْ يكون السير العلمي بادئًا من فكرة داخلية نثق في صوابها، ثم نمضي خارجين منها إلى حيث العالم الطبيعي وما وراءه.
والثاني هو (فرانسيس بيكون) الذي أراد أنْ يكون طريق السير في الاتجاه المضاد; بادئًا من الطبيعة الخارجية وما نشاهده في ظواهرها، ثم نمضي داخلين إلى فكرة عقلية نقيمها ونكون على يقين من صوابها.
لقد كان فرانسيس بيكون دائمًا ما يؤكّد أنّ المعرفة الصحيحة إنما تكون في طرح الأسئلة المباشرة على الطبيعة بدلًا من التقوقع داخل عالم الألفاظ الأرسطي أو حتى مجرد التأمل النظري، فوجّه نقدين أساسيين لأرسطو:
أولهما أنّ فيزياء أرسطو أصابها الكثير من المفاهيم المغلوطة والنظريات المشوّهة، والنقد الثاني أنّ أرسطو كان دائم التجاهل للحقائق والازدراء لفكرة الملاحظة، نتيجة إلتزامه الأعمى بالنظريات التي وضعها، ورغم أن فيزياء أرسطو وكيمياؤه كانت قد سقطت سقوطًا مدويًًّا قبل ذلك على يد جاليلو وبويل وغيرهما، إلإ أنه لا يزال فرانسيس بيكون يُوصف بأنه أحد أنبياء الثورة العلمية الحديثة، أو لا يزال يوصف بأنه « رسول العلم الحديث ».
وُلد فرانسيس بيكون بلندن وانحدر وترعرع في عائلة مشحونة بالسياسة، وكانت له بالمثل تطلعات سياسية؛ غير أنه كان بجانب شواغله السياسية هذه كان يعالج فكرة عرضت له في الخامسة والعشرين من عمره، هي إصلاح العلوم أو إحياؤها بالطريقة الإستقرائية دون الطريقة القياسية.
بيد أنّ الغريب في أمره هو عدم تفنيده لآراء أرسطو الفيزيائية لجهله بالرياضيات، وإغفاله للاكتشافات العلمية المعاصرة له، فلم ينتبه لقوانين كبلر أو لم يتفهمه ورماه بالدجل، كما تجاهل جاليلو بالمثل، وغضّ طرفه أو بدى على غير وعي بإنجازات مرافقه الطبي ويليام هارفي، وقال عن نظرية المغناطيسية لويليام جلبرت أنها محض عبث لا فائدة تُرتجى منها، وزيادة على ذلك رفض نظرية كوبرنيقوس. ورغم كل ذلك فقد لعِب دورًا رئيسيًا وثوريًا بوصفه دعائيًا في الإنقلاب على أرسطو والمدرسيين، واعتبر نفسه داعية لعلم جديد يزيد من سلطان الإنسان على الطبيعة من خلال منهجه الإستقرائي، والذي نفذ إلى ماهيته ورسم أغراضه ووسائله ، ثم حاول أن يرسم بناءه.
مؤلفات فرانسيس بيكون:
كتاب «المقالات » كان هذا الكتاب هو أولى مؤلفات بيكون، وقد نشره أولًا في عام 1597 وكان وقتئذ كُتيبًا صغيرًا يحوي فقط عشر مقالات، ثم أُُعيد طبعه مع إضافة مقالات جديدة إليه، وفي آخر طبعة له وصل إلى ثمانية وخمسين مقالًا في موضوعات متفرقة.
2- رسالة بالإنجليزية بعنوان «في تقدم العلم» وقد حمل بيكون في هذا الكتاب على الفلاسفة المدرسيين، ونبّه فيه على الطريقة التي يراها كفيلة بالنهوض بالعلم، وقد قام بيكون بإعادة نشر هذا الكتاب فيما بعد، وذلك بعد ترجمته للغة اللاتينية وإدخال إضافات كثيرة عليه بعنوان « قيمة العلم والنهوض به » وذلك في عام 1623.
3- قام بيكون بعد ذلك بكتابة مجموعة كبيرة من المؤلفات اللاتينية والتي لم تُنشر في حياته؛ ويقال أنّ هذه المؤلفات بلغتْ اثنى عشر كتابًا.
4- كتاب « حكمة الأقدمين ».
5 – وضع كتابًا في السياسة سمّاه « أتلنتس الجديدة» وجعله أقرب إلى يوتوبيا، صورة المجتمع المتكامل الذي وجد فيه العلم أخيرًا مكانه الجدير به.
6- وضع كتابًا باللاتينية سماه «الإحياء العظيم» وكانت خطة الكتاب في البداية- كما رسمها بيكون- أنْ يتألف الكتاب من ستة أجزاء غير أنّ بيكون لم يستطع إلا إتمام واحدًا منهم، وحتى في هذه الحالة ظهر الكتاب ولم يكتمل بناؤه بعد. ولنتأمل عناوين هذا الكتاب كما أراد بيكون أنْ يكون:
1- أقسام العلوم: كانت عملية تصنيف العلوم هي أولى مهام عملية« الإحياء العظيم » التي عزم عليها، وقد أنجز بيكون هذه المهمة في الجزء الثاني من كتابه« في كرامة العلوم ونموها»، وكان الغرض من ذلك هو ترتيب العلوم القائمة والدلالة على العلوم التي لم توجد بعد، ورتبها حسب قوى الفهم أو حسب النفس الداركة، وحصر هذه القوى في ثلاث: الذاكرة وموضعها التاريخ، المُخيّلة وموضوعها الشعر، والعقل وموضوعه الفلسفة.
الأورجانون الجديد، وعنوانه الفرعي هو: إرشادات في تفسير الطبيعة. أما لفظ «الأورجانون» فيعني الأداة، أو امنطق نفسه بوصفه أداة للتفكير العلمي، ولقد أراد بيكون باستخدامه لهذا اللفظ أن يعبّر عن رفضه لمنهج أرسطو ومنطقه والذي كان يُعرف بالأورجانون.

3- ظواهر الكون أو تاريخ طبيعي وتجريدي تُبنى على أساسه الفلسفة، فقسم التاريخ إلى قسمين:

قسم مدني أو خاص بالإنسان، وتاريخ طبيعي أو خاص بالطبيعة. وقسّم التاريخ المدني إلى قسمين: تاريخ كنسي، وتاريخ مدني بمعنى الكلمة بما تحمله من عادات وتراجم وتواريخ سياسية وأدبية وفنية وما إلى ذلك، والتاريخ الطبيعي ثلاثة أقسام، قسم يصف الظواهر السماوية والأرضية، وأما القسمان الآخران فيقول فرانسيس بيكون أنهما لم يوجدا بعد.

أما الشعر، فقصصي ووصفي وتمثيلي ورمزي، فهو عبارة عن تأويل القصص والأساطير واستخلاص ما تنطوي عليه رموزه وصوره من معانٍ علمية، ويصف بيكون هذا القسم بأنه دائرة المعارف للعلوم الطبيعية وصنائع الإنسان ومعارفه.

4- سُلم العقل. ويوضح فيه الطريقة التدريجية في تطبيق المنطق على تفسير الوقائع التي جُمعت في المرحلة السابقة.

5- التمهيدات أو استباقات الفلسفة الجديدة. ويقدم فيه صورة تمهيدية للمعرفة الجديدة، وللقوة التي سيكتسبها الإنسان عندما يتم« الإحياء».

6- الفلسفة الجديدة.

نقد العقل:
وهذا هو أحد أهم أجزاء فلسفة بيكون على حد تعبير (راسل) فمن أجل تكوين العقل الجديد لابُد من منطق جديد، فالعقل أداة تجريد وتصنيف ومساواة ومماثلة، إذا تُرك يجري على سليقته أو سجيته، وقع في الزلل والأوهام، فهي طبيعية فيه، ومضى في جدل عقيم لا طائل منه، فيتيعن حصر هذه “الأوهام” للاحتراز منها وتجنبها، ويسميها بيكون ب« أصنام العقل» وهي على هذا النحو:

1- أوهام القبيلة: وهي ناشئة من طبيعة الإنسان، لذا كانت مشتركة بين جميع أفراده، فنحن ميّالون بالطبع إلى تعميم بعض الحالات دون التفات أو انتباه إلى الحالات المعارضة لها، وإلى تحويل المماثلة إلى تشابه وتواطؤ، وإلى أنْ نفرض أنّ في الطبيعة من النظام والاطّراد أكثر مما هو فيها بالفعل.

2- أوهام الكهف: وهي ناشئة من الطبيعة الفردية لكلٍ منّا؛ فإن الفردية بمثابة الكهف الأفلاطوني، فمنه ننظر إلى العالم، وعليه ينعكس نور الطبيعة فيتخذ لونًا معيّنًا، فهذه الأوهام إذن صادرة عن الاستعدادات الأصلية الكامنة فينا وعن التربية والعلاقات الإجتماعية.

3- أوهام السوق: وهي أخطر أنواع الأوهام، والاسم مُستمد من عملية التبادل التي تتم في السوق، ويشبّهها بيكون بعملية تبادل الأفكار بين الناس عن طريق اللغة، فهي ناشئة عن الألفاظ، فالألفاظ تتكون بطبيعة الحال طبقًا للحاجات العلمية والتصورات العامية، فتسيطر على تصورنا للأشياء، فتوضع ألفاظ لأشياء غير موجودة بالفعل، أو غامضة أو متناقضة، وهذا يحدث كثيرًا في المناقشات فتدور كلها على مجرد ألفاظ .

4- أوهام المسرح: وهي الآتية مما تتخذه النظريات المتوارثة والتي لها مقام ونفوذ، وعن النظريات المتأصلة باستبداد الكلمات وصعوبة النجاة من تاُثيرها في أذهاننا، فالناس تخاطب بعضها بعضًا عن طريق اللغة التي فرضت كلماتها على الناس وفقًا لعقليّة أهل السوق والعامة من الناس.

*استقراء بيكون: كانت طريقة استقراء فرانسيس بيكون تجري على هذا المنوال الآتي إزاء أيّ ظاهرة:

1- جمع الحقائق: فبطبيعة الحال أول خطوة يقوم بها أي إنسان في سبيل الاستقراء هي ملاحظة الحقائق وجمع الأدلة، فالمرحلة الأولى من الطريق هي إعداد« التاريخ» لكل ظاهرة من الظواهر التي نراها في الكون، ومن خلال هذا التاريخ نستطيع أنْ نشرح تلك الظواهر من خلال المعلومات التى نجمعها والتي يُفترض أن تكون وافية شاملة لكل ما تأتي به الملاحظة والتجربة.

2- كشف الصور: هي المقارنة بين هذه الحقائق التي جمعناها أثناء ملاحظتنا لظواهر الطبيعة، وهذه المقارنة تستطيع أنْ توصلنا إلى « صورة» الظاهرة التي نحن بصدد بحثها، ويُقصد بالصورة- على وجه التقريب «القانون» الذي تسير بمقتضاه ظاهرة معيّنة، فصورة الحرارة مثلًا هو قانونها، وهكذا.

3- جدول الاستنتاج: وله ثلاثة طرق مع أيّة ظاهرة:

1_ قائمة أولى تسجَل فيها الأمثلة المؤيدة، فإذا ما كان موضوع البحث مثلًا هو «الحرارة» وجب أنْ يسجَّل في هذه القائمة كل ما اتصل به علم الباحث من مصادر الحرارة على اختلاف صنوفها وتباين ألوانها.
2_ تسجيل قائمة ثانية تنفي وجود الحرارة، أيّ شيء لا يكون فيه حرارة، على أنْ يكون بينها وبين القائمة الأولى علاقة شبه.
3_قائمة ثالثة تستخدم فيها المقارنة، فتضع فيها مجموعة من الأمثلة تختلف مع الظاهرة التي أنت بصدد بحثها قوةً وضعفًا، فتجلب أشياء تقل فيها الحرارة، وأخرى تشتد فيها، وبمقارنة بعضها ببعض تستنبط السبب الذي يدور مع ظاهرة الحرارة قلةً وكثرة.
4_ عملية العزل: عملية الإقصاء أو العزل مع الحرارة مثلًا، ستتناول عملية النفي والإثبات والمقارنة، ثم تأخذ في رفض أمثلة مما أثبت في القائمة الأولى لما يتبين لك من القائمة الثانية أنه لا يمكن أن يكون سببًا للحرارة، وهكذا تظل تعزل مثلًا في إثر مثل حتى يبقى في النهاية ما يدل على السبب الحقيقي للظاهرة.

يقول« ول ديورانت» هل هناك شيء جديد في فلسفة فرانسيس بيكون؟ إنّ «ماكولي» الكاتب الإنجليزي يعتقد أنّ الاستقراء الذي وصفه بيكون موضوع قديم جدًا ولا يستحق كل هذا الاهتمام، فطريقة الاستقراء- كما جاء بها- يقوم بها كل إنسان من الصباح إلى المساء منذ ظهور العالم، وهل طريقة الاستقراء هذه من وضع بيكون وصنعه؟ أليست هذه هي الطريقة التي استخدمها سقراط؟ ألم تكن طريقة أرسطو البايولوجية استقرائية؟ ألم يدعو روجر بيكون إلى هذه الطريقة؟.

يُجيب ول ديورانت على هذه الأسئلة فيقول: « لم يزعم بيكون أو يدّعِ الأصالة في طريقته، فقد تناولت يده برفعةٍ مثل شكسبير كل شيءٍ لمسته،وأضافت عليه زينةً وجمالًا.» وكما يقول «روللي» فإنّ بيكون لم يزدرِ ملاحظات غيره، وكان يُضيء مشعله من كل شمعة، كما أنّه اعترف بفضل غيره عليه، فهو يشير إلى طريقة أبقراط المفيدة، وبهذا يرسلنا إلى المنبع الحقيقي للمنطق الاستقرائي بين اليونان عندما قام عظام العقول في عهد التنوير الفرنسي بمهمة وضع المشروع الفكري العظيم وهو كتاب (الانسيكلوبيديا) أهدوه إلى فرانسيس بيكون. وقال ديدرو أنّنا لوانتهينا من وضعها بنجاحٍ نكون مدينون بالكثير إلى فرانسيس بيكون الذي وضع خطة قاموس عالمي عن العلوم والفنون في وقتٍ خلا من العلوم والفنون . لقد أطلق داليمبرت على بيكون اسم أعظم وأبلغ وأوسع الفلاسفة، ولقد أدّى ميله لتفهم العالم بطريقة ديموقريطسية- نسبةً إلى ديموقريطيس الإغريقي- ميكانيكية بحتة أوحت إلى سكرتيره «هوبز» نقطة البداية في مذهبه المادي. كما أنّ طريقته أوحت إلى جون لوك فكرة علم النفس التجريبي المرتبط بالملاحظة.
إعداد: عماد السعيد.
مراجعة لغويّة: إسراء حسن.

 

المصادر :

1-الأورجانون الجديد- فرانسيس بيكون، ترجمة عادل مصطفى.
2-فلسفة فرانسيس بيكون-حبيب الشاروني.
3-الأورجانون الجديد لفرانسيس بيكون- فؤاد زكريا.
3-تاريخ الفلسفة الغربية- برتراند راسل.
4-تاريخ الفلسفة الحديثة- وليم كلي رايت.
5-قصة الفلسفة-ول ديورانت.
6- أطلس الفلسفة- بيتر كونزمان، فرانز بيتر بوركارد، فرانز فيدمان، اكسل فايس.
7- قصة الفلسفة الحديثة- زكي نجيب محمود.
8-تاريخ الفلسفة الحديثة- يوسف كرم.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي