منذ 10000 عام شاهد كوكبنا الإنسان وهو يسيطر على الرمال فيحولها إلى أراض صالحة للزراعة. ثم شاهدنا آيضا منذ عدة قرون و نحن نحول رماله و معادنه إلى آلات متحركة. و خلال القرن المنصرم شهد الكوكب على ثورتنا التقنية الثالثة , الثورة المعلوماتية, و التي حولنا بها تراب الكوكب لا إلى غذاء أو آلات متحركة بل إلى آلات ناطقة مبصرة بل و مفكرة.
لكن لماذا لم تحدث ثورة المعلومات و الإتصالات الحديثة منذ قرنين أو ثلاثة قرون ؟
الحقيقة أن اختراع الحاسب الآلي و أنظمة الإتصالات الحديثة استلزمتا عدد من الاكتشافات الفيزيائية خاصة في فيزياء الكوانتم (ولولا فهمنا لعالم الكوانتم ما استطعنا صنع الترانزستور) و في الموجات الكهرومغناطيسية (الأساس النظري للموجات الراديوية). هذا ما يدركه معظمنا لكن ما يغيب عن الكثيرين هو الإنجازات الرياضية و الهندسية التي لولاها لما شهدنا هذه الثورة العظيمة.
منذ 100 عام ولد رجل منسي و من عقله ولدت ثورة المعلومات. ولد كلود شانون في 30 أبريل عام 1916 في ميتشيجين بالولاية المتحدة الأمريكية. و في عمر العشرين حصل على بكالوريوس الهندسة الكهربائية و بكالوريوس في الرياضيات من جامعة ميتشجين لينضم بعدها إلى معهد ماستشوسيتس التقني ( MIT) الشهير كطالب ماجستير.
في هذا الوقت, كانت الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق و كانت الجيوش العالمية (ومن ضمنها الجيش الأمريكي) توظف أعداد كبيرة من المهندسين و العلماء لتطوير أسلحتها استعدادا ً للحرب كما وظفت أعدادا ً أكبر بعد إندلاع الحرب لتضمن تطوير أسلحتها و أنظمة دفاعها بشكل مستمر. ثلاثة مشاكل كانت تجابه الجيوش و المهندسين في تلك المرحلة:
1- استخدام أجهزة حسابية (ميكانيكية أو ميكانيكية و كهربائية) معقدة للقيام بالحسابات التي تلزم الجيش : فمسار الصواريخ تحكمها معادلات فيزيائية معقدة كما إن أنظمة الدفاع الجوي التي تراقب الطائرات و تسقطها أكثر تعقيدا ً. و يلزم لزيادة دقة صواريخ الدفاع الجوي ( أو الصواريخ بعيدة المدى) حل عدد من المعادلات التفاضلية خلال ثوان.
2- أنظمة التشفير المعقدة لدى العدو و الخوف من أن يتمكن العدو من اختراق شفرات الجيش , خاصة بعد استخدام الراديو بشكل موسع في الاتصالات العسكرية.
3- التشويش الذي يعرقل الإتصالات العسكرية و المدنية على حد سواء بسبب إزدياد أعداد مستخدمي الاتصالات السلكية و اللاسلكية في النصف الأول من القرن العشرين.
و خلال 10 سنوات فقط تمكن كلود شانون من تقديم حلول جذرية لهذه المشكلات الثلاث. فقد وضع في سنة 1939 الأساس النظري للدارات الالكترونية و الحاسبات الرقمية الحديثة ثم عرض في سنة 1945 تحليلا رياضيا لأنظمة التشفير , و ختم هذا العقد بنشره لبحثه الأشهر : “الأساس الرياضي للإتصالات” و التي عرف فيها لأول مرة مفهوم المعلومات و منح هذه الخاصية الفيزيائية الجديدة وحدة قياس مناسبة (البت Bit). سنتستعرض هنا فقط أول إنجازات شانون و هي إسهاماته العظيمة في مجال الدارات الإلكترونية.
عمل شانون أثناء الماجستير في أحد مشاريع الحاسوب التناظري Analog Computers و الذي كان يستخدم لحل المعادلات التفاضلية التي تصف حركة بطاريات الدفاع الجوي حينها. لاحظ شانون أن الحاسوب يتكون من عدة دوائركهربائية متوالية أو متوازية. و كان العلماء حينها يستخدمون قوانين التيار الكهربائي (المعروفة بإسم قانون كيرشوف) لتصميم هذه الدوائر لتعطي نتيجة محددة. لكن شانون بذكاءه لاحظ ايضا ان هذه الدوائر الكهربائية في الحاسوب تقوم بتوصيل أو بمنع التيار الكهربائي من الوصول للمرحلة التالية فقط. فكل جزء من الدائرة الكهربائية إما أن يكون فيه تيار كهربائي أو لا يقوم بتوصيل التيار الكهربائي. ولأن شانون لم بكن مهندسا كهربائيا فحسب بل رياضيا ايضا ، فقد أدرك في قفزة عبقرية أننا لا نحتاج الجبر الاعتيادي لجمع و طرح كل هذه التيارات الكهربائية بل يمكننا ببساطة استخدام الجبر البولي الأكثر بساطة لوصف طريقة اتصال هذه الدوائر المعقدة !
لم يكتف كلود شانون بذلك بل قام بتصميم دائرة كهربائية تجمع الأرقام باستخدام لجبر البولي full adder digital logic circuits. تعد هذه الدارة أول دارة رقمية تم تصميمها في التاريخ و مازالت تستخدم في كافة الحاسبات الرقمية الحديثة. دون كلود شانون تحليله الرياضي للدوائر الكهربائية في رسالة الماجستير ( و عمره 23 عاما !!!!) لتصبح أشهر رسالة ماجستير وأكثرها تأثيرا في القرن العشرين. و ماهي إلا عدة سنوات حتى اخترع الترانزستور لتصبح المعالجات الدوائر الرقمية أصغر و أسرع (بفضل حجم الترانزستور) و ليتمكن مهندسو الكهرباء و الحاسبات من تطوير أنظمة حاسب آلي أكثر تعقيدا بفضل الجبر البولي. [قريبا كيف يعمل الترانزستور] [لماذا الترانزستور مهم ؟ أو بالأحرى كيف تصنع دارة الكترونية من قفل كهربائي ]
لكن مسيرة شانون العلمية لم تكن قد بدأت بعد. فعلم التشفير و هندسة الإتصالات كانا على موعد مع هذا العبقري.
يتبع…..
المراجع: The Information, A History , a Theory , a Flood. James Gleick, 2012
2- Biographical Memoir of the Fellows of the Royal Society : http://rsbm.royalsocietypublishing.org/content/55/257