فيروس كورونا والنَّظريّة النَّفعيّة

Image Credits: Reuters

مع انتشار فيروس كورونا في إيطاليا بشكل خارجٍ عن السيطرة، طفَت على السطح أحاديثُ عن قرب انهيار النظام الصحي لكون الوباء انتشر بشكل يفوق قدرة النظام على الاستيعاب، وأحاديثُ أخرى عمّا قد يتحتَّم على الأطباء اتّخاذه من قرارات مصيريّة إذا استمرَّ الوباء في هذا الازدياد المُضطرِد، قرارات مثل ترك البعض للمرض ليفترسهم إذا كانت فرصهم في النجاة أقل -من وجهة نظر طبية- نظرًا لكبر سنهم أو معاناتهم من أمراض مزمنة أو كليهما. مثل تلك الأحاديثِ تفتح الباب أمام أسئلة فلسفيّة عمّا إذا كان مقبولًا من ناحيةٍ أخلاقيةٍ اتّخاذُ مثل تلك القرارات وترك بعض الأرواح للموت أم لا، في هذه المقالة نستعرض الجذور الفلسفيّة لمثل تلك القرارات المبنيّة في جوهرها على نظرية النفعيّة للأكثريّة (utilitarianism).

نظريّة النَّفعيّة للأكثريّة والأنانيّة السَّيكولوجيّة

هذه النظرية التي طرحها جيريمي بينثام (Jeremy Bentham) عام 1789 في كتابه «مقدمة إلى مبادئ الأخلاق والتشريع» (Introduction to the Principles of Morals and Legislation) بُنيت على أساس مبدأ المنفعة (utility)، والذي يعني بدوره أن تصرف الفرد يكون صحيحًا إذا كان لديه القابلية أن يضيف للفرد سعادة أو يزيد منها. من وجهة نظر بينثام فإن السعادة هي الأمر الوحيد ذو القيمة والجيّد في حدّ ذاته. لا يعني ذلك أن باقي الأشياء لا تحمل أيّة قيمة، بل إن كل ما له قيمة يستمدُّ تلك القيمة بالضرورة من قدر مساهمته في تحقيق السعادة.

Portrait of Jeremy Bentham by Henry William Pickersgill

يُعرّف بينثام السعادة بكونها «وجود المتعة وغياب الألم» حيث كان يُعتَقَد أن المتعة والألم هما العاملان الحاكمان لطبيعة البشر. «إنهما يحكماننا في كل ما نفعل، وكل ما نقول، وكل ما نفكر…» يقول بينثام. وقد أسَّس معادلة بهدف حساب وقياس السعادة الناتجة عن كل تصرف، وسمّاها معادلة (صنع السعادة- felicific calculus). هذه المعادلة تقوم على حساب المتعة أو الألم عبر النظر في مُدّة كل منهما، والشدّة، والتأكُّد في مواجهة الشك، والبعد في مواجهة القرب. يعني هذا أن أكثر التّصرُّفات مثاليّةً من ناحية أخلاقيّة هو تصرُّفٌ له احتماليةٌ كبيرةٌ في أن ينتجَ عنه زيادة مدة المتعة وشدتها لفترة طويلة في الأمد القريب، أو تصرف له احتمالية كبيرة في أن ينتج عنه غياب للألم -أو تقليل له- لفترة طويلة في الأمد القريب؛ وأقلُّهم مثاليّةً تصرُّفٌ ينتج عنه زيادَ الألم وشدته في الأمد القريب أو غياب المتعة -أو تقليلها- في الأمد القريب.

 

النقطة الأكثر أهمية وجدلًا في نظرية بينثام هي تصوره عن كيفية تطبيق هذه النظرية على مستوى المجتمعات والدول. رأي بينثام أن مبدأ النفعية يُحتّم اتخاذ القرارات الجمعية بناءً على تحقيقها لأكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من أفراد هذا المجتمع المتأثّر بذلك القرار؛ بما أنَّ سعادة المجتمع تتكوَّن من سعادة الأفراد المُكوّنين له. يعني هذا ضمنيًّا أنَّه لا مانع من التضحية بسعادة الأقليّة في سبيل سعادة الأكثريّة وتجنيبهم الألم، بل إنه واجبٌ أخلاقيٌّ السعي لسعادة الأكثرية مهما كلّف ذلك.

رغم إيمان بينثام أنَّ قرارات الأفراد يجب أن تُبنى على تحقيق المنفعة العامة لمجتمعاتهم، إلا أنَّه كان من المؤيّدين لنظرية الأنانية السيكولوجية (Psychological Egoism)، والتي تدفع بأن الأفراد تتصرف حسب ما يحقق لها منفعتها الشخصية، دونما اعتباراتٍ للمنفعة العامة. حاول بينثام التوفيق بين هذين الاعتقادين بالمُجادلة بأن الفرد بتصرفه للصالح العام هو أيضًا يفيد نفسه، غير أنه عاد وتراجع عن التزامه بنظرية الأنانية النفسية؛ ليعترف بأنَّ الأفراد أحيانًا ما يتصرفون بحكمة تحقيقًا للصالح العام، حتى وإن تعارض ظاهريًّا أو مؤقتًا مع مصالحهم الشخصيّة.

وُجّهت لهذه النظرية العديد من الانتقادات، مثل كونها مَبنيّة على نتائج الأفعال بدلًا من الدوافع خلفها، وكون النظرية تتطلَّب التنبؤ بالنتائج النهائيّة للأفعال، وهو ما ليس دومًا ممكنًا، بالإضافة إلى انتقاداتٍ أخرى مثل كون النظرية تجعل نتيجةَ تصرفٍ ما أخلاقيةً بمحض الصدفة أو الحظ.

النَّفعيّة للأكثريّة، ماذا عن الأقليّة؟

تظهر الانتقادات وجدلية نظرية النفعية للأكثرية عند هذه المرحلة، وتبدو الانتقادات جليّةً أكثر عند تطبيقها على وضع نُعايشه في واقعنا حاليًا بسبب تفشي وباء الكورونا. دولة مثل إيطاليا -والتي تقف حاليًا على قمة الدول من حيث عدد الوفيات جراء الفيروس- يجد الأطباء فيها أنفسَهم وسط جدلية أخلاقية وواقع قاسٍ، يفرض عليهم في بعض المقاطعات تركَ البعض ممّن أُصيبوا بالمرض من كبار السن للموت دون علاج في تطبيق عمليّ لمبدأ النفعية للأكثرية؛ حيث إن طاقة النظام الصحي لا تسمح بتوفير الرعاية والعلاج لكل من يُصابون بالمرض.

رغم أنَّ واحدةً من أشهر الانتقادات المُوجَّهة لنظرية النفعية للأكثرية تتعلَّق بمعادلة بينثام التي تفتح مجالًا أمام الحسابات الخاطئة للاختيار الأكثر توفيرًا للسعادة بسبب كثرة المعطيات وصعوبة قياسها، إلا أنَّ ما يصل إلينا من معلوماتٍ عن أزمة كورونا في إيطاليا يُعلِمنا أنَّ البدائل كلها مُكلّفةٌ في الوضع الراهن، كلفةٌ باهظة تُقدَّر بأرواح أناس لن يُسعفَهم الحظُّ أنْ يتلقّوا العلاج. بافتراض أنَّ الأطباء قرروا معالجة الجميع دونَ تفرقة -وبافتراض كونهم في موقع يسمح لهم بهذا الاختيار- فهذا البديل يعني التعجيل بانهيار المنظومة الصّحّيَّة بأكملها، ويقودنا بطريقةٍ ما إلى النَّتيجة نفسِها، خسائر باهظة في الأرواح.

بعيدًا عن الجدلية الأخلاقية لنظرية النفعية للأكثرية، يبقى البديلُ الأكثرُ جلبًا للسعادة، والأكثرُ تجنيبًا للألم في واقعنا حاليًا؛ هو محاولات الحدّ من انتشار المرض في بلادنا، باتّباع تعليمات الوقاية ونشر الوعي حولنا بقدر إمكاننا، وعدم التَّسفيه من مغزى ونتائج أفعال كل فرد فينا يحاول وقاية نفسه وأحبائه، وأن نتكاتفَ سويًّا لتجنُّب أن نجدَ أنفسنا قد وصلنا لتلك المرحلة الحرجة، حيث نضطرُّ للتَّضحية بالأقلية في سبيل الأكثرية.

 

المصادر:
(2020). Retrieved from https://www.worldometers.info/coronavirus/#countries
Horowitz, J. (2020). Italy’s Health Care System Groans Under Coronavirus — a Warning to the World.
Retrieved from https://www.nytimes.com/2020/03/12/world/europe/12italy-coronavirus-health-care.html
Kleinman, P. (2013). Philosophy 101. (pp. 116-120). Massachusetts: Adams Media
Pavesi, M. (2020). Opinion | I’m a Doctor in Italy. We Have Never Seen Anything Like This. Retrieved from

The History of Utilitarianism (Stanford Encyclopedia of Philosophy). (2009). Retrieved 21 March 2020, from
https://plato.stanford.edu/entries/utilitarianism-history/#JerBen
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي