تشرد فتجد نفسك محاصرًا بتلك الذكريات التي لطالما تمنيت محوها من ذاكرتك فإنها تجلب معها ذلك المزيج من الندم والحزن. قد تنجح أحيانًا في التصالح مع بعض تلك الذكريات لكن يختلف الوضع في حالة هؤلاء من يعانون اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) أو الرهاب (فوبيا).
كيف تتكون الذكريات؟
يبدأ العقل ببعض العمليات الكيميائية التي تحفز نمو الخلايا الدماغية وتكوين توصيلات جديدة بينها، كلما أمعنت التفكير في ذكرى ما أو في الأحداث المرتبطة بها كلما ازدادت قوة التوصيلات العصبية الخاصة بتلك الذكرى؛ مما يعني أن تلك الذكرى ستظل محفوظة في عقلك إن واظبت على زيارة توصيلاتها العصبية من آن لآخر.
أُعتُقِد أنَّ الذكريات الأقدم أكثر قوة من نظيرتها الأحدث، ولكن طبقًا للنظرية السابقة هذا ليس صحيح ففي كل مرة تستدعي فيها ذكرى ما تصبح توصيلاتها نشيطة من جديد وتكون الذكرى أقوى وأكثر وضوحًا عن المرات السابقة وقد تختلف تفاصيلها قليلًا.
هذا هو الحال مع ذكرياتنا المخيفة/السيئة…فعند وقوع حدث سيء يقوم العقل بتخزين ذكراه مع المشاعر السيئة المصاحبة له كآلية دفاع لمنعنا من تكرار هذا الحدث في المرات المقبلة ولكن عند تذكرك هذا الحدث مرة بعد أخرى تختلف الذكرى شيئًا فشيئًا حتى يُصبح رد فعلك (خوفك) غير متناسب مع الحدث الأصلي مما قد ينتج عنه رهاب (فوبيا).
يعتقد البعض أن الذكريات السيئة تكون أكثر وضوحًا من الذكريات الجيدة؛ ويفسرون ذلك بكونها تتضمن تداخل بين كل من المشاعر والذكريات فعندما قام العلماء باختبارات على البعض أثناء استعادتهم ذكريات سيئة وجدوا نشاطًا في المناطق الدماغية المسؤولة عن المشاعر مثل (اللوزة الدماغية – Amygdala) و(القشرة الجبهية الحجاجية – Orbitofrontal-cortex).
كيف تستعيد الذكريات؟
يعتمد الأمر على طريقة رؤيتك وتحليلك للأحداث في سياقها، هذا ما يحدد كيفية ترتيبها داخل عقلك، فنحن نتذكر الأحداث بعلاقتها بأحداث أخرى لذلك فإن ما يُثير تلك الذكريات ويجلبها لعقلك متوقف على طريقة إدراكك لها.
قد يتمثل السياق في أي شيء: مشاعر، رائحة، مذاق، البيئة المحيطة، أفكار أو أي حدث آخر…فماذا قد يحدث إن تغير إدراكنا لسياق مرتبط بذكرى ما؟
في تجربة قام بها العلماء طلبوا من المشاركين تذكر بعض الكلمات أثناء رؤيتهم لبعض الصور وكان الهدف من ذلك خلق سياق لتلك الكلمات، ثم طلبوا من بعض المشاركين أن ينسوا تلك الكلمات…عندما حان الوقت لاختبارهم طلبوا منهم أن يخبروهم بالكلمات، وجد العلماء أن من طُلب منهم أن ينسوا الكلمات لم يفكروا في السياق -الصور- المرتبطة بالكلمات ولذلك لم يتذكروا إلا عددًا قليلًا من الكلمات على عكس هؤلاء من لم يُطلب منهم فقد قاموا بالتفكير في الصور وتذكروا الكلمات.
كيف يمكننا التلاعب بالذكريات؟
يتبع العلماء عدة وسائل باختلاف النتيجة المرجوة من عملية تغيير الذكريات.
في عام 2016 تطبيقًا لما يُسمى بالـعلاج بالتعرُّض للمُثير (Exposure Therapy)؛ قام العلماء بجمع بعض المُصابين بالرهاب تجاه العناكب وبدأوا في عرض بعض الصور عليهم على جلسات منفصلة؛ فوجدوا أن ردة فعلهم اختلفت: ففي أول جلسة انتابهم الخوف ثم في ثاني جلسة تمكنوا من مشاهدة الصور لفترة أكبر دون خوف أما في ثالث جلسة لاحظ العلماء انخفاض ملحوظ في نشاط منطقة (اللوزة الدماغية – Amygdala) التي ذكرنا سابقًا أنها المسؤولة عن المشاعر، مما دفع العلماء للاعتقاد أن هذه الوسيلة مفيدة في حالات الرهاب (الفوبيا) أو القلق حيث يتم تعريض المُصاب إلى ما يسبب له الخوف في بيئة آمنة ويعتمد العلاج على خلق ذكرى جديدة آمنة تجاه ما يهابه المُصاب مما يغطي بعض الشيء على الذكرى المرتبطة بالخوف.
أيمكننا تغيير قدرة العقل على حفظ الذكريات؟
هنالك ذلك العقار الذي يتسبب في زيادة مستويات مادة الـجلوتاميت (Glutamate) التي تعمل على تحفيز خلايا العقل…في تجربة قام العلماء بإعطاء مجموعة من المُصابين بالرهاب هذا العقار قبل تلقيهم جلسة الـ «Exposure Therapy» ولاحظوا انخفاض ملحوظ في مستويات التوتر فيما بعد؛ مما يعني أنه عزز عملية تكوين الذكرى الجديدة الآمنة.
أما في تجربة أخرى قام العلماء بجلب بعض ممن يعانون اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) وأعطوهم عقارًا آخر يعمل على خفض مستويات مادة الـ Glutamate؛ ولاحظوا انخفاض ملحوظ في مستويات التوتر عند استدعاء تلك الذكرى مرة أخرى.
كما أفاد علماء في مدينة New York أنهم تمكنوا باستخدام عقار يدعى (U0126) من مسح ذكريات معينة من أدمغة الفئران مع الحفاظ على سلامة الذكريات الأخرى! -مازال العلاج قيد التجربة-
زراعة الذكريات الخاطئة؟
لابد من أنك قد سمعت هذا المصطلح في إحدى أفلام الأكشن أو الجاسوسية، نعم يوجد ما يسمى بزراعة الذكريات الخاطئة ويعتمد ذلك على البدء بذكرى قديمة لا يتذكرها الضحية بوضوح ثم خلق طبقات من الذكريات والمعلومات بين الصادق والكاذب، حتى يعجز الشخص عن التفريق بين الحقيقة والخيال ويبدأ بالاقتناع بما تخبره من ذكريات.
هذا يوضح كيف يتم إساءة استخدام وسائل الاستجواب.
مازلنا نحتاج إلى الأبحاث لوجود عوامل فسيولوجية متعددة تتحكم في قدرة العقل على حفظ الذكريات فكما نعلم أن النوم هو الوقت الذي يتم فيه حفظ الذكريات وتثبيتها فكيف يمكننا استغلال ذلك؟
بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل ممارسة الرياضة أو اختلاف مستويات الهرمونات أثناء الدورة الشهرية لدى السيدات.
كما أنه هنالك تلك المشكلة الأخلاقية حيث أن تعديل الذكريات سلاح ذو حدين قد يستخدم في علاج المرضى أو في التستر على الجرائم، فكما ذكرت سابقًا؛ تعمل الذكريات كآلية دفاع لمنعنا من تكرار أخطائنا في المستقبل.
فهل حقًا تود أن تنسى تلك الذكريات وتقع في حلقة مفرغة من التكرار لنفس الأخطاء يصاحبها تكرار المشاعر السيئة؟!
إعداد: كريم عياد.
مراجعة علمية: ماريا عبد المسيح.
مراجعة لغوية: محمود الدعوشي.
المصادر:
#الباحثون_المصريون