الحرية هي تجربة نفسية تبدأ من اللحظة التي تدرك فيها الذات الإنسانية وجودها، فهي تشكل جوهر التجربة الإنسانية، ولكن العقل الإنساني لا يكتفي بهذا الشعور وهذه الحقيقة، فمنذ اللحظة التي يشعر فيها الانسان بأنه حر يتبادر إلى ذهنه عددٌ من التساؤلات والأفكار مثل: الصدفة والضرورة والقضاء والله والمصير وحتمية قوانين المادة، إلخ. مما يجعله يعيد التفكير متسائلًا: «هل أنا حقًا حر؟». (1)
هذا الالتباس جعل من مسألة الحرية مشكلة المشكلات في تاريخ الفلسفة، وقد زاد الأمر صعوبة الخلاف الشديد بين الفلاسفة على تعريفٍ محدد لها، فقد كان لكل عصر تعريف وفهم معين عنها، لكن في تلك المقالة سنركز على الفهم اليوناني لفكرة الحرية، لأن فكرة فلاسفة اليونان عن الحرية كانت صاحبة التأثير الأكبر عن الحرية في التاريخ.
الحرية السياسية في اليونان القديمة
البداية مع اليونان القديمة التي لم تكن تختلف كثيرًا عن باقي الحضارات الشرقية القديمة فيما يخص مفهوم الحرية، حيث كان لفظ «حر» يطلق على الإنسان الذي يعيش بين شعبه وعلى أرض وطنه دون أن يخضع لسيطرة غريب عليه، وذلك في مقابل «الأسير أو العبد» الذي يعيش في الغربة تحت سيطرة سيد عليه، ومع ظهور وانتعاش «دولة المدينة» في اليونان، وذلك في حدود القرن السابع ق.م، صارت الحرية مساويةً لكل من يعيش بداخل المدينة حيث يسود «القانون»، فالمواطن الذي يعيش بداخل مدينته الأم هو الحر، والغريب عن المدينة ليس حرًّا لأنه غير خاضع لقانون المدينة، وقد اعتقدوا أن الآلهة اليونانية هي التي وضعت القانون للمدن اليونانية الذي بموجبه يصبح كل مواطن حر، فصارت الحرية موضع تقديس وعبادة لهم. (2)
الطبيعة في مقابل المدينة
كانت البداية الحقيقية لمشكلة الحرية فلسفيًّا مع ظهور حركة السوفسطائية، وهي جماعة من المفكرين الذين اتخذوا من الخطابة مهنةً لهم، فقد فَرَّقَ أعلام هذه الحركة لأول مرة بين «حالة الطبيعة» وبين «حالة القانون والمدينة» مؤكدين على التضاد والتقابل بينهما، وعلى العكس من السابقين فقد صارت الحرية لديهم تعني أن يعيش الإنسان وفقًا للطبيعة، أي لتلبية الغرائز والرغبات الطبيعية المباشرة للفرد، بينما القانون والتحريمات هي مِن وَضْعِ الإنسان نفسه، ولا غاية لها إلا كبح حريته وتقويضها. من هنا صارت قضية الحرية موضع نقاش وتأمل فكري خاصة بعد تسليط السوفسطائية الضوء على إنسانية القوانين والأخلاق، فهي بالنسبة لهم ليست من وضع الآلهة ولا كامنة في الطبيعة كما كان يظن الأوائل، وإنما هي من وضع الإنسان ورجال السياسة خاصة، وقد اختلفوا حول قيمة تلك القوانين التى تكبح حرية الفرد؛ فمنهم من قال بأنها ضرورية لاستمرار المجتمع، وهناك من نادى بالتمرد عليها والدعوى لتلبية الغريزة فقط.
سقراط والحرية الأخلاقية
في ظل هذه الأجواء المفعمة بالشك والتساؤل عن جدوى القانون والأخلاق ظهر الفيلسوف سقراط وأكسب النقاش حول الحرية بعدًا جديدًا سيظل مرتبطًا بها حتى الفلسفة الحديثة، فقد عرَّف سقراط الحرية بأنها: «قدرة الإنسان على فعل ما هو أفضل»، أي أن الحرية عند سقراط هي فعل الخير، ولكي يفعل الإنسان الخير لا بد له أن «يعرف أولًا ما هو الخير»، فالمعرفة هي شرط الحرية التي هي أساس فعل الخير، ومن هنا ولأول مرة اكتسبت الحرية معنًى أخلاقيًّا بحتًا، فالإنسان الحر هو الإنسان العارف بالخير وبالتالي القادر على ممارسته، والهدف النهائي للحرية عنده هو ضبط النفس تجاه إغراءات الواقع وتقلباته، والفحص الدائم عن ما هو أفضل بهدف تحقيق الخير. (2)
ومع أفلاطون تم التأكيد على ثنائية «الخير والمعرفة» السقراطية، فالخير عند أفلاطون مطلق ويراد لذاته ومكتفي بنفسه، والإنسان الحر هو من يتجه فعله نحو الخير، فلا تتحكم فيه «الضرورة» سواء كانت مادية أو معنوية. (3)
أما أرسطو فقد كان أول من ربط الحرية بالمعرفة والإرادة معًا، فقد انتقد المبدأ السقراطي/ الأفلاطوني القائل بأن معرفة الخير كافية لفعله فقد يفعل الإنسان الشرور رغم عرفته بالفضيلة، وأضاف أن فعل الخير يتوقف أيضًا على طبيعة الإرادة الإنسانية فقد أعطى مساحةً للدوافع النفسية التي تؤثر على الأفعال بعيدًا عن العقل والمعرفة، فلكي نصل إلى الحرية لا بد من وجود الاختيار الصائب القائم على المعرفة العقلية من جهة مع تهذيب الإرادة، التي نصل إليها عن طريق التربية من جهة أخرى. (3)
لقد ورثت العصور الوسطى الإسلامية والمسيحية والفلسفة الأوروبية الحديثة، ذلك التحديد الأرسطي للحرية على أنها عملية الاختيار القائمة على العقل والإرادة معًا، وبالتالي أصبح ذلك التعريف هو المفهوم الشائع عن الحرية الإنسانية فيما بعد.
إعداد: مصطفى ماهر
مراجعة: مايكل ماهر
المصادر:
- مشكلة الفلسفة – زكريا ابراهيم / ص16
- موسوعة الفلسفة – عبدالرحمن بدوي / ص458
- المصدر السابق / ص459