لطالما تلقينا في سنوات دراستنا المبكرة نصوص أدبية تحكي لنا أمجاد من سبقونا سُكنة على هذه الأرض، أولئِك من تركوا لنا معابدهم وقصورهم لتحكي لنا عن عظمة صانعيها، ولتروي صمودها أمام الزمن، أخبروك كم كانوا معماريين عظام، وسردوا لك عن عبقريتهم في الطب والتحنيط، ولكن هل سمعت من قبل عن كيمياء فرعونية؟
1- الزجاج:
لا يزال سبق صناعة الزجاج من المجهولات حتى زمننا هذا، ولكن يعتقد أن المصريون القدماء كانوا من رواد صناعته الأوائل، وبالرجوع إلى سنة (2500ق.م) ظهرت صناعة التمائم الزجاجية والخرز الزجاجي في بلاد مابين النهرين، وتبعهم المصريون بعدها بألف عام.
أ- متى ولماذا؟
صنعت الأواني الزجاجية للمرة الأولى في مصر في عهد تُحتمس الأول في المملكة الحديثة؛ حيث انتقلت هذه الصناعة إلى المصريين كنتيجة لتوسعهم في بلاد الشرق الأوسط، ولكن تحديدًا بدأت صناعة الزجاج تنتشر على نطاق واسع في مصر مع بدايات الأسرة الثامنة عشر عام (1500ق.م)، ومع اكتشاف الخزف (خليط من رمل الكوارتز ومادة قلوية مغطاة بطبقة من الزجاج) انتقلت صناعة الزجاج إلى مرحلة أخرى، حيث أصبح الزجاج قابل للخلط، الصب في قوالب، وحتى الشحذ، ولكن انخفضت صناعة الزجاج بعد الأسرة الحادية والعشرين (1069-945 ق.م) وعادت للازدهار مرة أخرى في الأسرة السادسة والعشرين (664-585 ق.م) ولكن على نطاق منخفض.
بجانب صناعة التمائم ورموز الحيوانات الصغيرة وأحجار الفسيفساء وترصيع المجوهرات، كان الزجاج بالنسبة للمصريين كالأحجار الكريمة، ولكن بمرتبة أقل نظرًا لكونه مُصنع، كما أنه كان مكلف جدًا ومحصور على الملوك والكهنة وكبار رجال الدولة، واستخدم في ذلك الوقت كهدايا قيمة.
ب- كيف تمت صناعته؟
صُنْع الزجاج في هذا العصر كان عن طريق خلط السيليكا والرمل والجير الصودي في عملية عرفت با.سم (تشكيل الدلاليك والقطع البارد Core-Forming and Cold Cutting) وكانت طريقة خاصة جدًا بالصناعة المصرية القديمة للزجاج، ولكن تم التخلي عنها مقابل طريقة (نفخ الزجاج Glass Blowing) خلال العصور الرومانية.
2- النطرون:
في مصر القديمة، اشتهر الكهنة بالمهارة والحرفة العالية في تحنيط الموتى، ساعيين للحفاظ على الجسد في شكل مفعم بالحياة لأطول فترة ممكنة، وذلك بغرض مساعدة هؤلاء الموتى في رحلتهم عبر الحياة الأخرى، والتحنيط ليس مجرد طقس ديني ذو معنى روحاني عند المصريين القدماء وفقط، بل إنه يقدم تصويرًا عن كيفية تعاملهم مع العلم بشكل عام وربطهم إياه بطقوسهم الدينية، ولعل أفضل الأمثلة على ذلك هو مادة النطرون، والذي يستخدم كنوع من طقوس التحنيط بالتوازي مع اكتساب فائدة حفظه للأجساد الميتة.
أ- ماهو وأين يوجد؟
النطرون عبارة عن كربونات صوديوم مائية تحتوي على عناصر الهيدروجين والأكسجين والصوديوم والكربون، وتستخدم في تجفيف واستخلاص الرطوبة من الأجساد، وذلك لقدرته على امتصاص الماء وحبسه بين جزيئاته.
استخدم المصريون النطرون أيضًا كمطهر ومنتج للنظافة الشخصية، كما تدخل تلك المادة أيضًا في صناعة السيراميك والزجاج والأصباغ، واستخرجها المصريون القدماء من وادي النطرون، ذلك الوادي الذي يدين باسمه لتلك المادة.
ب- تحضير المومياوات:
بعد الإزالة السريعة للأعضاء المتحللة من جسد الميت؛ يقوم المحنِطون بتجفيف الجسم، وطبقًا ل(معهد سميثسيونيان Smithsonian Institute)، فقد قاموا باستخدام النطرون لهذا الغرض لكونه عامل مجفف جيد جدًا، بالإضافة إلى وضع رزم من النطرون داخل الجسد نفسه، وما أن يجف الجثمان؛ حتى يقوم المحنطون بإزالة النطرون والبدأ في لف المومياء.
ج- ما الدليل على استخدامه؟
يذكر (متحف ويليام أر. وكلاريس ف. سبورلوك The William R. and Clarice V. Spurlock Museum) التابع ل(جامعة إلينوي University of Illinois) في (أوربانا-شامبين Urbana-Champaign ) أنه تم العثور على آثار للنطرون في الأواعي والحقائب الموجودة في المقابر المصرية القديمة، كما تظهر تلك الآثار أيضًا على طاولات التحنيط وعلى بعض المومياوات، ويذكر المؤرخ اليوناني القديم (هيرودوت-Herodotus) في وصفة لعملية التحنيط استخدام نوع من الأملاح كعامل لتجفيف الجثامين، ويُرجَّح أن يكون هو النطرون.
3- مساحيق التجميل:
أظهرت التحاليل الكيميائية لمساحيق التجميل الخاصة بمصر القديمة والتي ترجع إلى عام (2000 ق.م) مستوى من التطور غير المتوقع في الكيمياء الرطبة (الكيمياء التي تتم التفاعلات فيها في الحالة السائلة)، بل وتطوير تقنيات من الصعب تصديق وجودها في أزمنة كتلك.
أ- ما المبهر؟
من المعروف استخدام المصريين القدماء تقنية الحرق لإنتاج بعض الأصباغ كالأصباغ الزرقاء الخاصة بهم، والتي يرجع تاريخ صناعتها إلى عام(2500 ق.م)، ومع ذلك، فإن طريقة الحصول على مساحيق التجميل ذات الألوان السوداء والحمراء والبيضاء كانت مجهولة لفترة طويلة؛ حيث حدد الباحثون عددًا من المركبات العضوية والمعدنية الموجودة في تلك المساحيق، منها مركبان معدنيان موجودان بصورة طبيعية ووفيرة في الطبيعة، كـ (الجالينا-Galena) (PbS)، و( السيروسيست Corussite ) ( PbCO3).
ولكن ما أثار فضول الباحثيين وجود مركبين آخريين من النادر وجودهما في الطبيعة، وهما (الليرونيت laurionite) (PbOHCl) و(الفوسوجنيتphosgenite) (Pb2Cl2CO3)، واستبعد الباحثون كون مصدر هذين المركبين هما الطبيعة، وذلك لعدم اتساق ندرتها في الطبيعة ووفرتها في تلك المساحيق، وبذلك توصلوا للاستنتاج مفاده قدرة المصريين القدماء على تحضير تلك المركبات صناعيًا.
ب- كيف ذلك؟
صمم الباحثون الطريقة التي يُعتقد أن المصريين القدماء استخدموها لإنتاج مثل هذه المواد، مستعينين بالوصفات المكتوبة من قبل المؤرخين الكلاسيكيين، وطبقًا لتلك الوصفات؛ فقد تم تكسير (رغوة الفضة Silver Foam) (PbO) مع الملح الصخري والنطرون، ثم تصفية ذلك الراسب المتكون من هذه العملية وإجرائها مرات أخرى يوميًا لعدة أسابيع، وكانت النتيجة كما هو متوقع، ففي وجود النطرون في هذا الخليط، تم استخرج الفوسوجنيت، ومع نزعها من الخليط تم الحصول على الليرونيت.
إعداد: Ahmed Fahmy
مراجعة: Amira Esmail
المصادر:
(1)
Friday, Hirokawa 12 February 1999 D., Channel ES. Ancient Egyptian cosmetics and chemistry [Internet]. 1999 [cited 2018 Mar 30]. Available from: http://www.abc.net.au/science/articles/1999/02/12/18834.htm
(2)
Natron in Ancient Egypt [Internet]. [cited 2018 Mar 30]. Available from: https://sciencing.com/natron-ancient-egypt-7918.html
(3)
Egyptian Glass – Ancient Egypt and Glass [Internet]. [cited 2018 Mar 29]. Available from: http://www.historyofglass.com/glass-invention/egyptian-glass/