لماذا أفراد بعض المجتمعات أكثر استقلالية من غيرهم؟

1517425_1528066344111845_687931302606274791_n

يتميز المواطنون الأوروبيون و الأمريكان بشعورهم بالاستقلال الفردي عن باقي سكان العالم، بل ويعتبرون أنفسهم مميزين عن بعضهم وعصاميين لديهم دوافع ذاتية كما لاحظ عالم الأنثروبولوجيا كليفورد جيرتز Clifford Geertz. في حين أن المواطنين في باقي أنحاء العالم يفهمون أنفسهم غالبا من خلال علاقاتهم المتشابكة مع الآخرين والاعتماد على بعضهم البعض. فالهدف في هذه المجتمعات هو أن تُؤقلم نفسك تبعا للآخرين و ليس لتبرز نفسك، حيث يعتقد الفرد بأنه جزء من كيان كبير كخيط في نسيج .


يُقال في أمريكا : “The squeaky wheel gets the grease” أو «العجلة ذات الصرير تحصل على الشحم»
و فى اليابان يقولون “The nail that stands up gets hammered down” أو «المسمار البارز يُدق لأسفل»
لاحظ كليفورد جيرتز عالم الأنثروبولوجيا (علم دراسة الإنسان) هذه الظاهرة و قام بدراسة هذه الاختلافات المتباعدة. تدل الأبحاث على أن هناك متناقضات واضحة تؤدى إلى نتائج بعيدة المدى.

وجد ريتشارد نيسبت Richard E. Nisbett ،عالم النفس الاجتماعى، وزملاؤه أن اختلاف المفاهيم والتوجهات نحو «الاستقلالية» و «التكافل» يؤثر على عملية الإدراك للفرد.فالأمريكان مثلا يتجاهلون سياقات الحديث ( كالتلميحات /اختيار زمان و مكان معينين/ اختيار الألفاظ بدقه)، في حين يهتم الآسيويّون كثيرا بهذه السياقات. و إذا اظهرنا لوحة لسمكة كبيرة تسبح بين أسماك و أعشاب بحرية و كائنات أخرى، سيذكر الأمريكي السمكة الكبيرة أولا لأنها علقت بذهنه أكثر من الخلفية ولكن سيذكر الياباني الخلفية و الحشائش و الأشياء الأخرى.
عالم نفسى آخر، هزال روز، طلب من الوافدين من مطار سان فرانسيسكو ملء استمارة وقدم لهم مجموعة أقلام ليختاروا منها، مثلا أربعة أقلام برتقالية وقلم أخضر. فغالبا كان يختار الأوروبيين القلم البارز و يختار الأسيويون القلم المشابه للبقية. اكتشف د.هزال روز أن هذه الاختلافات يمكن أن تؤثر على الصحة. فالتأثير السلبي، كعدم الرضا عن النفس، يؤدى إلى مشاكل جسدية لدى المواطنين الأمريكان أكثر منها لدى الاسيويين، حيث ينسب الشرقيون مشاعرهم إلى مواضع أكبر بدلا من لوم أنفسهم.
هناك بعض الحقائق في الافتراضات الحديثة، إن كافة المجتمعات ستغدو أكثر غنى وثراء والناس اكثر استقلالية، و لكنها لم تفسر أسلوب الترابط القوى في المجتمعات الشرقية كاليابان وكوريا والصين.

نشرت مجلة العلوم “Science” في مايو السابق دراسة قادها عالم النفس الشاب توماس تالهيلم من جامعة فيرجينيا. وأرجع توماس هذه التوجهات و المفاهيم المختلفة للمجتمعات التي نشأت على زراعة القمح والمجتمعات التى نشأت على زراعة الأرُز. و أوضح أن الأرز محصول صعب حيث تحتاج الحقول لمياه راكدة وتتطلب أنظمة ري معقدة،و التي لابد وأن يتم بناءها سنويا. و إذا استخدم المزارع المياه لصالحه فقط قد يؤثر على نتاج جاره. و أن مجموعات مزارعي الأرز لابد وأن يعملوا معا بطريقة متكاملة ومحكمة. و على عكس مزارعي القمح.. فالقمح يحتاج فقط مياه الأمطار ولا يحتاج لري وزرعه و حصاده يستغرقان نصف المجهود المبذول في زراعة الأرز و بالتالي يحتاج إلى تعاون أقل. وقد كان الأوربيون عبر التاريخ ولا يزالون يزرعون القمح والأسيويين يزرعون الأرز.
أكد الباحثون أن المجتمعات التي تزرع الأرز والقمح اكتسبت ثقافات مميزة و متباينة خلال آلاف السنين «فأنت لا تحتاج إلى أن تزرع الأرز كي تكتسب ثقافة مجتمعات الأرز !».
أقيم الاختبار في الصين، حيث يقسم نهر يانجتزى مزارع الأرز الشمالية عن مزارع القمح الجنوبية. و أعطى الباحثون سلسلة من المهام لكل من سكاني هذه المناطق المختلفة. سألوا على سبيل المثال أي اثنين من هؤلاء الثلاثة يُنسَبون معا: حافلة وقطار وخط سكة حديدي. المفكرين التحليليين و الأقل حساسية للسياقات الفرعية (مزارعي القمح) اقرنوا الحافلات و القطارات، وذلك لانتمائهم لنفس الفئة التفكيرية التجريدية. أما المفكرين الأكثر شمولية والحساسين للسياقات الفرعية (مزارعي الأرز) اقرنوا القطار و خط السكة الحديد لان كلاهما يعملان معا.
و عندما طلب منهم أن يرسموا صورة لشبكاتهم الاجتماعية، رسم ساكنوا حقول القمح أنفسهم أكبر واكثر وضوحا من أصدقائهم، بينما وضح ساكنوا حقول الأرز أصدقائهم اكثر من أنفسهم.

و عند ردهم على سؤال «ماذا ستفعل اذا تسبب صديق فى خسارتك للمال فى عمل ما ؟» .. كان عقاب الصديق في مناطق الأرز أقل من العقاب في مناطق القمح. ومن الواضح أن مناطق القمح يوجد بها إبداعات أكثر، و معدل الطلاق أقل في مناطق الأرز.
في مجتمع الأرز.. الحكمة السائدة هو أن كل ما تحتاجه هو مكان تعمل فيه وأفكار سليمة وطاقة تعمل بها وسوف تجد الصحبة التي ستحدث تغييرا بالعالم. الرؤى الجريئة التي قدمها أصحاب الأعمال فى تفاؤلهم قد تأخذ الأنفاس، و لكنهم ما زالوا يحتفظون بمكان للعجائز والمؤسسات الأزلية و جذور و روابط المجتمع العميقة.

و بالطبع لا ينضم الكثير من مجتمعات الأرز للاحزاب السياسية. أعلن تيد كروز -عضو مجلس الشيوخ بولاية تكساس- مؤخرًا أن كل ما يحتاجه الرجل هو حصان وسلاح ناري وأراضٍ مفتوحة و بإمكانه غزو العالم.
لا ينمو القمح في كل مكان. لن تحل الوثبات البعيدة كل مشاكلنا.. و راعي البقر إن كان وحيدا ليس بتلك القوة حتى ينجو من عواقب إعصار كاترينا. و مع دخولنا الموسم الذي يرفع الشعار «افعل ذلك بمفردك»، فمن المرجح أن يُهيمن المذهب الفردي المُستقِل على الكونجرس الأمريكي. ومن الجدير بالذكر أن هذه الطريقة في التفكير قد تكون ناتجة عن زراعة الأجداد لطعامهم و ليست ناتجة عن تقدم الإنسانية!


إعداد وترجمة: Nabila Baghdady
تدقيق: Mohammed Ayman Hamad

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي