تحكي رواية مئة عام من العزلة، لأديب نوبل جابرييل جارسيا ماركيز، عن قرية مُتخيلة وهي قرية «ماكوندو» الواقعة على ساحل الكاريبي، وفيها يتتبع الكاتب الكولومبي ماركيز حياة عائلة «آل بوينديا» على مرّ ستة أجيال تعيش فيها هذه العائلة بأفرادها ذوي الطباع والقدرات الغريبة، وتشهد القرية وأهلها تحولاتٍ مختلفةً وجذرية، إلى جانب التطرق لمجتمع ماكوندو الغريب الذي يتسم بعزلته بعض الشيء. وتتقاطع أحداث الرواية الخيالية مع تاريخ كولومبيا و انفصالها عن أسبانيا و إعلان استقلالها، وحربها الأهلية التي اندلعت في عام 1885 قبل أن تنتهي بتوقيع معاهدة نيرلانديا سنة 1902 بواسطة زعيم الثوار الكابتن «رافائيل يريبي» الذي حارب جدُ الكاتب تحت إمرته.
وتعد رواية مئة عام من العزلة من بين أكثر الروايات الأدبية العالمية أهميةً ويصنفها البعض كالأكثر قراءة. وكان عمل ماركيز رئيسي ورائد في الحركة الأدبية التي عُرِفت فيما بعد بالواقعية السحرية، التي تميزت بالعناصر الخيالية الشبيهة بالحلم منسوجةً في نسيج الروايات.(1)
ووصلت أعداد النسخ المبيعة حوالي 50 مليون نسخةً عالميًا، مما يجعلها في مصافّ رواياتٍ شهيرةٍ وذات شعبية واسعة؛ مثل مغامرات شيرلوك هولمز ولوليتا وأن تقتل طائرًا محكيًا ورواية 1984.(2) ونُشِرت الرواية للمرة الأولى في الخامس من مايو 1967، ومنذ ذلك الحين أصبحت علامةً فارقةً في الأدب اللاتيني وكانت من بين الأسباب الرئيسية لترشح جارسيا ماركيز لجائزة نوبل للأدب والفوز بها في 1982.(4) لكن الرواية التي صدرت منذ ما يقرب من ستين عامًا ما زالت تحظى حتى الآن باحتفاءٍ شعبيّ على مستوى القراء، وثقافيّ على مستوى النقاد، ما يجعلها روايةً مميزةً وعلامةً فارقة في الأدب العالميّ وذلك لعدد من الأسباب.
كواليس الرواية ومطاردة ذكريات الطفولة
مسكينة جدة جدَّي، لقد ماتت من الشيخوخة.
– إنني حية.
قالت آمارانتا أورسولا وهي تكبح ضحكتها: أترى! إنها لا تتنفس.
فصرخت أورسولا: إنني أتكلم!
قال أوريليانو: إنها لا تتكلم، لقد ماتت مثل جدجدٍ صغير.
عندئذ استسلمت أورسولا للأمر الواقع، وهتفت بصوت خافت: «رباه! إنه الموت إذًا»رواية مئة عام من العزلة.
استغرق ماركيز في كتابة الرواية ما يقرب من ثلاثة عشر شهرًا من بين يوليو 1965 وحتى أغسطس 1966. وحتى بعد انتهائه من الرواية كان الشك يراود جارسيا ماركيز عن مدى جودة روايته، حيث كان مرتابًا من إمكانية عدم نجاح الرواية حتى أنه أخبر صديقه في خطاب له:
«شرعت في مغامرة إما تكون محظوظةً أو كارثية.» (3)
ويقال أن ماركيز أحرق كل المخطوطات والملاحظات والرسوم البيانية بعد استلام النسخة الأولى من الكتاب من دار النشر الكولومبية، فلم يترك إلا نسخةً واحدةً قد باتت الآن محفوظةً في مركز رانسوم بجامعة تكساس. وتتضمن النسخة المكتوبة بخط اليد ما يقرب من مئتي تعديل، التي تكشف عن متغيرات نصيّة مدهشة مع النص النهائي للرواية التي نشرتها دار النشر الكولومبية (Sudamericana) في حينها.(3)
- ماركيز يكتب على الآلة الكاتبة.
ضِمن سرد ماركيز في رواية مئة عام من العزلة وحكاياته التي جمعت بين الغريب والقصص الشعبية، وفي الرواية التي يصفها ماركيز نفسه بكونها «طويلةٌ جدًا ومعقدة»، أراد الكاتب الكولومبي أن يعيد بناء ذكرياته عن أجواء الطفولة التي عاش فيها ولكن بلمسةٍ سحريّة. وأراد ماركيز أن يعود إلى القرية التي سكن فيها مع جدّيه لأمه في «أراكاتاكا» التي تقع، كما ماكوندو، في إقليم الكاريبي ولكن قريته حقيقية في بلده وموطنه كولومبيا.(3)
وعاش ماركيز في هذه القرية حتى بلغ الثامنة من عمره، وظلت هذه الذكريات مع منزل الأجداد تطارده كافّة أيام حياته، مما جعله يعود لهذه الذكريات لتكون النسيج الذي غزل به أشهر وأعظم أعماله الروائية، فمن القرية التي قضى فيها طفولته وُلِدت القرية الخيالية ماكوندو التي حكت عنها الرواية.(3)
مئة عام من العزلة والاستعمار
«إن سلاحهم يضاهي سلاحنا ولكنهم فوق ذلك يحبون القتال أكثر منا.»
مئة عام من العزلة.
من بين أهم الأسباب التي قُوبلت بها الرواية باحتفاءٍ على المستويين الشعبيّ والنقديّ هو كون الرواية تتضمن من بين أحداثها إشارةً للاستعمار الأوروبي وما تسبب فيه لدول أمريكا اللاتينية. حيثُ كانت أمريكا اللاتينية تمتلك سكانًا أصليين من الآزتك والإنكا ولكن حين وصل المستكشفون الأوربيون غيروا الكثير من عادات هؤلاء السكان، كما بدأوا في التخلي عن بعض أعمالهم بسبب التكنولوجيا الجديدة والرأسمالية التي جاء بها المستكشفون معهم. على الورق استعان ماركيز بهذا التاريخ، فقرية ماكوندو النائيةُ المعزولة ستبدأ هي أيضًا في التحول من مستوطنةٍ بسيطةٍ للغاية، إلى قرية أكثر تعقيدًا حين يأتي الغرباء بالمال والتكنولوجيا.
كما تعكس الرواية المراحل المبكرة في نمو أمريكا اللاتينية إلى جانب أن الرواية تتطرق في بعض أحداثها للحالة السياسية التي كانت حاضرةً وقتها في بلدان أمريكا اللاتينية، فكما كانت ماكوندو تشهد تغيراتٍ متكررةً في الحكومات كانت بلدان أمريكا الجنوبية أيضًا تمر بنفس التغيير ذاته. ويمكن القول أن رواية ماركيز الشهيرة تحكي قصة التاريخ الكولومبي وتاريخ أمريكا اللاتينية والمعاناة من الاستعمار الأوروبي وبزوغ هذه البلدان إلى مرحلة التحضر.(1)
ومن بين الأسباب التي جعلت رواية مئة عام من العزلة محفورة كرواية في التاريخ رغم مرور الكثير من السنوات على إصدارها أنها تلتقط شيئًا من الخبرات التاريخية المشتركة لملايينٍ من الناس ليس فقط في أمريكا اللاتينية ولكن خبراتٍ تشعر بها كل الأراضي التي وطأتها أقدام الاستعمار.(2) فيقول الكاتب الإنجليزي من أصول غانيّة، (ني إيكيوي باركيس- Nii Ayikwei Parkes)، إن مئة عامٍ من العزلة تعلّم الغرب كيف يقرأون حقيقةً بديلة لحقائهم، وبالتالي فتحت الباب لمزيد من الكتاب غير الغربيين من آسيا وإفريقيا. كما يشير الكاتب أن الرواية علَّمت القراء الغربيين التسامح مع منظور الآخرين.(2)
ماركيز وتاريخ القارّة اللاتينية
«أهل أمريكا اللاتينية لم يعرفوا الراحة أبدًا لكنهم ردوا على القمع والنهب من قِبل الجميع بالحياة.»
جابريل جارسيا ماركيز.(5)
أراد ماركيز أن يعيد كتابة تاريخ القارّة التي ينتمي لها، ولكن ليس كسردٍ تاريخيّ أو من خلال رواية تاريخية نمطيّة؛ إذْ اختار نوعًا مغايرًا مزج بين الخيال والواقع ليعيد تفكيك أحداث التاريخ ويسردها بطريقته الخاصة في الرواية. وتصور مئة عام من العزلة عددًا من الأحداث الحقيقية في التاريخ الكولومبي والقارة اللاتينية مثل الحرب الأهلية وحرب الألفِ يومٍ وإضرابات العمال ومذبحة عمال مزرعة الموز، والمزارع الموجودة في المستعمرات. كما تتطرق مئة عام من العزلة ليس فقط للتجربة اللاتينية ولكنها تطرح تساؤلاتٍ أكبر عن الطبيعة الإنسانية، فالرواية تسرد ظروفًا معينةً تاريخيةً واجتماعيةً تجمع بين الخيال والفنتازيا كما تقدم احتمالية الحب والحزن والاغتراب والعزلة.(1،4) وتمتلئ الرواية بالتفاصيل والملحوظات والإشارات التاريخية المتعددة، كما يتميز أسلوب السرد بكونه يمتع القارئ ولا يجعله يملّ من الطبقات المتعددة للمعاني التي تحملها الرواية.(5)
واستوحى الكاتب من ثقافته وبيئته في القارّة اللاتينيةِ الأجزاءَ السحرّية المدهشة والحكايات الشبيهة بقصص الجدّات والعجائز، كما أطلق العنانَ لمخيلته لتخلق عوالم غريبة. واستخدام ماركيز في روايته الأجواء الغربية التي جاءت منسوجةً بعنايةٍ مع الوقائع والأحداث التي تبدو منطقية، إذ تكثر الأحداث الغريبة التي صنعها الكاتب في الرواية، تلك الأحداث التي تتعامل معها شخصيات الرواية باعتبارها عاديةً للغاية. فعلى سبيل المثال هناك شخصيةٌ لأحد أفراد أسرة بوينديا تصيبها الجنون وتقضي السنوات الأخيرة من الحياةِ مربوطةً في شجرةٍ من قِبل العائلة، كما يصعد أحد الأبناء ذات مرّة إلى السماء وهو يطوي الغسيل!(4)
تسهم الأجواء الغرائبية في جذب القارئ لاستكشاف عالمٍ فريدٍ صنعه ماركيز في الرواية، ما يجعلها أسطورةً أدبيةً تقلب الحقائق رأسًا على عقب كي تظهر لنا ما يخفي خلف الحقائق(2) ويجعلها روايةً صالحةً للقراءة في كل وقت. وكان ميل ماركيز إلى التعامل مع هذه الأحداث باعتبارها عاديةً هي السمة المميزة للواقعية السحرية، وكان الأسلوب الفانتازي للحكيّ شائعًا بين كبار الكتاب في أمريكا الجنوبية من جيله.(4)
ولم تكن الرواية تعريفًا بتاريخ وثقافة أمريكا اللاتينية المختلفة عن الثقافة الأوروبية فقط، بل إنها فتحت الباب لتدفق مزيدٍ من الأدب اللاتينيّ للقراء في جميع أرجاء العالم. وقبل وصول رواية مئة عامٍ من العزلة بترجمتها من الإسبانية إلى الإنجليزية للقارئ الغربيّ ومن بعده العالميّ، لم يكن الأدب اللاتيني ذائعَ الصيتِ خارج القارّة اللاتينية، ولذا فإن تعرّف القراء في جميع أرجاء العالم على مؤلفات ماركيز وإيزابيل الليندي وبابلو نيرودا يعود للنجاح الذي حققته الرواية على المستوى العالميّ، ومن هنا بدأت تنتشر الترجمات لكثيرٍ من الروايات اللاتينية.(5)
نجاح شعبي ونقدي
«كل صفحةٍ مليئةٌ بالحياة بما يتجاوز قدرة أي قارئٍ على استيعابها.. لا توجد جُمل ضائعة، ولا مجرد انتقالات، في هذه الرواية، ويجب أن تلاحظ كل شيءٍ في اللحظة التي تقرأ فيها.»
الناقد الأمريكي هارولد بلوم عن رواية مئة عام من العزلة.(5)
استطاعت رواية ماركيز مئة عام من العزلة أن تحقق معادلةً صعبةً بنجاحها الشعبيّ والنقديّ. فكثيرٌ من النقاد أثنوا على الرواية منذ صدورها وحتى الآن، وقال عنها الكاتب التشيلي، بابلو نيرودا، إنها «العمل الأعظم في اللغة الإسبانية منذ رواية دون كيشوت.»(3) كما تُعرف الرواية بلغتها الشعرية ونطاقها التاريخيّ إلى جانب التعقيد الموضوعيّ والرمزيّ لها مما جعل الناقد الأمريكي ويليان كينيدي يقارنها بسفر التكوين في الكتاب المقدس.(5)
ويمكن تفسير نجاح الرواية شعبيًا على نطاق واسعٍ بأن الكاتب حرِص في روايته على إضفاء سماتِ المسلسل التلفزيونيّ الجذاب، مثل الشخصيات التي يمكن للقارئ أن يحبها أو يكرهها، والعلاقات الفاشلة والجنس والعنف والشجار العائلي اللانهائي والمأساة والمكائد والميلودراما، حيث أراد ماركيز الوصول بعمله إلى أكبر عددٍ ممكن من الناس من خلال استخدام الإثارة والتسلية لكنه أيضًا لم يجعلها خاليةً من القيمة الأدبية.(5)