كمعتقدٍ دام طويلاً منذ القرن العشرين -الذي يعدّ القرن الذهبي لعلم الوراثة بعد اكتشاف الشيفرة الجينيّة وتسلسل الجينات لدى الإنسان- كان مصير الإنسان بما يتعلّق بالمظهر والسلوك وحتى استعداده للإصابة بأمراض معينة خاضعاً بشكل أساسيّ لجيناته. ومن المثير للاهتمام احتواء جميع خلايا جسم الإنسان على نفس النسخة الجينيّة، ومع ذلك تتمايز كل مجموعة من الخلايا لتعطي عضواً ونسيجاً مختلفاً عن مثيلاتها. [2]
ربما يُعَد الدليل الأهم والأقوى على أهمية الـ (Epigenetics) هو ما يحدث فى تكوين الجنين، إذ تكون البداية عبارة عن خلية واحدة تسمى (Zygote) تنشأ عن تلقيح البويضة، تمتلك هذه الخلية نسخة محددة من الجينات، لكنها تنقسم فيما بعد لتعطي خلايا قادرة على إنتاج خلايا متخصصة متعددة كخلايا العضلات والأعصاب والخلايا المبطّنة للأوعية الدموية وخلايا الكبد وما إلى ذلك من الخلايا المتعددة التى تكوّن جسم الجنين. رغم تشابه الجينات فى الخلايا الجذعيّة الأوليّة، إلا أن كلاً منها يكون قادراً على التخصص لإنتاج نوع محدد من الخلايا، كيف يحدث هذا؟ الإجابة تجدها فى علوم ما فوق الجينات، حيث تستطيع الخلايا أن تحفّز التعبير عن بعض الجينات، بينما يُثبّط البعض الآخر، وبهذا نحصل على أشكال وصفات متعددة من شيفرة وراثية واحدة. [10]
أثار هذا الأمر العقول نحو احتمالية وجود عوامل أخرى تحدد بدورها نشاط الجين من عدمه، وكيفية قراءة الخلية له، وبالتالي يمكن للنشاط الجيني أن يختلف من يوم إلى آخر ومن شخص إلى آخر. وهذا يفسر ما وجده الباحثون عن أنّ التوءمين المتطابقيْن جينياً والحاملَين الجين ذاته المسبب لمرض ما، قد يظهر هذا المرض على أحدهما دون الآخر، وذلك لاختلافات بيئية فوق جينية تفاقم خطر الإصابة بالمرض إذا تم التعرض لها. [3]
وعليه فإننا أصبحنا بصدد علم جديد يسمى علم ما فوق الجينات (Epigenetics)، والذي أعطى البيئة المقام الأول في التأثير نافياً بذلك أولوية الوراثة. وقد فسر العلم ذلك بأن خلايا الجسم تستقبل إشارات وعلامات خارجية من البيئة المحيطة، أو إشارات داخلية من الخلايا المجاورة عند الانقسام والتي تحتفظ بتغيرات أخرى فوق جينية (Epigenetic memory)، ليحدث بذلك تفاعلات كيميائية على مستوى الخلايا ومن ثمّ على مستوى الجينات تحرك آليات تستهدف أجزاء الصبغي المختلفة، ومن أهمها: مَيثلة الحمض النووي (DNA methylation) والتعديلات على الهيستون (iston modification)، وهي تستهدف أيضاً أيّاً من المراحل التي تسبق ظهور الناتج الأخير لعملية الترجمة وإظهار الصفة. [1،6]
فى عام 2008 تم الاتفاق على تعريف الصفات الناشئة عن ما فوق الجينات في معامل (Cold Spring Harbor) في نيويورك على أنها تلك الصفات التى تنشأ بسبب تغيير فى الصبغي دون أن يكون هناك تغيير في الشيفرة الجينية، بشرط أن تكون تلك الصفات الناشئة من الممكن توريثها لأجيال أخرى. [9]
في دراسة أجريت على ثلاثين رجلاً ممن يعانون من سرطان البروستات، استهدف العلاج إجراء تغيّرات مكثفة في نشاطات جيناتهم اليومية وحميتهم الغذائية ودون أي تدخل كيميائي، وكانت المفاجأة بإظهار تلك المجموعة لتحسن إيجابي -ما يزيد عن خمسمئة تعديل جيني- بشكل أفضل ممن تلقوا العلاج الكيميائي، ودون أي أعراض جانبية، مما يدل على الدور الفعال لعلم ما فوق الجينات في فتح نافذة جديدة لعلاج العديد من السرطانات ذات المنشأ البيئي بالدرجة الأولى. [5]
وفي واحدة من التجارب الرائدة في علم الوراثة التي أجراها العالم راندي جيرتل (Randi Jirtle) أستاذ الأشعة في طب الأورام في جامعة ديوك وتلميذه واترلاند (Waterland) على زوج من الفئران تُسمى فئران أجوتي (Aguti) نسبة إلى وجود جين الأجوتي في تركيبها الوراثي، والذي بالإضافة لكونه السبب في جعلها صفراء بدينة، يجعلها عرضة للإصابة بمرض السكري والسرطانات، وفي محاولة كانت الأنجح لتغيير ذلك الإرث السيء، قام العالمان باتباع طريقة بسيطة ومباشرة بتغيير طعام الأم بدءاً من المرحلة التي تسبق الحمل مباشرةً، ليحتوي على مواد غذائية أساسية وفيتامينات كانت العامل الرئيسي في إنهاء تلك السلالة وتثبيط جين أجوتي وولادة سلالة جديدة بحجم طبيعي ولون بني زاهر ويتمتعون بصحة جيدة خالية من السمنة والسكري والسرطانات. [4]
قد يمتلك الإنسان جيناً طبيعياً، لكن بفعل عوامل بيئية يصبح التعبير عن هذا الجين (Gene expression) ضاراً، وهذا ما يجعل قرابة التسعين بالمئة من حالات السرطان عموماً ناتجة عن عوامل بيئية لا عوامل وراثية. وما لا يمكن إنكاره أنّ التدخين وحده يسبب أكثر من 500.000 تغيير في التعبير الجيني، مما قد يؤدي إلى قراءة خاطئة للشيفرة الجينية، والذي بدوره يكون سبباً رئيسياً لنشوء السرطانات.
ومما قد يثير عقلك بشأن إثبات تواجد حقيقة ما فوق الجينات منذ بداية الخليقة اختلاف تركيب غذاء يرقات النحل. فاليرقات التي يكون غذاؤها الأصلي الهلام الملكي، تصبح ملكات ذات بنية جسديّة أكبر وأقوى، وتعيش لفترات أطول مهيّأة لعمليات التخصيب والإنجاب، لكنها ذات نشاط عقلي أقل. أما تلك اليرقات التي تتغذى على هلام الشغالات، فإنها تنشأ صغيرة وذات أعمار أقصر، لكن تتميز بنشاط عقليّ وجسديّ أعلى بما يتناسب مع طبيعة عملها. فعجزنا عن فهم الكثير من التغيرات التي تطرأ على تركيب الحمض النوويّ وعبر الأجيال كان بسبب استهداف الأبحاث للجينات وعلم الوراثة، والتغافل التام عمّا قد يحدثه البحث في ما فوق الجينات. [7،8]
إن كل خاطرة أو عاطفة أو فعل أو اختيار في حياتنا سيرسل إشارة إلى جيناتنا لتتحكم في نشاطها، وتتحكم بالتالي في سلوك كل خلية من خلايا أجسامنا. وبذلك نستطيع أن نبرهن على أنّ بيئتنا تغير نشاط جيناتنا محددةً نشاط الخلية التي تحدد بدورها نوع البروتين الذي سيُصنع من بين آلاف الخيارات للجين نفسه، مما يجعل حمضنا النووي خاضعاً لاختياراتنا. وهذا الأمر يجعلك مسؤولاً تماماً عمّا أنت عليه اليوم، مسؤولاً عن خياراتك لما تأكل وتشرب، وعن أفكارك ومشاعرك، بل وأيضاً عن طريقة نظرتك للعالم من حولك متّخذاً من كل خاطرة وشعور وحركة مَعْبراً تحدد به مصيرك.
إعداد: هدى ماجد
مراجعة علميّة: شريف الجارحي
تدقيق لغوي: رؤى زيات
تحرير: نسمة محمود
المصادر:
(1) Barski A1, C. S. (2007, May 18). High-resolution profiling of histone methylations in the human genome. Retrieved from pubmed: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/17512414
(2) Daniel M1, T. T. (2015, january 1). Epigenetic linkage of aging, cancer and nutrition. Retrieved from pubmed: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/25568452
(3) Fraga MF1, B. E.-S.-C.-A. (2005, july 26). Epigenetic differences arise during the lifetime of monozygotic twins. Retrieved from pubmed: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/term=epigenetic+differences+arise+during+the+lifetime+of+monozygotic+twins
(4) Morgan HD1, S. H. (1999, november 23). Epigenetic inheritance at the agouti locus in the mouse. Retrieved from pubmed: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/10545949
(5) Ornish D1, M. M. (2008, June 17). Changes in prostate gene expression in men undergoing an intensive nutrition and lifestyle intervention. Retrieved from pubmed: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/?term=changes+in+prostate+gene+expression+in+men+undergoingan+intensive+nutrition+and+lifestyle+intervention
(6) D’Urso A1, B. J. (2014 , April 26). Mechanisms of epigenetic memory. Retrieved from pubMed: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/24780085
(7) Li J1, W. J. (2010 , october 20). Differential protein expression in honeybee (Apis mellifera L.) larvae: underlying caste differentiation. Retrieved from pubMed: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/20975997
(8) McCartney DL1, S. A. (2018 , october 30). Epigenetic signatures of starting and stopping smoking. Retrieved from pubMed: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/30389506
NIH Roadmap Epigenomics Project
Reik W (May 2007). “Stability and flexibility of epigenetic gene regulation in mammalian development”. Nature. 447 (7143): 425–32
