متى يتشكل الوعي لدى الأطفال؟
قد تود الأمهات إنزال أقسى أشكال العقاب عليّ لمثل هذا السؤال القاسي الذي لابد من طرحه؛ كيف نجزم أن هذا المولود الجديد واعٍ؟ ليس هناك مجال للشك بيقظة الرضيع، فعيناه مفتوحتان مبينة ملامحه، والأهم من ذلك، فهو يبكي. ولكن كل ذلك ليس ككونه واع، حيث يختبر الألم، ويرى اللون الأحمر أو يشم لبن الأم.
فمن المعروف أن الرضع لا يدركون وضعهم الحالي وعواطفهم ودوافعهم، حتى الأطفال الأكبر سنًا الذين يستطيعون التحدث يدركون تصرفاتهم بشكل محدود، فأي شخص ربى ولدًا يدرك تلك النظرة الفارغة على وجه المراهق حين يُسأل عن سبب قيامه بسلوك طائش. ففي الأغلب سيهز كتفيه ويقول: «لا أعلم، بدت لي كفكرة جيدة حينها…».
رغم أن المولود الجديد ينقصه الإدراك الذاتي، إلا أن الطفل يمتلك مثيرات بصرية معقدة ويستجيب للأصوات والمشاهد في عالمه، خاصةً النظر في الأوجه. حدة نظر الرضيع لا تسمح له إلا برؤية فقاعات، وذلك رغم وجود الدوائر المهادية القشرية (Thalamo-cortical circuity) الأساسية لدعم الإدراكات البصرية البسيطة وغيرها من إدراكات الوعي في محلها. كما أن القدرات اللغوية للأطفال تتشكل في البيئة التي يترعرعون فيها، ويسمح التعرض لأصوات الأم أثناء وجوده في الرحم الكاتم للصوت بالتقاط الترددات الطبيعية من حوله، حتى يتمكن المولود الجديد من التمييز بين صوت أمه، بل ولغتها أيضً عن الأخريات! أما ما يُعد سلوكًا أكثر تعقيدًا فهو المحاكاة؛ فإذا أخرج الأب لسانه وهزه، فسيحاكي الرضيع حركته عبر المزج بين المعلومات البصرية والتغذية التي يتلقاها عن مستقبله الحسي العميق (Proprioceptive feedback) من حركاته الخاصة، ومن ثم يبدو أن للطفل نوعًا حاضرًا من الوعي المتسرع.
الطريق نحو الوعي
ولكن متى تبدأ الرحلة السحرية نحو الوعي؟ يتطلب الوعي تشابكًا معقدًا لمكونات شديدة الاتصال ببعضها البعض، ألا وهي الخلايا العصبية، حيث يقوم القوام المادي لتركيبة القشرة المهادية (Thalamo-cortical complex)، الذي يوفر الوعي بمحتواه الواضح والدقيق، بالبدء في أخذ مكانه فيما بين الأسبوع الرابع والعشرين والثامن والعشرين من الحمل. وبعد مرور شهرين، تبدأ ترددات موجات التخطيط الكهربية للدماغ (Electroencephalographic rhythms) بالتزامن عبر نصفي القشرة المخية التي تشير إلى بداية التكامل العصبي العام للمخ. ومن ثم، فالعديد من مكونات الدورة الأساسية للوعي تأخذ وضعها في الربع الثالث من الحمل. بذلك الوقت، يمكن للخديج (المولود قبل أوانه) أن يعيش خارج الرحم، ولكن تحت عناية طبية ملائمة. ورغم أنه من الأيسر القيام بملاحظة الخديج والتعامل معه عن جنين مازال في نفس عمر الحمل في الرحم، يُعد الخديج في الأغلب مثل الجنين، وكأنه مولود لم يولد بعد، ولكن ذلك المنظور يغض الطرف عن البيئة المميزة للرحم؛ فالجنين يكون نائمًا في رحم دافئ ومظلم كالكهف، متصل بالمشيمة التي تضخ الدم والغذاء والهرمونات المطلوبة لجسمه ومخه الآخذين في الكبر.
تشير التجارب الكبيرة التي أجريت على صغار الفئران والخرفان، التي أجرت العديد من الملاحظات عليهم عبر الموجات فوق الصوتية والتسجيلات الكهربائية، بأن جنين الربع الثالث من الحمل يكون في الأغلب بين حالتين من حالات النوم؛ تُدعيان بالنوم النشط والنوم الهادئ، ويمكن التفرقة بينهما عبر موجات التخطيط الكهربية للدماغ. ترتبط الموجات المختلفة بقوة مع العديد من التصرفات المختلفة؛ كالتنفس والبلع واللعق وتحريك العينين والنشاط العضلي النشط أثناء النوم الهادئ. تلك المراحل ترتبط بحركة العين السريعة والنوم العميق (Slow-wave sleep) الشائع بين كل الثدييات. وفي المرحلة المتأخرة من الحمل، يكون الجنين في حالة من تلك الحالتين 95% من الوقت، وتفصل بينهما تحولات قصيرة.
المثير للدهشة هو الاكتشاف التالي، وهو أن الجنين يظل مخدرًا بشكل نشط بفعل عدة عوامل؛ الضغط المنخفض للأوكسجين (الموازي للضغط على قيمة جبل إيڤرست)، دفء ولطف البيئة الرحمية، وعدد من المواد المثبطة لنشاط الخلايا العصبية والمحفزة على النوم التي تنتجها المشيمة والجنين نفسه: الأدينوزين، مخدرين من الستيرويد (Steroidal anesthetics)، ألوبريغانولون (Allopregnanolone) وبريغنانولون (Pregnanolone)؛ هرمون واحد قوي، بروستاغلاندين د2 (Prostaglandin D2)؛ ومواد أخرى. وقد كُشف عن الدور الأساسي للمشيمة في الحفاظ على حالة التخدير حين أُغلق الحبل السري مع توفير الأوكسجين الكاف للجنين. فصار جنين الخروف يتحرك ويتنفس باستمرارية. ومن كل تلك الأدلة، استنتج الأطباء المختصين بدراسة المواليد أن الرضيع يظل نائمًا بينما ينضج مخه.
نوم بلا أحلام؟
ولكن بتلك الطريقة نجد أن مشكلة أخرى قد نشأت، فحين يستيقظ الناس من مرحلة نوم حركة العين السريعة، يقولون عادةً بأنهم مروا بحلم شديد الوضوح مليء بالتفاصيل، فرغم أن الوعي أثناء الأحلام ليس كأثناء اليقظة –فمن الملحوظ أن القدرة البصرية والتأمل الذاتي غائبين- يظل من الممكن الإحساس بها. فهل يحلم الجنين أثناء نوم حركة العين السريعة؟ هذا أمر غير معلوم، ولكن بمَ قد يحلم؟!
بعد الميلاد، يصبح محتوى الحلم عبارة عن الذكريات القريبة والأكثر بعدًا. تقترح الدراسات الممتدة للحلم لدى الأطفال، التي أجراها عالم النفس الأمريكي المتقاعد ديفيد فولكس (David Foulkes)، أن الحلم هو تطور إدراكي متدرج يرتبط بقوة بالقدرة على تخيل الأشياء بصريًا وبالقدرات البصرية الفراغية (Visuospatial skills). ومن ثم، فأحلام طفل ما قبل المدرسة تكون في الأغلب ساكنة الحركة وبسيطة التفاصيل، بلا دلالات على الحركات والأفعال، مفتقرة للمشاعر وبلا ذكريات. فكيف سيكون الحلم بالنسبة لكائن يقضي وقته حبيسًا فيما يشبه وعاءً من العزلة، بلا أي ذكريات أو طريقة للتخيل على الإطلاق؟! حتى أنني أراهن على أن الجنين لا يمر بشيء في الرحم؛ تمامًا مثلما هو الحال حين نكون في نوم عميق بلا أحلام.
للأسف، من الممكن أن تتسبب الطرق غير الطبيعية لإجراء الولادة (غير الولادة المهبلية) في إيقاظ الطفل بغتةً. ما يسبب الجنين في اختباره لواقع مناقض كليًا لبيئته الأصلية الهادئة الآمنة والدافئة؛ واقع صاخب هوائي وبارد يعتدي على حواسه بأصوات وروائح ومشاهد غير مألوفة، ما يشكل موقفًا شديد الإجهاد للطفل.
وينبع ذلك التصور عن اكتشاف هوغو لاغركرانتز (Hugo Lagercrantz)، طبيب الأطفال في معهد كارولينسكا بستوكهولم (Karonlinksa Institute)، منذ عقدين، حيث تبين أن الطفل يطلق جرعة هائلة من الـ (norepinephrine[1] )، دفعة أقوى عن التي تُطلق أثناء القفز من الجو أو تسلق الجبال، وهي أقوى من أي جرعة قد يتلقاها الجنين في حياته كبالغ! كما يطلق مخدرات ومسكنات للألم حين ينفصل الجنين عن مشيمة الأم، ما يحفز قدرة الطفل على التعامل مع الظروف الجديدة. فيلتقط الجنين أنفاسه الأولى ويستيقظ، كي يبدأ رحلته عبر الحياة.
[1] مادة تعمل كهرمون وناقل عصبي، تفرزه النخاع الكظرية والنهايات العصبية للجهاز العصبي السمبثاوي للتسبب بتضييق الأوعية الدموية وزيادة ضربات القلب، وضغط الدم، ومستوى السكر في الدم.
norepinephrine. (n.d.). The American Heritage® Science Dictionary. Retrieved November 11, 2016 from Dictionary.com website http://www.dictionary.com/browse/norepinephrine
ترجمة: هشام كامل
مراجعة لغوية: Mohammad Marashdeh
تحرير: يُمنى أكرم
المصدر:
http://sc.egyres.com/ATIz5
#الباحثون_المصريون