كانت ميديا (Medea)، في الأساطير الإغريقيَّة، حفيدة إله الشَّمس هيليوس (Helios)، وقد هربت من منزل والدها لتتزوَّج من البطل جيسون (Jason)، لتكون بعدها إحدى أشهر الأمَّهات في الأساطير الإغريقيَّة. أعاد يوريبيديس (Euripidies) بناء حكايتها في مسرحيَّته، مضيفًا العنصر الَّذي نعرف به ميديا اليوم؛ المرأة الَّتي قتلت أولادها انتقامًا من خيانة زوجها.
قُتِل أولاد ميديا وجيسون، في النُّسخ الأولى من الأسطورة، بأيادي حشدٍ من الكورينثيين (Corinthians)، غضبًا من سلوك ميديا. تتفنَّن المأساة الإغريقيَّة في إعادة صياغة الأساطير لإظهار الجوانب الأكثر شرًّا في العلاقات الإنسانيَّة، وخاصَّةً بين أفراد الأسرة. تقوم ميديا، في مسرحيَّة يوريبيديس، بتحطيم واحدٍ من الأصنام الأساسيَّة: وهو الرَّابطة بين الأمِّ وابنها، وفرضيَّة حبِّ الأمِّ غير المشروط.
لذلك، فقد كان المشاهدون الأوائل لمسرحيَّة يوريبيديس أمام صدمةٍ مهولةٍ، فميديا الَّتي تقتل أولادها للانتقام لم تكن مألوفةً لهم. عندما أُدِّيَت المسرحيَّة للمرَّة الأولى في إحدى مسابقات مسرح التِّراجيديا الأثينيَّة (Athenian Tragedy) في عام (431 ق.م) احتلَّت المرتبة الأخيرة، وكان الاعتقاد السَّائد أنَّ سبب ذلك هو الأفعال المروِّعة للبطلة. ولكن بغضِّ النَّظر عن ردِّ الفعل الأوَّل، فقد أصبحت المسرحيَّة سريعًا واحدةً من الكلاسيكيَّات، وحلَّ قتل ميديا لأولادها محلَّ جميع النُّسخ الأخرى للقصَّة.
قتْل الأمَّهات العمد لأبنائهنَّ هو نوعٌ خاصٌّ من الرُّعب، ولكنَّ الحقيقة المؤسفة أنَّ هذا ليس أمرًا نادرًا كما نودُّ أن نعتقد، فكثيرًا ما وصلت قصصٌ عن نساءٍ متَّهماتٍ بهذا الجُرم إلى الأخبار.
جرائم الأمَّهات في عيون المجتمع
من المؤكَّد أنَّ قصَّة ميديا تحمل في طيَّاتها تشابهًا مخيفًا مع الأبحاث المعاصرة حول جرائم قتل الأمَّهات لأبنائهنَّ. فقد هجرَها زوجها في بلدٍ غريبٍ دون شبكة دعمٍ. وقد ذُكر الانعزال، وتدنِّي المنزلة الاجتماعيَّة، والإجهاد كعوامل حاسمةٍ في جرائم قتل الإناث لأبنائهنَّ بين البشر والرَّئيسيَّات. دافِع ميديا هو رغبتها في معاقبة زوجها، وهي إحدى الفئات الرَّئيسيَّة الَّتي يستخدمها الباحثون في التَّحقيق في خلفيَّة هذا النَّوع من الجرائم. اقترحت إحدى المقالات البحثيَّة أنَّ من المُرَجَّح قتل الأمَّهات لأبنائهنَّ من الذُّكور إن كان دافِعهُنَّ هو الانتقام؛ وهكذا كانت ميديا، فضحيَّتاها كلاهما من الذُّكور.
وليست أفعال ميديا وحدها الَّتي تتَّسم بواقِعيَّتِها النَّفسيَّة، ولكن أيضًا ردود أفعال الشَّخصيَّات الأخرى تجاه تلك التَّصرُّفات. فحصت إحدى الدِّراسات البحثيَّة عام (2006) أكثر من مائتين وخمسين تقريرًا صحفيًّا عن قتل الأمَّهات لأبنائهنَّ في الولايات المتَّحدة لترى كيف يُقدِّم الصَّحفيُّون هذا النَّوع من القضايا. ووصلت إلى أنَّ النِّساء يُقدَّمن بأوصافٍ مُبالَغٍ في بساطتها؛ فإمَّا اهتمامهنَّ المُفرِط قد قادهُنَّ إلى الجنون، أو أنَّهنَّ عديمات الرَّحمة. في بداية المسرحيَّة تصرُخ ميديا بشكلٍ هستيريٍّ وراء خشبة المسرح. وفي نفس الوقت تصفها مُربِّيتها أنَّها عاجزةٌ عن السَّيطرة على عواطفها بسبب حزنها العميق.
وبعد القِتلة، يواجه جيسون ميديا، ويدَّعي أن «لم تكن امرأةٌ يونانيَّةٌ لتتجرَّأ على فعل ذلك» ملمحًا إلى أنَّ «بربريَّة» ميديا و«اختلافها» الأخلاقيَّ عن الشَّخص المتحضِّر هما السَّبب في الطَّريقة الَّتي تتصرَّف بها. (جيسون مخطئٌ بالطَّبع، فهناك العديد من الأمثلة في الأساطير الإغريقيَّة لنساءٍ يقتُلنَ أطفالهُنَّ). جيسون والكَوْرَس كلاهما يحاول إظهار ميديا في صورةٍ وحشيَّةٍ في محاولةٍ لفهم أفعالها: فلقَّبوها بالصَّخر، والحديد، واللَّبؤة. التَّلميح الضِّمنيُّ هنا أنَّ الإنسان العاديَّ لن يكون قادرًا على اقتراف ما قامت به ميديا (وبهذا فربَّما أنَّ الأشخاص «العاديِّين» في أمانٍ من مثل تلك التَّصرُّفات). يُظهِر الصَّحفيُّون المعاصرون الأمَّهات اللَّاتي يقْتُلْن وكأنَّهُنَّ «مجنوناتٍ أو سيِّئاتٍ» ليحافظوا أيضًا على تلك المسافة.