مركز حقوقي إسرائيلي يُصرّح: «إسرائيل دولة فصل عنصري»

لماذا تعد إسرائيل دولة فصل عنصري؟

«نظام السيادة اليهودي من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، هو نظام فصل عنصري»

يعيش أكثر من 14 مليون شخص، نصفهم تقريبًا من اليهود والنصف الآخر من الفلسطينيين؛ بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، ​تحت حكم واحد. ومن المعروف أن التصور السائد في الوعي العام وفي الخطاب السياسي والقانوني والإعلامي هو أن هناك نظامان منفصلان يعملان جنبًا إلى جنب في هذه المنطقة، ويفصل بينهما الخط الأخضر. وأن النظام الأول الواقع داخل حدود دولة إسرائيل ذات السيادة، هو نظام دائم ديمقراطي يبلغ عدد سكانه حوالي تسعة ملايين نسمة، جميعهم مواطنون إسرائيليون. أما النظام الآخر، في الأراضي التي استولت عليها إسرائيل عام 1967 -والذي من المفترض أن يتم تحديد وضعه النهائي في المفاوضات المستقبلية-، فهو احتلال عسكري مُؤقت مِن قِبل إسرائيل مفروض على نحو خمسة ملايين فلسطيني.

بمرور الوقت، أصبح التمييز بين النظامين أكثر وضوحًا وبعيدًا عن هذا التصوّر السائد المُراد تصديره للعالم والرأي العام. فهذا الوضع الاحتلالي ظلّ سائدًا وموجودًا منذ أكثر من 50 عامًا (أي أن إسرائيل عاشت محتلةً لغيرها ضعفي مدة وجودها). ويقيم الآن مئات الآلاف من المستوطنين اليهود داخل مستوطنات دائمة شرق الخط الأخضر (فلسطين المحتلة)، وكأنهم يعيشون في إسرائيل نفسها. أضف إلى أنه قد تمّ ضَمُّ القدس الشرقية رسميًا إلى أراضي السيادة الإسرائيلية، وتم بعد ذلك ضمُّ الضفة الغربية عمليًا كذلك إلى إسرائيل. لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن هذا التمييز وهذا التصور يذكر كلَّ شيءٍ ويُوضِّحُ كُلَّ شيءٍ إلا أنه يحجب حقيقةً كبرى عن الناس، ألا وهي: أن المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ​​ونهر الأردن برمتها منظمةٌ بموجِب قانون وخاضعةٌ لمبدأ واحد هو تعزيز وترسيخ سيادة مجموعة واحدة — هم اليهود — على مجموعة أخرى — هم الفلسطينيون —. وهو ما سيؤدي بنا إلى استنتاجٍ مفاده أنَّ هذين النظامين ليسا نظامين متوازيين يصادف أنهما يدعمان نفس المبدأ كما تريد إسرائيل أن تقول للعالم. لكنَّ الحقيقة أنه ليس هناك نظامان يحكمان منطقتين مختلفتين، بل هو نظامٌ واحدٌ يحكم المنطقةَ بأكملَها والسكانَ الذين يعيشون فيها بأكملِهم، بناءً على مبدأ تنظيمي واحد وهو الفصل العنصري.

عندما تأسست منظمة بتسيلم لحقوق الإنسان (B’Tselem) عام 1989، قصرنا عملَنا على الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) وقطاع غَزَّة، وامتنعنا عن التطرق أو معالجة حقوق الإنسان داخل دولة إسرائيل التي أُنشئت عام 1948، أو إن شئت قل أننا ما أردنا أن نتطرق إلى كافة جوانب حقوق الإنسان في كافة أرجاء المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. لكن لا بد أن يتم تغيير هذا الوضع الآن. لقد زاد المبدأ التنظيمي للنظام الإسرائيلي وضوحًا في السنوات الأخيرة، ويظهر ذلك في القانون الأساسي الذي أقره الكنيست الإسرائيلي فيما يخص وصف وتعريف دولة إسرائيل عام 2018، هذا القانون الأساسي الذي ينص على أن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي. ومما يزيد المبدأ الإسرائيلي وضوحًا كذلك هو هذا الحديث السياسي الرسمي عام 2020 عن ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى دولة إسرائيل. فإذا أخذنا هذا الواقع المُعاش والحقائق المذكورة أعلاه جنبًا إلى جنب، سيقودنا إلى أنه لم يعد من الممكن بعد أن نتعامل مع ما يحدث في الأراضي المحتلة على أنه منفصل عن سيطرة إسرئيل، بل الواقع هو أنَّ كامل المنطقة خاضعةٌ لسيطرة إسرائيل وتحت هيمنة إسرائيل. وأن المصطلحات التي استخدمناها في السنوات الأخيرة لوصف الوضع مثل «الاحتلال المُطوّل» أو «واقع الدولة الواحدة» لم تعد كافيةً الآن. ولكي نستمر في عملنا في مكافحة وبيان انتهاكات حقوق الإنسان بشكل سليم وفعّال، فإنه ليتحتّم علينا أن نلقيَ نظرةً فاحصةً على النظام السياسي الذي يحكم تلك المنطقة.

يحلل هذا التقرير كيفية عمل النظام الإسرائيلي لتحقيق أهدافه في كامل المنطقة لجعلها خاضعة لسيطرته. ونحن إذ نقول هذا الكلام فليست بغيتنا أن نقدم مراجعةً تاريخية أو تقييمًا للحركات الوطنية الفلسطينية أو اليهودية، ولا حتى نريد أن نتطرق لنظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا. ورغم أن هذه الأسئلة مهمة، إلا أنها تقع خارج نطاق اختصاص وعمل منظمات حقوق الإنسان. على العكس من ذلك، فإن هذه الوثيقة تعرض المبادئ والأسس التي يتبناها النظام الإسرائيلي، وتوضح كيفية سعي هذا النظام لتطبيقها. ثم سنشير بعد ذلك إلى الاستنتاج الذي سنخلص إليه، موضحين كيف يجب أن يُعرّف هذا النظام، وماذا يعني هذا كله بالنسبة إلى حقوق الإنسان.

فَرِّق تَسُد

في كامل المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ​​ونهر الأردن، يطبّق النظام الإسرائيلي القوانين والممارسات وعنف الدولة المُصمّم لتعزيز سيادة مجموعة واحدة — هم اليهود — على مجموعة أخرى — هم الفلسطينيون —. إحدى الطرق الرئيسة لتحقيق هذا الهدف هي إعادة هندسة وهيكلة وتشكيل المنطقة بشكل مختلف لكل مجموعة منهما.

يعيش المواطنون اليهود وكأن المنطقةَ بأكملِها عبارةٌ عن مكانٍ واحد ودولةٍ واحدة (باستثناء قطاع غزة). إنَّ الخطَ الأخضر لا يعني لهم شيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا؛ فسواءً كانوا يعيشون غَرْبَهُ (أي داخل إسرائيل)، أو شَرْقَه (في مستوطنات لم يتم ضمها رسميًا لإسرائيل، ولا الاعتراف الدولي بتبعيتها لإسرائيل)، نقول: سواء كانوا يعيشون داخل إسرائيل أو في الأراضي المحتلة فإن ذلك لا علاقة له بحقوقهم أو وضعهم ومكانتهم، فهم يتمتعون بكامل الحقوق أيًا ما كانوا، سواء داخل حدود دولتهم أو خارجها.

ومن ناحية أخرى، فإن المكان الذي يعيش فيه الفلسطينيون هو أمر يعني لهم الكثير، والكثير جدًا. فقد قام النظام الإسرائيلي بتقسيم المنطقة إلى عدة وحدات يحددها كما يريد ويحلو له، ويحكمها بشكل مختلف، بل ويمنح الفلسطينيين حقوقًا مختلفة باختلاف تلك المناطق. وهذا التقسيم يخصُّ الفلسطينيين دون غيرهم. فاليهود يرون أن تلك المناطق التي يقطن بها الفلسطينيون هي مناطق تافهة وصغيرة كالفسيفساء يعطون قشورها للفلسطينيين. ولْنُلقِ نظرةً على تلك الأماكن التي يتواجد فيها الفلسطينيون:

  •  الفلسطينيون الذين يعيشون على الأرض التي تم اعتبارها عام 1948 أنها أرضٌ إسرائيلية (يطلق عليهم أحيانًا عرب إسرائيل) هم مواطنون إسرائيليون ويشكلون 17% من مواطني الدولة. وفي حين أن هذا الوضع يمنحهم العديد من الحقوق، إلا أنهم لا يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطنون اليهود سواء بموجب القانون النظري المكتوب، أو حتى الممارسة العملية الواقعية كما سيأتي تفصيله في هذا التقرير.
  •  يعيش ما يقرب من 350 ألف فلسطيني في القدس الشرقية، التي تتكون من حوالي 70 ألف دونم [1 دونم = 1000 متر مربع] احتلتها إسرائيل وضمتها إلى أراضيها عام 1967. ويتم تعريفهم كمقيمين دائمين في إسرائيل، وهو وضع يسمح لهم بالعيش والعمل في إسرائيل دون الحاجة إلى تصاريح خاصة للحصول على المزايا الاجتماعية والتأمين الصحي والتصويت في انتخابات البلدية. ومع ذلك، يمكن سحب الإقامة الدائمة — على عكس الجنسية — في أي وقت وفقًا لتقدير وزير الداخلية ورغبته التامة، بل ويمكن إيقافها إن شاء.
  •  على الرغم من أن إسرائيل لم تضم الضفة الغربية لها رسميًا، إلا أنها تتعامل مع المنطقة على أنها جزءٌ من إسرائيل. يعيش أكثر من 2.6 مليون فلسطيني في الضفة الغربية في عشرات المناطق المنفصلة ​​تحت حكم عسكري صارم وبدون حقوق سياسية. وفي نحو 40% من الأراضي، نقلت إسرائيلُ بعضَ السُلطات المدنية إلى السُلطة الفلسطينية. ومع ذلك، لا تزال السُلطةُ الفلسطينية خاضغةً لإسرائيل ولا يمكنها ممارسة صلاحياتها المحدودة إلا بموافقة حكومة إسرائيل.
  •  يعيش في قطاع غزة حوالي مليوني فلسطيني، محرومين أيضًا من حقوقهم السياسية. ففي عام 2005، سحبت إسرائيل قواتها من قطاع غزة، وفككت المستوطنات التي بنتها هناك، وتنازلت عن أي مسؤولية عن مصير السكان الفلسطينيين. وبعد سيطرة حماس على السلطة عام 2007، فرضت إسرائيل حصارًا على قطاع غزة لا يزال قائمًا حتى يوم الناس هذا. وطوال كل هذه السنوات، واصلت إسرائيل السيطرة من الخارج على كل جوانب الحياة في قطاع غزة تقريبًا، فلا ماء ولا طعام ولا شراب ولا اتصالات ولا إنترنت ولا كهرباء إلا بإرادة إسرائيل.

تمنح إسرائيلُ الفلسطينيين حزمةً مختلفةً من الحقوق في كل واحدة من هذه الوحدات — وكلها أدنى مستوى مقارنةً بالحقوق الممنوحة للمواطنين اليهود —. يتم تطبيق وممارسة التفوق والسيادة اليهودية بشكل مختلف في كل منطقة من تلك المناطق، وبالتالي تختلف أشكال الظلم الناتجة عنه: فالتجربة الحياتية للفلسطينيين في غزة المُحاصرة تختلف عن تجربة الرعايا الفلسطينيين في الضفة الغربية، أو المقيمين الدائمين في القدس الشرقية، أو المواطنين الفلسطينيين داخل حدود السيادة الإسرائيلية. ومع تعدد تلك الاختلافات والحقوق فإن شيئًا واحدًا لا يختلف ولا يتغيّر في جميع تلك الحالات وجميع تلك المناطق التي يعيش فيها الفلسطينيون، هذا الشيء الثابت الوحيد هو أن المواطن الفلسطيني يُعامل بشكل أقل وأدنى ولا يتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطن اليهودي الذي يعيش معه في نفس المنطقة.

وفيما يلي تفصيل لأربعة أساليب رئيسة يستخدمها النظام الإسرائيلي لتعزيز التفوّق والسيادة اليهودية. يتم تنفيذ اثنين على نحوٍ مماثِل في جميع المناطق التي يقطنها الفلسطينيون ألا وهما: (1) تقييد هجرة غير اليهود. (2) الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية لبناء مجتمعات يهودية فقط، في حين يتم إبعاد الفلسطينيين إلى مناطق صغيرة ومُقيّدة. أما الإجراءان الآخران فيتم تنفيذهما في المقام الأول في الأراضي المُحتلة وهما: (3) القيود الصارمة على حركة الفلسطينيين غير المواطنين وحرمانهم من حقوقهم السياسية. (4) السيطرة على الكثير  — إن لم يكن جميع — الجوانب في حياتهم. حيث تستقل إسرائيل — وإسرائيل وحدها — بالتحكم الكامل في تلك الجوانب. ففي المنطقة من البحر إلى النهر بأكملها، تتمتع إسرائيل بالسُلطة الوحيدة والمُطلقة على سجل السكان، وتخصيص الأراضي، وقوائم الناخبين والحق في السفر — أو المنع من السفر — داخل أي جزء من الأرض، سواءً شمل ذلك الدخول إليها أو الخروج منها.

1- الهجرة لليهود، ولليهود فقط

يحق لأي يهودي في العالم أو أبناء أي يهودي في العالم أو أحفاده أو زوجاته الهجرة إلى إسرائيل في أي وقت والحصول على الجنسية الإسرائيلية، مع التمتّع بجميع الحقوق المُرتبطة بها. إنهم يحصلون على هذا الوضع حتى لو اختاروا العيش في مُستوطنةٍ في الضفة الغربية، تلك الأرض التي لا يُعترف بها رسميًا ولا دوليًا ضمن الحدود الإسرائيلية.

وفي المقابل، ليس لغير اليهود الحقُّ في الحصول على وضع قانوني في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل. ذلك أن مَنْحَ أيَّ حقٍ قانونيٍ يخضعُ للتقدير الكامل والفردي للمسؤولين الإسرائيليين، كوزير الداخلية داخل إسرائيل، أو القائد العسكري في الأراضي المحتلة. وعلى الرغم من هذا التمييز والتفرقة الرسمية، فإن المبدأ الذي لا يتغير هو أنه: لا يستطيع الفلسطينيون الذين يعيشون في بلدان أخرى الهجرةَ إلى المنطقة الواقعة بين البحر ​​والنهر، حتى لو وُلدوا وعاشوا هناك، وينطبق هذا عليهم وعلى أبائهم وأجدادهم كذلك. الطريقة الوحيدة التي يمكن للفلسطينيين من خلالها الهجرة إلى المناطق التي تُسيطر عليها إسرائيل هي الزواج من شخص فلسطيني يعيش هناك بالفعل — كمواطن أو مقيم — بالإضافة إلى استيفاء سلسلة من الشروط، ثم بعد ذلك تنتظر الحصول على الموافقة الإسرائيلية.

لا تقف القصةُ عند منعِ إسرائيل الفلسطينيين من الهجرة أو العودة إلى أراضيهم وبلادهم وحسب، بل تعيق أيضًا انتقالَ الفلسطينيين بين المناطق المختلفة داخل أراضيهم، خاصةً إذا كان هذا الانتقال سيؤدي إلى تحسين وضع الفلسطينيين. على سبيل المثال، في الوقت الذي يمكن للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل أو المقيمين في القدس الشرقية الانتقال بسهولة إلى الضفة الغربية (على الرغم من أنهم يخاطرون بحقوقهم ووضعهم)، لا يستطيع الفلسطينيون في الأراضي المحتلة الحصولَ على الجنسية الإسرائيلية والانتقال إلى الأراضي ذات السيادة الإسرائيلية، إلا في حالات نادرة جدًا، والتي تعتمد على موافقة المسؤولين الإسرائيليين.

كما توضح سياسة إسرائيل بشأن لَمّ شمل العائلات هذا المبدأ. فلسنوات عديدة، وضع النظامُ الإسرائيليُ العديدَ من العقبات أمام الأُسر التي يعيش فيها كل من الزوجين في منطقة جغرافية مختلفة. وبمرور الوقت، أدّى هذا إلى إعاقة الفلسطينيين الذين يتزوجون غيرهم من أبناء شعبهم في منطقة أخرى، بل ومنعهم — في كثير من الأحيان — من الحصول على إقامة في تلك المنطقة. ونتيجة لهذه السياسة، لم تتمكن عشرات الآلاف من الأُسر من العيش معًا. وعندما يكون أحدُ الزوجين مقيمًا في قطاع غزة، تسمح إسرائيل للعائلة بالعيش معًا هناك، ولكن إذا كان الزوج الآخر مقيمًا في الضفة الغربية، فإن إسرائيل تطالبهم بل وتأمرهم بالانتقال بشكل دائم إلى غزة. ففي عام 2003، أصدر الكنيست قانونًا مؤقتًا (مع أنه لا يزال ساريًا حتى الآن، ولا أدري ما هذا القانون “المؤقت” الذي يظل ساريًا أكثر من عشرين سنة) يحظر إصدار الجنسية الإسرائيلية أو الإقامة الدائمة للفلسطينيين من الأراضي المحتلة الذين يتزوجون من إسرائيليات — على عكس مواطني الدول الأخرى الذين يُسمح لهم بذلك بسهولة —. وفي بعض الحالات استثنائية — بشرط موافقة وزير الداخلية — يُمنح الفلسطينيون من الضفة الغربية الذين يتزوجون من إسرائيليين إقامةً في إسرائيل — إلا أنها مؤقتة ولا تمنحهم الحق في الحصول على المزايا الاجتماعية —.

لم تكتف إسرائيل بمنع الهجرة والعودة إلى فلسطين لمَن وُلدوا وعاشوا بها من الفلسطينيين، في حين تفتح البابَ على مصرعيه لأي يهودي لم يُولد قط ولم تطأ قدمُه قطُ أرضَ فلسطين مِن الحصول على الجنسية فورًا. ولم تكتف إسرائيل بمنع انتقال الفلسطينيين داخل أراضيهم، وإعاقتهم من الحصول على إقامات في منطقة أخرى حيث يعيش أزواجُهم، بل وصلت الحال إلى أبعد من ذلك، فصارت إسرائيل تلغي إقامات الفلسطينيين الذين وُلدوا في منطقتهم ويعيشون في بيوتهم ولا يعرفون مكانًا ولا أرضًا سواها. فمنذ عام 1967، ألغت إسرائيل إقامة حوالي 250 ألف فلسطيني في الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) وقطاع غزة، وفي بعض الحالات تتحجج إسرائيل بأنهم عاشوا في الخارج لأكثر من ثلاث سنوات. ويشمل ذلك الآلاف من سكان القدس الشرقية الذين انتقلوا على بعد أميالٍ قليلة شرق منازلهم إلى أجزاء من الضفة الغربية التي لم يتم ضمها رسميًا. لقد سُلب وسُرق جميع هؤلاء الأفراد من حقهم في العودة إلى ديارهم وعائلاتهم حيث ولدوا وترعرعوا، في حين أُعطي هذا الحق لأي يهودي في العالم حتى لو لم يشم لا هو ولا أهلُه ولا أجدادُه هواءَ تلك الأرض يومًا.

2-احتلال الأرض وإعطائها لليهود

تمارس إسرائيل سياسة «تهويد» المنطقة، استنادًا إلى عقليةٍ مفادُها أن الأرضَ هي ثروةٌ وموردٌ يهدف إلى إفادة ونفع الشعب اليهودي بشكل حصريّ. وتُستخدم الأراضي لتطوير وتوسيع المجتمعات اليهودية القائمة وبناء مجتمعات جديدة. في حين يتم تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم واحتجازهم في مناطق صغيرة تعجّ بالازدحام وتمتلئ بالناس. وقد تم ممارسة هذه السياسة فيما يتعلق بالأراضي التي اُعتبرت داخل حدود إسرائيل عام 1948 وتم تطبيقها على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ عام 1967. وفي عام 2018، وبعد ترسيخ المبدأ الأساسي من قبل الكنيست الذي يقول أن: إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، ينص هذا القانون على أن «الدولة تعتبرُ تطويرَ المستوطنات اليهودية قيمةً وطنيةً وستتخذ كافةَ الإجراءات لتشجيع وتعزيز إنشاء هذه المستوطنات».

سَنّت الحكومةُ الإسرائيلية العديدَ من القوانين العُنصرية التي هدفها التمييز والتفرقة، أبرزها قانون أملاك الغائبين، الذي يسمح لها بمصادرة مساحات شاسعة من الأراضي المملوكة للفلسطينيين، بما في ذلك ملايين الدونمات في المجتمعات التي طُرد سكانُها أو فروا منها عام 1948 ومُنعوا من العودة. كما قامت إسرائيل أيضًا بتقليص المناطق المُخصصة للمجالس والمجتمعات المحلية الفلسطينية بشكل كبير، والتي تُشكِّل الآن أقلَّ من 3٪ من إجمالي مساحة البلاد. ونتيجة لذلك، فإن أكثر من 90% من الأراضي الفلسطينية أصبحت الآن تحت سيطرة الدولة الإسرائيلية.

لقد استخدمت إسرائيل هذه الأرض لبناء مئات المجمعات للمواطنين اليهود، ولم يتم بناء مجمع واحد للمواطنين الفلسطينيين. والاستثناء الوحيد هو عدد قليل من البلدات والقرى التي بُنيت لتجميع السكان البدو، والتي تم تجريدها من معظم حقوق الملكية الخاصة بها. فقد تمت مصادرة معظم الأراضي التي كان يعيش عليها ويمتلكها البدو وتم تسجيلها كأراضٍ تمتلكها الدولة. وقد تم تصنيف العديد من المجتمعات البدوية على أنها «غير معترف بها» وسكانها على أنهم «غزاة». أما الأراضي التي سكنها البدو تاريخيًا، فقد قامت إسرائيل ببناء مجتمعات يهودية فقط، وطردوا البدوَ منها.

كما يفرض النظام الإسرائيلي قيودًا صارمة على البناء والتطوير في الأراضي الصغيرة المتبقية في المجتمعات الفلسطينية داخل أراضيه السيادية. كما تمتنع عن إعداد مخططات رئيسية تعكس احتياجات السكان، وتُبقي مناطق نفوذ هذه المجتمعات دون تغيير تقريبًا على الرغم من النمو السكاني. والنتيجة هي مجمعات صغيرة ومزدحمة لا خيار أمام سكانها سوى البناء دون تصاريح.

كما أصدرت إسرائيل قانونًا يسمح للمجتمعات التي لديها لجان قبول، والتي يبلغ عددها المئات في جميع أنحاء البلاد، برفض المتقدمين الفلسطينيين على أساس «عدم التوافق الثقافي». وهذا يمنع المواطنين الفلسطينيين فعليًا من العيش في مجتمعات مخصصة لليهود. وبشكل رسمي، يستطيع أي مواطن إسرائيلي أن يعيش في أي مدينة من مدن البلاد كيفما شاء؛ ومن الناحية العملية، فإن 10% فقط من المواطنين الفلسطينيين يستطيعون العيش في أراضيهم كما يريدون. وحتى في هذه الحالات الاستثنائية، عادةً ما يتم إبعادهم إلى أحياء منفصلة بسبب نقص الخدمات التعليمية والدينية وغيرها، أو التكلفة الباهظة لشراء منزل في أجزاء أخرى من المدينة، أو الممارسات التمييزية في مبيعات الأراضي والمنازل.

وقد استخدم النظام الإسرائيلي نفس المبدأ التنظيمي في الضفة الغربية منذ عام 1967 (بما في ذلك القدس الشرقية). وتم الاستيلاء على مئات الآلاف من الأراضي، بما فيها الأراضي الزراعية والحقول من الفلسطينيين بذرائع مختلفة وبحجج وأسباب مختلفة، واستخدامها لإقامة وتوسيع المستوطنات والأحياء السكنية والمناطق الصناعية اليهودية. وجميع المستوطنات هي مناطق عسكرية مغلقة، ويمنع الفلسطينيون من دخولها دون تصريح. وحتى الآن، أنشأت إسرائيل أكثر من 280 مستوطنة في الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية)، والتي أصبحت الآن موطنًا لأكثر من 600 ألف يهودي. وتم الاستيلاء على المزيد من الأراضي لبناء مئات الكيلومترات من الطرق الخاصة بالمستوطنين.

أنشأت إسرائيل نظام تخطيط منفصل للفلسطينيين في الضفة الغربية، مُصمم بشكل أساسي لمنع البناء والتنمية. فمساحات واسعة من الأراضي غير متاحة للبناء، حيث تم إعلانها أراضٍ للدولة أو منطقة إطلاق نار أو محمية طبيعية أو حديقة وطنية. وتمتنع السلطات أيضًا عن صياغة خطط رئيسية كافية تعكس الاحتياجات الحالية والمستقبلية للمجتمعات الفلسطينية. يتمحور نظام التخطيط المنفصل حول هدم المباني المبنية بدون تراخيص — حيث لا يوجد لدى الفلسطينيين خيارٌ آخر —. وقد أدى كل هذا إلى محاصرة وإلجاء الفلسطينيين إلى عشرات المناطق المكتظة بالسكان، مع حظر التطوير أو تحسين الظروف السكنية والمعيشية، لا داخل تلك التجمعات، ولا حتى بالسماح لهم في السكن وبناء مجتمعات خارجها.

3- تقييد حرية التنقل للفلسطينيين

تسمح إسرائيل لمواطنيها وسكانها اليهود والفلسطينيين بالتنقل بحرية في جميع أنحاء المنطقة. والاستثناء هو الحظر المفروض على دخول قطاع غزة، والذي يُعرّف بأنه «منطقة معادية»، والحظر (الرسمي في الغالب) على دخول المناطق التي تقع ظاهريًا تحت مسؤولية السلطة الفلسطينية (المنطقة أ). وفي حالات نادرة جدًا، يُسمح للمواطنين والمقيمين الفلسطينيين بالدخول إلى قطاع غزة.

ويمكن للمواطنين الإسرائيليين أيضًا مغادرة البلاد والعودة إليها في أي وقت شاؤوا. لكن في المقابل، لا يحمل سكان القدس الشرقية جوازات سفر إسرائيلية، وعلاوة على ذلك يمكن أن يؤدي سفرُهم لمدة طويلة إلى إلغاء إقاماتهم.

وتقيد إسرائيل بشكل دائم وروتيني حركةَ الفلسطينيين في الأراضي المُحتلة وتمنعهم بشكل عام من التنقل بين المناطق والمدن. ويجب على الفلسطينيين من الضفة الغربية الذين يرغبون في دخول إسرائيل أو القدس الشرقية أو قطاع غزة تقديم طلب إلى السلطات الإسرائيلية. ففي قطاع غزة، المحاصر منذ عام 2007، يُسجن جميع السكان به لأن إسرائيل تحظر تقريبًا أي حركة دخول أو خروج — باستثناء حالات نادرة تُصنف على أنها إنسانية —. ويجب على الفلسطينيين الذين يرغبون في مغادرة غزة أو الفلسطينيين من المناطق الأخرى الذين يرغبون في الدخول إليها تقديم طلب خاصّ للحصول على تصريح من السلطات الإسرائيلية. كما يتم إصدار التصاريح بشكل مقتصد ونادر، ولا يمكن الحصول عليها إلا من خلال آلية وعملية صارمة وتعسفية، فنظام التصاريح هذا يفتقر إلى أي نوع من الشفافية ولا يحدد أي نوع من القواعد الواضحة. كما تتعامل إسرائيل مع كل تصريح يتم إصداره للفلسطينين على أنه نعمة وتفضّل أن جعلته ينتقل داخل بلده، وكأن التنقل داخل بلدك وفي حدود وطنك ليس حقًا مكتسبًا لكل موطن!

وفي الضفة الغربية، تسيطر إسرائيل على جميع الطرق بين المناطق الفلسطينية. وهذا ما يسمح لجيش الاحتلال الإسرائيلي بإقامة نقاط تفتيش كثيرة، وإغلاق نقاط الوصول إلى القرى، وإغلاق الطرق، ووقف المرور عبر نقاط التفتيش حسب الرغبة. علاوة على ذلك، قامت إسرائيل ببناء جدار الفصل داخل الضفة الغربية وخصصت الأراضي الفلسطينية — بما في ذلك الأراضي الزراعية المحاصرة بين الجدار والخط الأخضر — باعتبارها «منطقة التَّمَاس». يُمنع الفلسطينيون في الضفة الغربية من دخول هذه المنطقة، ويخضعون لنفس نظام التصاريح المتعسف.

كما يحتاج الفلسطينيون في الأراضي المحتلة أيضًا إلى إذنٍ إسرائيلي للسفر إلى الخارج. وكقاعدةٍ عامة، لا تسمحُ لهم إسرائيل باستخدام مطار بن غوريون الدولي، الذي يقع داخل أراضيها السيادية. ويتعين على الفلسطينيين من الضفة الغربية السفر عبر مطار الأردن الدولي، لكن لا يمكنهم القيام بذلك إلا إذا سمحت لهم إسرائيل بعبور الحدود إلى الأردن. وفي كل عام، ترفض إسرائيل آلاف الطلبات لعبور هذه الحدود، دون أي تفسير. ويجب على الفلسطينيين من غزة المرور عبر معبر رفح الذي تسيطر عليه مصر — بشرط أن يكون مفتوحًا — وتسمح لهم السلطات المصرية بالمرور، ويمكنهم القيام بالرحلة الطويلة عبر الأراضي المصرية. وفي استثناءات نادرة، تسمح إسرائيل لسكان غزة بالسفر عبر أراضيها السيادية في حافلة ترافقها آلية عسكرية، من أجل الوصول إلى الضفة الغربية ومن هناك السفر إلى الأردن ثم إلى وجهتهم المنشودة.

4- سلب حق الفلسطينين من الممارسة السياسية

مثل نظرائهم اليهود، يمكن للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل اتخاذ إجراءات سياسية لتعزيز مصالحهم، بما في ذلك التصويت والترشح للمناصب. ويمكنهم انتخاب ممثلين أو إنشاء أحزاب أو الانضمام إلى الأحزاب القائمة. ومع ذلك، فإن المسؤولين الفلسطينيين المُنتخبين يتعرضون باستمرار للتشهير — وهو ما صرحت به شخصيات سياسية عالية المستوى — ويتعرض حق المواطنين الفلسطينيين في المشاركة السياسية لهجوم مستمر.

إن ما يقرب من خمسة ملايين فلسطيني يعيشون في الأراضي المحتلة لا يستطيعون المشاركة في النظام السياسي الذي يحكم حياتهم ويحدد مستقبلهم. فمن الناحية النظرية، يحق لمعظم الفلسطينيين التصويت في انتخابات السلطة الفلسطينية. ولكن بما أن صلاحيات السلطة الفلسطينية محدودة، فحتى لو عُقدت الانتخابات بانتظام (كانت آخرها في عام 2006)، فإن النظام الإسرائيلي سيظل يحكم حياة الفلسطينيين، مع احتفاظه بجوانب رئيسية من الحكم في الأراضي المحتلة. ويشمل ذلك السيطرة على الهجرة، وتسجيل السكان، وسياسات التخطيط والأراضي، والمياه، والبنية التحتية للاتصالات، والاستيراد والتصدير، والسيطرة العسكرية على المجال البري والبحري والجوي.

وفي القدس الشرقية، يجد الفلسطينيون أنفسهم بين المطرقة والسندان. وباعتبارهم مقيمين دائمين في إسرائيل، يمكنهم التصويت في الانتخابات البلدية ولكن لا يملكون الحق في التصويت في الانتخابات البرلمانية. ومن ناحية أخرى، فإن إسرائيل تجعل من الصعب عليهم المشاركة في انتخابات السلطة الفلسطينية.

تشمل المشاركة السياسية أكثر من مجرد التصويت أو الترشح للمناصب. فإسرائيل تحرم الفلسطينيين من باقي الحقوق السياسية الأخرى مثل حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات. تمكن هذه الحقوقُ الأفرادَ من انتقاد الأنظمة الحالية، والتعبير عن السياسات الاحتجاجية، وتشكيل جمعيات لتعزيز أفكارهم والعمل بشكل عام على إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي الذي ينشدون.

وقد أدى عدد كبير من التشريعات، مثل قانون المقاطعة (الذي يمنع من مقاطعة أي مؤسسة أو هيئة إسرائيلية أو جهة استيطانية) وقانون النكبة (الذي يمنع أي مواطن من إحياء ذكرى النكبة ومن يفعل ذلك سيتعرض للسجن لمدة عام أو دفع غرامة قدرها عشرة آلاف شيكل)، إلى الحدّ من حرية عرب إسرائيل في انتقاد السياسات المتعلقة بالفلسطينيين في جميع أنحاء المنطقة. ويواجه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة قيودًا أكثر صرامة: إذ لا يُسمح لهم بالتظاهر؛ فقد تم حظر العديد من الجمعيات، وقد تم اعتبار أي بيان سياسي كأنه رسالة تحريضية. وتم فرض هذه القيود بصرامة من قبل المحاكم العسكرية، التي سجنت مئات الآلاف من الفلسطينيين، وهي آلية رئيسية لدعم الاحتلال. وفي القدس الشرقية، تعمل إسرائيل على منع أي نشاط اجتماعي أو ثقافي أو سياسي يرتبط بأي شكل من الأشكال بالسلطة الفلسطينية.

كما أن تقسيم المجال السياسي يعيق النضال الفلسطيني المُوحّد ضد السياسة الإسرائيلية. إنَّ التباين في القوانين والإجراءات والحقوق بين المناطق الجغرافية والقيود الصارمة على التنقل قد أدى إلى فصل الفلسطينيين إلى مجموعات متميزة ومتغايرة ومتفرقة. وهذا التشرذم لا يساعد إسرائيل على تعزيز التفوق اليهودي فحسب، بل يحبط أيضًا الانتقادات والمقاومة وإيقاف كل من يحاول التنديد بهذا الفصل العنصري.

«لا للفصل العُنصري» هذا هو كفاحنا

يسعى النظام الإسرائيلي، الذي يسيطر على جميع الأراضي الواقعة بين النهر والبحر، إلى تعزيز وترسيخ التفوق والسيادة اليهودية في جميع أنحاء المنطقة بأكملها. ولتحقيق هذه الغاية، قام بتقسيم البلد إلى عدة مناطق، لكل منها مجموعة مختلفة من الحقوق للفلسطينيين — وهي دائمًا أدنى من حقوق اليهود —. وكجزء من هذه السياسة، يُحرم الفلسطينيون من العديد من الحقوق، بما في ذلك الحق في تقرير المصير.

تم تطوير هذه السياسة بعدّة طرق. تقوم إسرائيل بإعادة هندسة وتشكيل الأرض ديموغرافيًا من جهة، ومن خلال القوانين والأوامر التي تسمح لأي يهودي في العالم أو أقاربه بالحصول على الجنسية الإسرائيلية من جهة أخرى، لكنها تحرم الفلسطينيين من هذا الحق مُطلقًا. لقد قامت بإعادة هندسة ديموغرافيًا للمنطقة بأكملها من خلال الاستيلاء على ملايين الدونمات من الأراضي وإنشاء مجتمعات يهودية فقط، بينما دفعت الفلسطينيين إلى مجتمعات صغيرة. وقامت بإعادة هيكلة اجتماعية للدولة برمتها من خلال فرض قيود على الرعايا الفلسطينيين، وقامت بإعادةُ هيكلة سياسية لملايين الفلسطينيين ومنعتهم من المشاركة في العمليات التي تحدد حياتهم ومستقبلهم بينما تحتجزهم تحت الاحتلال العسكري.

إن النظام الذي يستخدم القوانين والممارسات والعنف المُنظم لتعزيز سيادة مجموعة على أخرى هو نظام فصل عنصري. وإن هذا الفصل العنصري الإسرائيلي، الذي يعزز سيادة اليهود على الفلسطينيين، لم يولد في يوم واحد أو في خطاب واحد. إنها عملية أصبحت مع مرور الزمن أكثر مؤسسية ووضوحًا، مع آليات جديدة وأهداف تم إدخالها شيئًا فشيئًا في القانون والممارسات السياسية والاجتماعية لتعزيز التفوق اليهودي. إن هذه الإجراءات المتراكمة، وانتشارها في التشريعات والممارسة السياسية، والدعم العام والقضائي الذي تتلقاه، كلها تشكل الأساس لاستنتاجنا بأن معيار وصف النظام الإسرائيلي بأنه نظام فصل عنصري قد تم استيفائه.

ولحق القارئ أن يسأل ويقول: إذا كان هذا النظام قد تطور على مدى سنوات عديدة، فلماذا يتم إصدار هذا التقرير الآن؟ وما الذي تغير؟ نجيب ونقول: شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا في دوافع واستعداد المسؤولين والمؤسسات الإسرائيلية لتكريس التفوق اليهودي في القانون، والإعلان عن نواياهم علنًا. لقد أدى سن القانون الأساسي ما نصه أن (إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي) والخطة المعلنة لضم أجزاء من الضفة الغربية رسميًا إلى تحطيم الواجهة التي عملت إسرائيل لسنوات للحفاظ عليها.

ويُكرس القانون الأساسي للدولة الإسرائيلية، الذي صدر في عام 2018، حق الشعب اليهودي في تقرير المصير مع استبعاد أي شخص آخر. فهو ينص على أن التمييز بين اليهود في إسرائيل (وفي جميع أنحاء العالم) عن غير اليهود هو أمر أساسي ومشروع. وبناء على هذا التمييز، يسمح القانون بالتمييز المؤسسي لصالح اليهود في الاستيطان والإسكان وتطوير الأراضي والمواطنة واللغة والثقافة. صحيح أن النظام الإسرائيلي اتبع هذه المبادئ إلى حد كبير من قبل. ومع ذلك فإن التفوق اليهودي أصبح الآن مكرسًا في القانون الأساسي لدولة إسرائيل، الأمر الذي جعله مبدأ دستوريًا ملزمًا، على النقيض من القانون العادي أو الممارسات التي تمارسها السلطات والتي يمكن الطعن فيها. وهذا يشير إلى جميع مؤسسات الدولة بأنها لا تستطيع فقط، بل يجب عليها، تعزيز التفوق اليهودي في المنطقة بأكملها الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.

كما أن خطة إسرائيل لضم أجزاء من الضفة الغربية رسميًا تسد الفجوة بين الوضع الرسمي للأراضي المحتلة — والذي يصاحبه خطاب فارغ حول التفاوض على مستقبلها — وحقيقة أن إسرائيل ضمت بالفعل معظم الضفة الغربية منذ فترة طويلة. ولم تنفذ إسرائيل إعلانات الضم الرسمية بعد يوليو/تموز 2020، وأصدر العديد من المسؤولين تصريحات متناقضة بشأن الخطة منذ ذلك الحين. وبغض النظر عن كيف ومتى ستمضي إسرائيل في عملية الضم الرسمية بشكل أو بآخر، فإن نيتها تحقيق السيطرة الدائمة على المنطقة بأكملها قد تم الإعلان عنها صراحة من قِبل كبار المسؤولين في الدولة.

إن منطق ومبدأ وعقيدة النظام والحكومة الإسرائيلية، والتدابير المستخدمة لتنفيذه، تذكرنا بنظام جنوب أفريقيا الذي سعى إلى الحفاظ على سيادة المواطنين البيض من خلال تقسيم السكان إلى طبقات أساسية وطبقات فرعية ومنح حقوق مختلفة لكل منها. هناك بطبيعة الحال اختلافات بين الأنظمة. على سبيل المثال، التقسيم في جنوب أفريقيا كان على أساس العرق ولون البشرة، بينما في إسرائيل كان على أساس القومية والإثنية. وقد تجلّى الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أيضًا في الأماكن العامة، في هيئة فصل رسمي بين الناس على أساس لون البشرة — وهي درجة من الظهور تتجنبها إسرائيل عادة —. ومع ذلك، ففي الخطاب العام وفي القانون الدولي، لا يعني الفصل العنصري نسخةً طبق الأصل من نظام جنوب إفريقيا السابق. ولن يكون هناك نظام متطابق على الإطلاق. لقد كان «الفصل العنصري» منذ فترة طويلة مصطلحًا مستقلًا، راسخًا في الاتفاقيات الدولية، يشير إلى المبدأ التنظيمي لجهة ما وهو: الترويج المنهجي لهيمنة جماعة على أخرى والعمل على ترسيخ ذلك.

لا يتعين على النظام الإسرائيلي أن يُعلن عن نفسه ويعترف بأنه نظام فصل عنصري حتى نتمكن من وصفه بهذا الوصف. بل لن يتغير هذا الوصف حتى لو أعلنت الحكومة بأسرها أنها حكومة ديموقراطية وعادلة، ذلك أن ما يحدد الفصل العنصري ليس التصريحات بل الممارسة.

بالفعلِ لَا بالقولِ تعرفُ وُدَّهم … والفعلُ يَكشِفُ مُضمَرَ الأعمَاقِ [2]

وفي حين أعلنت جنوب أفريقيا نفسها نظامًا للفصل العنصري في عام 1948، فمن غير المعقول أن نتوقع أن تحذو دولٌ أخرى حذوها نظرًا للتداعيات التاريخية. خاصة وأن ردة فعل أغلب البلدان للفصل العنصري في جنوب أفريقيا من المرجح أن تردع البلدان عن الاعتراف بتنفيذ نظام مماثل والاعتراف بأنها دول فصل عنصري. ومن الواضح أيضًا أن ما كان ممكنًا في عام 1948 لم يعد ممكنًا اليوم، سواءً من الناحية القانونية أو على مستوى الرأي العام.

على الرغم من أن النظر إلى الواقع ومواجهة حقيقته المخزية والظالمة قد يكون مؤلمًا، إلا إنه من المؤلم أكثر أن ندفن رؤوسنا في التراب كالنَّعام. إن الواقع القاسي الموصوف هنا قد يتدهور أكثر إذا تم إدخال ممارسات جديدة — سواء شُرِّعت قانونيًا أم لم تُشرَّع —. ومع ذلك، فقد أنشأ البشر هذا النظام الظالم ويمكن للبشر أن يجعلوه أسوأ، ويمكن لهم كذلك أن يعملوا على استبداله وإزالته. وهذا الأمل هو القوة الدافعة وراء هذا التقرير. فكيف يمكن للناس أن يحاربوا الظلم إذا كان غير مسمى لهم ولا يعرفون كُنهه؟ إن الفصل العنصري هو المبدأ المنظم الذي تتخذه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، لكن الاعتراف بذلك كحقيقة واقعية لا يعني الاستسلام. بل على العكس: إنها دعوة للتغيير.

إن النضال من أجل مستقبل يقوم على حقوق الإنسان والحرية والعدالة أمر بالغُ الأهمية في وقتنا الحاضر. ومع العلم أن هناك مسارات سياسية مختلفة لتحقيق مستقبل عادل في تلك المنطقة، بين نهر الأردن والبحر المتوسط، ولكن يجب علينا جميعًا أن نختار أولًا أن نقول لا للفصل العنصري.[1]

فريق الإعداد
الدورالاسم
ترجمةمحمد رضا
تحريرشيماء محمود
شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي