مُهمَّتي انتهت.
كلَّلوا بالغارِ مَركبي المُتعَب..
لقد بلغتُ المرفأ الذي طالَ إبحاري إليه..
ستؤدّون نذوركم حالًا لشاعرِ أبوللو..
وقد شُفيتم الآن رجالًا ونساء بفضلِ أغنيتي.
بهذا الإيقاع نستسلم لـ «أوڤيد» ولفنِّ حُبِّه أو «فنّ هواه» الذي أراده لنا ذاك الشَّاعر الرومانيّ الكبير. ذلك الشَّاعر الذي ما إن تجثو إحدى قصائده بين يديكَ، حتى تُعيد قراءة سيرته مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعة، كي تتأكد مرارًا من عُمرِ تلك القصائد، الذي يقارب ألفَي سنة!
في حياةِ الشاعر الروماني أوڤيد تلتقي الحقيقة والخيال، ويتزاوج العقل والوجدان. لقد نثرَ هذا البلبل المُغرِّد أناشيده وسطر على جبينِ كتاب الأدب خواطره وحبه وعشقه ومجونه وسار شِعره مسار القلم. وُلِدَ أوڤيد في العام الثالث والأربعين ق.م في المدينة الحالمة الواقعة على بُعد مئة وخمسة عشر كيلو من روما تقريبًا. وعندما نسمع بعامِ مولده هذا فإننا نتذكر على الفور عام وفاة الكاتب والخطيب والقانوني «شيشرون-Cicero» صاحب الخُطب الرنَّانة.
ترك القضاء الذي درسَه، وهربَ صوب الشعر الذي بدأ بكتابته منذ الثامنة عشر من عمره، وسط بيئةٍ أعادت إحياءَ الملاحم اليونانيّة بنفَسٍ رومانيّ وحلّ فيها الشعر بمرتبة مرموقة، وظهرت فيها أسماءٌ كبيرةٌ في الأدب مثل «هوراس» و«أوفيد» و«فرجيل».
ارتحلَ أوڤيد بين المدن، وكان لأوڤيد محطات في مُعظم مدن العالم، فقد قضى سنوات الصبا في سولومنا، ثم نراه ذلك الشاب الجميل في روما حيث أرسله والده الى هناك ليدرس الأدب والخطابة والقانون والشِّعر، وبدأت ملامح فلسفته في التبلور في العشرين من عمرِه، وهامَ الشَّاعر في تلك الفترة بالغناءِ والفنِّ الرقيق.
كانت لأعماله آثارٌ كبيرة على الأدبِ الغربيّ. تتضمَّن أعماله المعروفة الأخرى: «الغرام-Amores»، وهي ثلاثة أجزاء من قصائد الحب، و«هيرويديس-Heroides»، وهي رسائل وهمية من امرأة إلى أحبائها، وعُرف بكتابته حول استكشاف الحب مثل قصيدة «فن الهوى-Ars Amatoria» التي كتبها في السنة الأولى قبل الميلاد.
أما الكتاب الثالث، فيتوجهُ فيه إلى المرأة، بجملة من الإرشادات، إنه لا يريدها خانعةً عاشقةً مستسلمةً، المرأة العاشقة هنا، هي التي تُعنى بقراءة الشعر وتعلّم الموسيقى والرقص وممارسة الرياضة، العاشقة التي يريدها أوڤيد، هي المسلّحة بالعلم والقوة والذكاء. [1]
من لا يعرف فنّ الحبِّ في هذه المدينة
فعليهِ أن يقرأ هذا الكتاب ليتعلّم كيف يجيد العشق
الأشياء القليلة تسرُّ العقول الصغيرة: وهي تثمر كثيرًا
كأن تُسوّي وسادتَها بلمسةٍ بارعة
وبمروحة رقيقة ترسلُ إليها نسمة.
غالبًا ما نرى في أيّام الخريف الجميلة
أن الجسم يضعفُ تحت وقع المناخ المتغير
حين يصطبغ العنب بالأرجوان مترعًا بالنبيذ
وحين تتحول الحرارة الفاترة مع قشرة باردة من الصقيع.
ازرعْ البذار بعمقٍ
وبعد حينٍ ستحصدهُ بمناجل ممتلئة.
امنحها استراحة
فالأرض إذ ترتاحُ تنتج غلّتها المثلى، والحقولُ الجافة تتشرّب الأمطار”
بالحراثة تجود البراري القاحلة بالغلال
وتواجه الورود البريّة نهايتها
والعناية تُكسبُ الفاكهة المُرّة حلاوة
المرمر يستر التربة السوداء.
وحين وقع كتاب «فن الهوى» بين يديّ، وجدتني أغرق بين صفحاته، حتى لم ألبث أن انتهيت منه في نفس الجلسة، وحين استغرقت مع «مسخ الكائنات» أو «التحولات» -بترجمة د. ثروت عكاشة و الشاعر العربيّ الكبير أدونيس- والتي كانت عن الميثولوچيا الإغريقية والرومانية، وجدتُ نفسي أتساءل: تُرى كيف كان شكل العالم وقتها؟ وتُرى كيف تهيَّأ لهم نَسْج هذا الخيال؟ أكان أوڤيد يحلُم حين كتب عن الهوى؟ أم كان هواه هو الحُلم؟ أسرَني أوڤيد بقصائده، وأسرَني فن تجسيد التفاصيل الرومانية في لوحاتٍ رسمها مشاهير الفن الروماني تضمّنتها الصفحات الأخيرة من الكتاب كختمٍ يطبع به أوڤيد على عقول القرّاء، ويدع يونانية الأساطير تداعب ذاكرتهم كما تداعبها رومانية الإسكندرية.
هَـمَـسات أوڤيد (*)
هِيَ كُلٌّ لا يَتَجَزَّأ…
طالَ انتِظارُها ،
بينَ حُقولِ القَوافي..
لَها في العَينِ مساحةٌ
من نور وجلنار..
وزُرقةٌ من بحرٍ
وسماءٍ .. وَمَدى …
بنتُ ذاك الزمانِ الغابرِ
من أَديمِ الشمسِ والقمرِ
تكْسِرُ رتابةَ البحرِ..
وتقرعُ أجراسَ الياسمين
توجزُ كلّ الضَّميرِ الشَّقِيِّ
مُلهِمَةُ الشعْرِِ ..
والحياةِ .. والهَوى…
مُكلَّلةً بهالةِ الزمانِ،
مهدُ ليلٍ آمنٍ،
أوراقُ شجرِ النهار
ورغوةُ الندى..
مزاميرٌ من رياحٍ،
من همساتِ أوڤيد..
وابتساماتٌ من شَذى.. [4]
ولأن جوهرَ الحبِّ واحدٌ، والشعرُ حاملٌ لذاك الجوهر وعاكس لمعناه، لن نشعر ونحن نقرأ تلك القصائد بفارق السنين، إلا كضيفٍ خفيف جميلٍ على هندسة القصيدة، زمانيًا ومكانيًا وتشكيليًا. وليس هناك من مبالغةٍ إن قلتُ: إنَّ أوفيد -في هذا الكتاب- غدا محللًا نفسيًّا يعيش بيننا الآن، أو عالمًا أنثروبولوجيًا ماهرًا في سبر أغوار العوالم البشرية.
كانت السيرينات جنيّات بحرٍ، بقوّة الغناء
قادرات على إيقافِ أسرعِ المراكب عن الجريان
لكن أوليس شقَّ طريقه طليقًا من سحر ذاك الصوت،
ويقال إنّ آذان رفقائهِ كانت مسدودة بالشمع.
أيتها الجميلات تعلّمنَ الغناء
الأغنيةُ شيءٌ من الحظوة،
كان أورفيوس يقودُ بعُودِهِ الوحوشَ والجلاميد
وأنهارَ الجحيمِ والكلب ذا الرؤوس الثلاثة.
ما يعطيه هذا الصدق هو موضوعُ الحبِّ ذاته، وعلى الرغم من الماضي السحيق بين عصرنا هذا والعصر الذي ألّف فيه أوفيد فنّ حبّهِ. الحبُّ هو ذاته، وإن تغيرت أماكنه ووجهاته، فإن كانت لحظة التعارفِ ونيل قلب المحبوب تجري أحداثُها كما يشير لنا أوفيد في مدرّجات المسرح أو حَلبات السيرك، فإنَّ هذا التفصيل لن يُحدث شرخًا يُذكر في الجوهر الحقيقيّ الذي يتغنّى به الحبُّ منذ الخليقة. [2]
وقد شدى أوڤيد بقصائدِ الغزل بين مُحبّي الأدب حتى أسرَ قلوبَ الأُدباء والنساء والكثير من أبناء جيله. ومن قصَّةِ حُبٍّ حقيقية أثارتها فاتنةٌ من غانيات روما -لم يُعرف اسمها حتى الآن ولكن سمَّاها شاعرنا باسمٍ مُستعار: «كورينا»- استلهم قصائده. وكانت حُجَّته الدائمة عند اتّهامه بالعربدة أن المرء في روما لا يستطيع أن يبقى في معزلٍ عن الملذّات مهما فعل.
كما قال في إحدى قصائد «الغزليات»:
«أرأيت يا صديقي.. لو أن هيبوليت ابن تيسيوس يعيش في روما معنا.. فإنه أكيدٌ تَحوّله إلى بريابوس» [4]
*هيبوليت هو شاب عفيف دعته فيدر -زوجة أبيه تيسيوس- فامتنع عنها لحبه للعفاف والطهارة. وقد تناول هيبوليت الأديب الفرنسي رأسين في رائعته: «فيدر» وبريابوس شاب ماجن داعر.
تبتسم الأيام لأوڤيد، ويصبح اسمه على كل لسان، ويجاهر باختلافه في الأسلوب الشعري مع «فرجيل» صاحب الإنياده ويرى في نفسه وترًا جديدًا على القيثارة الرومانية، ويبدع رائعته «في الغرام-Amores» وهو كتاب يحتوي على ثلاثة أجزاء: أما الجزءان الأول والثاني فيتناولان وجهة نظر الرجال في الحب، وفي الجزء الثالث يعرض رأي النساء.
أساطير وملاحم، حكايات وقصص، تفسيرات وأحكام، بأسلوبٍ شاعريّ حكيم، يكتب لنا أوڤيد عن الحبّ وأعراضه وسلوكه وطُرقه، وكيف لنا أن نُشفى منه، إن عبثَ فينا وتملّكَ مصائرنا.
أَرسلْ سلّةً حافلةً بطيبات الريف
قلْ إنها هديّة من جارتك الريفيّة
مع أنكَ اشتريتها من الطريق المقدّسة.
المعاملةُ الطيبةُ الحكيمة هي التي تأسرُ فعلًا
والطباعُ الوحشيّة تقودُ إلى العداوات والضغائن الموجعة
إننّا نكرهُ الصقر الذي يشنُّ الهجوم في جميع أيّامهِ
ونكرهُ الذئب الذي يفترسُ القطعان الخانعة
ولكن ما من أحدٍ يتآمرُ على السنونو اللطيف.
يقول أوڤيد في إحدى القصائد -والديوان مُترجم إلى العربية-:
«الجمالُ ميزةٌ هشَّة. ما أسرع ما تخبو مع الأيام ويأتي عليها تعاقب السنين؛ فالبنفسج لا يزدهر إلى الأبد، والزنبق لا يفتر بالبسمة دومًا، والوردة إذ تذبل تُخلّف إبر الشوك. وعمَّا قريبٍ أيُّها الشاب الوسيم يكسو الشعر الأشهب رأسك بعدما يحفر الدهر أخاديده على بشرتك. إذًا فأبدع لنفسك روحًا مشوقة صنوًا لجمالك؛ فهي لوحدها تبقى بجوارك حتى ساعتك الأخيرة فوق المحرقة. واصقل فكرك بالفنون والآداب.. ولا تهوّن من شأنهما» [5]
ولو وقفَ إنتاج أوڤيد عند هذا الحد، لما وقف بجانب هوميروس ودانتي وشكسبير وفرجيل، ولكن أوڤيد صمّم أن يقف على قمة شاهقة من قمم الخلود؛ فبدأ تأليف رائعته الخالدة «التحولات» الذي احتفل العالَم الأدبي بمرور ألفيّ عامٍ على صدورها. [3]
تُعَد «التحولات» من أعظم المؤلفات في ذلك العصر، إذ عالج فيها أوڤيد الكثير من مسائل علم الجمال على أساس الفهم المادي للعالم، مدافعًا عن قوانين الطبيعة الأزلية، ومؤكدًا على أبدية المادة وعدم اضمحلالها، واعتبر الجمال ضرورة إنسانية، وقد نشأ بدافع الحاجة إليه، إذ إنه ظهر مع تطور الجماعات البشرية، فبرزت الموسيقى والرسم والرقص والغناء ضرورة مكملة للحياة.
وقد رفض هذا الشاعر الفيلسوف السحر والشعوذة والتنجيم والأفكار القائلة بحتمية القدر، فأكّد في وصاياه على الدور المهم الذي يلعبه محتوى الفن، كما طالب المبدع بثقافة فلسفية، وأن يحافظ على الوحدة والبساطة والتكامل والاستمرار والصدق في إنتاجه الأدبي.
لقد توجه أوڤيد بأشعاره وكتاباته الفلسفية إلى الآخرين، ومجّد المشاعر الجماعية السامية والحب والمجد، وكل العواطف التي يمكن أن يلهبها الوجود الحقيقي أو الخيالي لفئة اجتماعية بكاملها، والرغبة في فرض شكل متكامل للتعبير عن العاطفة وبالتالي يكون خالدًا، وهذه الصفة هي التي تؤكد على وجوب اتباع الحقيقة المطلقة. فهو يقول:
«إذا رغبت في ابتداع شيء ما فكن في تفكيرك قريبًا من الحقيقة، أما أن تطلب من الناس أن تصدق كل شيء فهو أمر مستحيل»
وفي هذا التحول لعب أوڤيد دورًا بارزًا في حياة الإمبراطورية الرومانية.
أوڤيد هو عن حق شاعر الأنوثة والنساء من بين شعراء اللاتين مثلما يصفه الشاعر الفرنسي «بيار غريمال»، والذي يقول عنه أيضًا:
«إنه أعطى صوتًا لنصف الجنس البشري الذي غالبًا ما سكت عنه بتواطؤ مقصود»
الآن أتذكر أنفاس الشاعر الروماني «كاتلوس»، وهو ينشدُ قصائد حبِّه إلى «كلوديا»، ببساطةٍ ونشوةٍ عارمة، نكادُ نرى قلبه ينبضُ بين الحروف، متوهجًا بنار الحبِّ، وبتلك البساطة والحريّة والصدق والذكاء، بعيدًا عن سهام القدر في التراجيديات العاشقة، وعن جنون الحبّ وانتحاره في رومانتيكيات القرن السابع عشر.
حتى جاء أوڤيد برفقة ربّة الفنون والحب فينوس، ليُغني ويحمي ويوصي ويُنقذ العشاق، عندما يخترقهم سهم «كيوبيد» ويوقعهم أرضًا، إنه يريدُ أن يحمي الحب من ضالّته كي يستمر، أن يبعدَ عنهُ جراح الأذى كي ينعم بالسعادة، أن يجعلنا نتأكد من أننا على طريق الحبّ الحقيقيّة، ومن بعدها نبدأ الغناء.
لقد نظم أوڤيد أساطير اليونان شعرًا رائعًا ظلَّ الناس يجدون فيه الجدة في كل قرن من القرون. نظم شعرًا رائعًا بعيدًا عن السردية. وقد أثرت التحولات في أدب كل أمة، فنقلها إلى الانجليزية «درايدن» وصاغها قصصًا منثورة أديب الطليان «بوكاشيو»، ونقل جزءًا منها نثرًا بديعًا المرحوم الأستاذ «دريني خشبة» في الأربعينيات من القرن العشرين.
نظم أوفيد قصائد «التحوّلات» من أمثال برسيوس، وأندروميدا، وديدالوس، وإيكاروس، وقصيدة أورفيوس، ويوريدس، وغرام أتلانتا الفاتنة -التي سُمّيت باسمها إحدى الولايات المتحدة الأمريكية- وغيرها. [4]
وسُئل الشاعر الكبير والمعاصر «يوزيف برودسكيج» لو قيض لك أن تكتب عن بيت شعري من الماضي فأي بيت تختار؟ فاختار من دون تردد هذا البيت الذي لا يزال يحتفظ برثائية قصص الحب للشاعر أوفيد: «لا أستطيع العيش لا معك ولا من دونك»
وفي أثناء عمله في «التحولات» شهدت العاصمة الرومانية روما حفلًا بهيجًا حيث شهد جمع غفير ضمّ فيمن ضمّ الإمبراطور أغسطس وماسينياس وفرجيل.
وبعد فترة من صدور التحولات فوجئت الجمهورية الرومانية بأمر من الزعيم القدير أغسطس ينفي أوڤيد من روما إلى شمال البحر الأسود، وكأنَّ مصيره كمصير شاعرٍ سارَ عكس القانون الذي سنّه ووضعهُ أباطرةُ زمنه، ولن نتحدث الآن عن سبب القرار ولعله من أسرار التاريخ، والتفصيل في الموضوع يحتاج إلى مقال خاص، ويُلمّح بعض كتاب التراجم أن أوڤيد كان على علاقة مع يوليا حفيدة الزعيم أغسطس.
كان على أوڤيد أن ينفذ أمر الإمبراطور فتوجه إلى توميس وهي مدينة على البحر الأسود. ووصل شاعرنا الكبير ولم يرتح لتلك المدينة ولا أنِس بها، وازداد مع مرور الأيام شعوره بالإحباط والكآبة والسأم والحزن.. واستبدَّ به الشوق إلى روما كما استبدّ بشاعرنا الشهيد أبي فراس الحمداني؛ فيَنظم قصائده التي تقابل الروميات التي نظمَها شاعرنا.
وقد أفرغ أوڤيد في قصائده أحزانه وآلامه؛ فيقول أوڤيد:
«مثل صديقات باخوس المجذوبات.. هكذا أنا.. تشتعل في روحي جذوة ويصيبها مسّ من صولجان باخوس ويرسل الاعتذارية تلو الاعتذارية إلى الزعيم أغسطس، فلا يرقّ لحاله ولا يرحم روحه المُعذَّبة»
ويموت أغسطس.. ويقوم بأمر الإمبراطورية من بعده ابن زوجته تبريوس، ويصل الخبر إلى الزعيم الجديد أن أوڤيد قد توفي. وسكنت القيثارة الخالدة التي لا ينسى قرّاء الأدب صوتها المخمليّ الرائع. ويرقّ قلب تبريوس؛ فيأمر برجوع جثمان أوڤيد، ويحتفل الشعب بدفن الشاعر القدير غير بعيد عن عاصمة الرومان الخالدة.
الثياب تُبلى والذهب والجواهر تنكسر
الشهرة التي يجيءُ بها الشعر ستبقى أبدَ الدهر.
كان الشاعر أوڤيد ولا يزال بالفعل أستاذًا فيما يتعلق بكل مستويات المعرفة بالمُجردات، أستاذيةً تنتج في أكثر أعماله شيوعًا «التحولات»، بقصة كونية لعالَمٍ كل ما فيه يتّسم بالدينامية والحركة، ذلك أن أوڤيد كان شاعرًا مطبوعًا فهو يعترف في مقالة «الحزن»: «مهما كانت طبيعة ما أحاول قوله يتأتى لي قوله شعرًا». ولكل ذلك خلّد اسمه في التاريخ، إذ اهتم به عصر النهضة والباروكية إلى قرن الأنوار الذي تعرف على مثاله الليبرالي وفن هواه.
يوم قرأ كيوبيد عنوانَ كتابي هذا
صاحَ: إنّه إعلانُ حربٍ عليّ، أرى إنّها الحرب،
أيّها الغلام المحبوب أنا لم أخنْك ولم أخنْ موهبتي
أتمنى حظًا سعيدًا لكل عاشقٍ مولعٍ في الحبِّ
دعه يستمتع ويبحر بشراعه أمام الريح
ولكن إذا أنشبت فاجرة أظفارها فيهِ
فلا بدّ أن يجدَ العون والسلامة في فنّي”.
تأكد من الحب أيها العاشق قبل أن تقع في شباكه، ويكون الوهم والفراغ حليفك فقط، دعونا نقرأ هذه الحكمة:
تبدأُ الأنهار صغيرة من ينابيع حارّة
لكنّ معظمَها يتضاعفُ بفضل الروافد.
تبدأ العلّة خدشًا أول الأمر
لكن الإهمالَ يُكسبها قوًّة وتستدعي الطبيب بعد فوات الأوان.
واصلْ العمل حتى تقضي على الحبّ،
الحبّ يخضعُ للعمل، فينوس تحبُّ الفراغ
هكذا أعطِ البال الخالي عملًا ينشغلُ به.
الزراعة والصيد والتأمل في أسرار الطبيعة ومخلوقاتها من ثمار وشجر ونحل، أدواتٌ تخفف من لوعة الحبّ، والسفرُ دواءٌ فعال أيضًا:
ابدأ برحلةٍ طويلةٍ وسافرْ حالًا
ستبكي،
واسم صديقِ حبيبتِكَ سيشغلكَ كثيرًا
وفي الطريق سوف تتباطَأ وتتأخر.
بقدرِ ما تقلّ رغبتكَ في الذهابِ واصلْ السفر أكثر،
أجبرْ هاتين القدمين على الفرارِ،
لا تسلْ كم ميلًا قطعت، ولا كم تبقّى
ولا تحاول التأخير لتبقى على مقربةٍ منها
لا تلتفت إلى أفقٍ وراءه روما
حسبك أن تنجو
الحبُّ يأتي بحكم العادة والعادة تُقصيه كذلك”.
وكي تداوي قلبكَ الذي شطره سهم كيوبيد إلى نصفين، عليكَ قتل الوحدة وهجرة الذكريات ولو مؤقتًا، لا رسائل ولا أمكنة ولا صور تجمعُكَ بالحبيبة، ريثما تندمل الجراح النازفة:
أنتَ لست بحاجة للعزل
في المكان المعزول تتكاثرُ الوساوس
لا تترك بابكَ موصدًا
الليل أشدُّ حزنًا من ساعات النهار.
لا تتجنب المحادثة
ولا تحبسْ في الظلام نفسكَ الطافحة بالدمع.
إيّاكَ أن تعيد قراءة رسائل فاتنتكَ،
إن قراءة الرسائل من جديد
تُحرك قلبًا من حجرٍ
أطعمْها كلها للنيران،
أزلْ صورها كذلك
تجنبْ كلّ مكانٍ كان يحتفي بكما وأنتما معًا
إنَّ ما يثير الذكرى يُصقَل بالحبّ الخام ويُفتّق الحبّ من جديد،
فمرور الوقت لا يؤذي العقول الضعيفة إلاّ قليلًا جدًّا. [4][5]
كتابة وإعداد: هبة خميس
مراجعة علمية: سلمى عياد
تدقيق لغوي: هاجر زكريا
تحرير: نسمة محمود
المصادر:
- “Ovid – Ancient Rome – Classical Literature.” Ancient Literature, bit.ly/2KrIrss.
- “Ovid | Roman Poet.” Encyclopedia Britannica, bit.ly/2rz0x1z.
- Ovid Facts, bit.ly/2L1KIdm.
- By Ovid, ثروت عكاشة (ترجمة وتقديم), مجدي وهبة (مراجعة) . فن الهوى Ars Amatoria. Paperback, 262 Pages Published 1980 by دار الشروق (First Published -1).
- By Ovid, أوفيد, ثروت عكاشة (ترجمة وتقديم), مجدي وهبة (مراجعة) . The Metamorphoses. Paperback, 368 Pages Published 1992 by الهيئة المصرية العامة للكتاب (First
Published 8).