عندما تُفكِّر في شيءٍ ما تأتيك الاحتمالاتُ في صورةٍ من ثلَاث: جسمٌ صلب مثل كأس أو كوكب، أمرٌ تستطيع حواسُّك التقاطه مثل الألوان، أو أمرٌ مجرَّدٌ لا يُمكن لحواسِّك إدراكُه مثل العَدالة أو الحُب.
وَجدتْ دراساتُ عِلم الأعصَاب أن كُل مَفهومٍ من المَفاهيم السابقة يعمل على تنشيط منطِقةٍ مختلفةٍ من الدِّماغ البشَريّ، ولكن ماذا عن شخصٍ وُلد فاقدًا حاسَّة البصَر؟ هل يختلفُ فهمه للألوان عن شخصٍ مُبصِر؟ دراسةٌ جديدة كشفتْ ذلك.
مفاهيمٌ مُختلفة
أجرى البروفيسور الفونسو كارامازا (Alfonso Caramazza) في جامعة هارفارد دراسةً ديسمبر الماضي، ونُشِرت في مجلة (Nature Communications)، والتي صُمِّمت لتوضِّح بشكلٍ علمي كيف يعالج فاقدو البصر مُختَلف المعلومات التي يستقبلونها عوضًا عمّا يعتقدونه حول الألوان فقط.
في بحثٍ سابق، قام العُلماء بفحص أدمغة البَشر أثناءَ تفكِيرهم في مفَاهيم مُختلفة مَجرَّدة وأخرى مَلمُوسَة، فوجدوا نشاطًا في منطقتين مختلفتين بشكل مُنفصل خلال هذه العملية، حيثُ تُضيء مراكز اللغة استجابةً للكلمات المُجرَّدة، في حين أن المراكِز الحِسِّية هي التي تَنشَط استجابةً للأشياءِ الماديّة. مع ذلك، لُوحِظ وجود منطقة واحدة يبدو أنها تقومُ بمُعظم العَمل وهي الفص الصدغي الأمامي الأيسر (The left anterior temporal lobe)
[إن صَنعت قبضة من يدك اليمنى لمحاكاة شكل الدماغ فستجد إبهامك يُمثل هذه المنطقة].
ولكن، وكما أشَرنا في بداية المَقال، العَالم ليس مصنوعًا فقط من أشياءَ مَلمُوسَة تستطيع إدراكها وأُخرى مُجرَّدة لا يمكن إدراكها.
ماذا عن الأشياء التي تستطيع رُؤيتها ولكنَّك غير قادرٍ على لمسِها، مثل “اللون الأحمر”؟ أو الأشياء التي لا تستطيع إدرَاكها بحواسِّك ولكنها تُحرك مشاعرك، مثل “الحب”؟ إنه من الصَّعب الإشارة ببساطة إلى أي منطقة تلك التي تنشَط من الفص الصدغي الأمامي الأيسر (ATL) نتيجةً لتلك المؤثِّرات، لأن هناك العديد من الكلمَات التي يمكن أن تأتي لأذهان المُشاركين وتَعبث في النتائِج.
الطريقة المُثلى لمعرِفة أي الأجزاء تلك التي تنشَط نتيجةً لكل مُؤثِّر مما سَبق هي إزالة المُتغيِّر، كحاسَّة الإبصَار على سبيل المثال، وتسجيل استجابة الدماغ المختلفة.
هل تَرى ما أَرى؟
هذا ما فعله العُلماء بالضبط، وضعوا 14 شخصًا مبصرًا و12 شخصًا من فاقدي البصر منذ الولادة في أجهزة تصوير الدماغ (brain scanner)، ثم بدؤوا بتلقينهم كلمات، بعضُها كان أشياءَ ملمُوسة تُستخدم يوميًا مثل الكوب، والبعض الآخر مُجرَّد أشياء لا يمكن إدراكها بالحواس المختلفة مثل الحرية، وبعض الأشياء التي لا يمكن إدراكها إلا بصريًا، مثل: قوس قزح واللون الأحمر.
اتَّضح أن كلا من المُبصرين وغير المُبصِرين يعالِجون المُعطيات الملمُوسة والمُجرَّدة باستخدام نفس المناطق في الدماغ، فالأشياء الملمُوسة تُنشِّط الجهة الأنسية من الفص الصدغي الأمامي (medial ATL)، والأشياء المُجرَّدة تقوم بتنشيط الجهة الخلف جانبية منه (dorsolateral ATL)، عند معالجة المبصرين لـ”أحمر” في الجهة الأماميّة من الفص الأمامي الصدغي (anterior ATL) كان غير المُبصرين يعالجونها باستخدام الجهة الخلف جانبيّة (dorsolateral ATL)، وهي نفس المنطقة التي تنشط عند معالجة الأشياء المجردة التي لا يمكن للحواس المختلفة إدراكها!
قال كارامازا في مؤتمرٍ صحفيّ:
“لقد وجدنا في العمى الخلقي -منذ الولادة- أن الاستجابة العصبيّة لـ(اللون الأحمر) تكمن في نفس المنطقة التي تستجيب لـ(العدالة)”
ويستكمل كارامازا، قائلًا:
“يحمل اللون الأحمر عند الشخص الأعمى معنى مشابه لمعنى الفضيلة عند الشخص المُبصر، وفي كلتا الحالتين ثُمَثَّل المعلومات المقدَّمة للمخ في الجُزء الخاص باستقبال المُدخلات اللغويّة”
ما لم تستطعْ الدراسَة تحديده هو كيفية ترجَمة الألوان إلى معانٍ مُجرَّدة عند فاقدي حاسَّة البصَر، ويعتقد كارامازا أن معرفة هذا الأمر متروكَة للفلاسفة.
أظهرتْ الدراسات أن الأشخاص الذين وُلدوا فاقدين لحاسَّة البصَر جيّدون جدًا في وصف الألوان لدرجة أن باستطاعتهم ترتيبها في عجلة الألوان (Color wheel) حسب التسلسُل الطيفي، الأرجواني بجوار الأزرق والأحمر بجانب البرتقالي… إلخ. فهمُه للألوان كشيءٍ مجرَّد لا يعني أنه لا يفهمُها حقًا!
وقال كارامازا:
“قد تتحدَّث إلى شخصٍ أعمى، وإن لم تكن على عِلمٍ مُسبَق أنه أعمى فلن تشُّك أبدًا أن فهمه للون الأحمر يختلف عن فهمك له، لأنه في الحقيقة يَعرفُ جيدًا ما يعنيه اللون الأحمر، هو يفهمه جيدًا بنفس الطريقة التي تفهَم أنت بها معنى العدالة”
تُؤكِّدُ هذه الدِراسَة أنه مَهما اخْتلفتْ الطريقَة التي نَرى العَالَم بها فبإمكِانِنا جميعًا التَّوصُّل إلى فهم مُتماثِل.
ترجمة: نهى محمود
مراجعة: أحمد منتصر
تَدقيقٌ لُغَوِيّ: محمود خليفة
تحرير: نسمة محمود