إذا كنت تمتلك منظورًا فلسفيًا متشائمًا تجاه العالم فمن المنطقي أن تشعر أيضًا بالتعاسة. على الرغم من من ذلك، هناك ما هو أعمق في فكرة أنّ فلسفتك مرتبطة بصحتك العقلية من مجرد التفكير في أن التشاؤم اسوأ من التفاؤل لصحتك العقلية. على سبيل المثال، أي منظور فلسفي يمكن اعتباره الأكثر تأصلًا في الواقع: التشاؤم أم التفاؤل؟ وبأي طريقة تكمن السببية؟ هل يؤدي الاكتئاب إلى التشاؤم أم تؤدي النزعات التشاؤمية إلى الاكتئاب؟ هل السببية ذات اتجاه واحد؟ أليس من الممكن أن يكون التشاؤم ومشاكل الصحة النفسية مثل الاكتئاب يتفاعلان في دائرة مع تأثيرات تراجع متزايدة ووحشية؟ أود أن أفحص هذه الأسئلة واحدًا بعد الآخر، مستعينًا بأمثلة لفلاسفة ينطبق عليهم الوصف كمتشائمين (مثل آرثر شوبنهاور Arthur Schopenhauer) أو كمتفائلين.
هل يرى المكتئبون العالم بشكل أوضح؟
«الواقعية الاكتئابية» هي الفرضية أنّ الأشخاص المكتئبين يمتلكون رؤية أوضح عن ماهية الأشياء أو يتخذون قرارات أكثر واقعية مقارنةً بعامة الناس. هذه الفكرة طوَّرها عالما النفس لورين ألوي (Lauren Alloy) ولين يفون أبرامسون (Lyn Yvonne Abramson) ، ووُضعت أُطرها في كتاب «الواقعية الاكتئابية: أربعة منظورات نظريّة» (1988). على الرغم من أنّ الاكتئاب السريري يتضمّن قناعات وتصرفات غير تكيّفيّة؛ يحاجج ألوي وأبرامسون أنّ الأفكار السلبية التي يمتلكها المكتئبون تعكس تقييمًا أكثر دقة للعالم. غير المكتئبين، الذين يشكلون معظم الناس، يقيّمون العالم بطريقة منحازة إيجابيًا، ويميلون إلى رؤية الماضي والحاضر والمستقبل بنظارات ورديّة.
هذا الانحياز يُعرف بمبدأ بوليانا، ويُرى في المَيل إلى تذكَر الأحداث السعيدة بوضوح أكثر مقارنة بتلك غير السعيدة. يأتي اسم هذا الانحياز من رواية «بوليانا» (1913) التي كتبتها إلينور بورتر (Eleanor H. Porter). الشخصية الرئيسية في الرواية هي فتاة صغيرة تلعب ما تسميه «لعبة السرور»؛ حيث تحاول أن تجد شيئًا لتكون سعيدة حياله في كل موقف.
هل يُبرهن الدليل على نظريّة الواقعية الاكتئابيّة؟
أحد التحليلات التجميعية للدراسات السوسيولوجية المتاحة تقول أنّه في المتوسط وعبر كل هذه الدراسات، يوجد تأثير محدود للواقعية الاكتئابيّة (الواقعيّة الاكتئابيّة: مراجعة تجميعيّة تحليليّة. مايكل مور ودايفد فريسكو، 2012). لكنّ مؤلفيها يشيران إلى أنّ المنهجيّة المستخدمة ذات تأثير على العثور على الواقعيّة الاكتئابيّة من عدمه. قد يكون بوسع هذا تفسير سبب وجود أدلة تدعم وتدحض الواقعيّة الاكتئابيّة.
التشاؤميّة الفلسفيّة
أكثر الفلاسفة المتشائمين شهرةً هو آرثر شوبنهاور. بعض من مقالاته المتفائلة تتضمّن «عن معاناة العالم» و«عن تفاهة الوجود». من الصعب تقييم ما إذا كان شوبنهاور نفسه قد عانى من اكتئاب سريري حقيقي أم أنّه استمتع بكونه عجوزًا نكِد. بل وأبعد من ذلك، ليس من الواضح إذا كان شوبنهاور متشائمًا بطبعه بالفطرة، أم أنّ تشاؤمه كان نتيجة لحياته الشخصيّة؛ والتي تضمّنت، ضمن أشياء أخرى، علاقات متوتّرة مع النساء، وبالأخص والدته. ربما بعض الأفراد بحكم طبيعتهم أكثر عرضةّ للسلبيّة، لكن والد شوبنهاور من المحتمل أنَه مات منتحرًا.
طبقًا لروديجر سافرانسكي في السيرة الذاتيّة التي كتبها «شوبنهاور والسنوات الجامحة للفلسفة» (1990): «لقد كانت في حياة الوالد بعض من مصادر الخوف المبهمة وغير الواضحة، والتي في وقت لاحق جعلته يلقي بنفسه إلى موته من علية منزله في هامبورج» (ترجمة إوالد أوزرس).
ويؤمن العلماء أن 40% من الاشخاص الذين يعانون من الاكتئاب يمكن إرجاع معاناتهم هذه إلى رابط جيني. بمزج الطبيعة والتنشئة، قد يكون شوبنهاور قد امتلك هشاشة كامنة تجاه الاكتئاب و/أو التشاؤم، وقد يكون هذا قد طفا على السطح أو صار التعبير عنه أكثر حدّة وازداد تفاقمه بسبب أحداث الحياة المجهِدة.
لتذوّق تشاؤم شوبنهاور، ألقِ نظرة على هذه الاقتباسات من «عن معاناة العالم» (ترجمة هولينجدال):
«باستثناء كون المعاناة الهدف المباشر والفوري للحياة، فإن وجودنا حتمًا قد فشل في تحقيق غايته.»
«كل محنة منفصلة، حين تحدث، تبدو بلا شك أنّها شيء استثنائي؛ لكنّ المِحن بشكل عام هي القاعدة.»
«مرة أخرى، بوسعك النظر للحياة على أنّها حدث غير مُربح، يعكّر الصفو المبارك لعدم الوجود. وفي أيّة حالة، حتى لو كانت الأشياء تسير معك على نحو جيد بشكلٍ مقبول، كلّما عشت مدّة أطول كلّما شعرت بوضوح أكبر أنّه، وفي المجمل، الحياة هي خيبة أمل، لا بل احتيال.»
أو راجع هذه الاقتباسات من «عن تفاهة الوجود»:
«الحياة البشرية لا يمكنها إلا أن تكون خطأ من نوعٍ ما. حقيقة هذا الأمر سوف تكون واضحة بشكل كافٍ فقط إذا تذكرنا أنّ المرء هو مجموع حاجات واحتياجات يصعب إرضاؤها؛ وحتى حين تُرضى فكل ما يمتلكه المرء هو حالة من انعدام الألم، حيث لا يبقى له شيء سوى النبذ للملل. هذا دليل مباشر على أنّ الوجود لا يمتلك قيمة حقيقيّة في حد ذاته، فما هو الملل إلا الإحساس بخواء الحياة؟»
«تتجلى تفاهة الوجود في كل الأشكال التي يتخذها الوجود؛ في لا محدوديّة الزمان والمكان متناقضة مع محدوديّة الفرد في كلا الأمرين، وفي الواقع العابر الذي يمثل الهيئة الوحيدة التي توجد فيها الفعليّة، وفي الاحتماليّة والنسبيّة لكل الأمور، وفي الصيرورة المستمرة بلا كينونة، وفي الرغبة المستمرة بلا رضا، وفي الإحباط المستمر للسعي الذي تتكون منه الحياة.»
اللا إنجابيّة
بالنسبة لشوبنهاور إذًا، الوجود «بلا مغزى أو قيمة». قاده هذا المنظور إلى الاستنتاج أنّه من الافضل ألا يكون قد وُلد. هذا الموقف الفلسفي المسمّى باللاإنجابيّة يفترض أنّه من غير الأخلاقي للناس أن ينجبوا، بما أنّ الوجود، طبقًا لهم، هو في المجمل نتيجة سلبية تتضمن معاناة أكبر مما تتضمن بهجة. في «عن معاناة العالم»، يتشبّث شوبنهاور بقناعته أنّ العالم والجنس البشري «هو شيء كان يجدر به ألا يكون». يستطرد:
«إذا حاولت أن تتخيّل، بقدر استطاعتك، مدى البؤس والألم والمعاناة في شتى الأنواع والتي تشرق عليها الشمس خلال دورتها، سوف تقرُّ أنّه كان ليكون من الأفضل كثيرًا لو أنّ الشمس تمكّنت من استدعاء ظاهرة الحياة على الأرض بقدر ما فعلت على القمر، ولو أنّ الأرض بقيت هنا كما على القمر، سطحًا مازال في حالته البلّوريّة.»
يردّد الفيلسوف المعاصر دايفد بيناتار صدى هذا المنظور في كتابه كان من الأفضل ألا يوجد من الأساس: «أذى المجيء إلى الوجود» (2008)، حيث يتوسع بناءً على الحجج التي قدمها شوبنهاور عن الألم واللّذة في الحياة الإنسانية من أجل تبرير موقفه من اللاإنجابيّة. يدفع بيناتار بإنه حيث الألم أمر سيئ وغيابه أمر جيد (نقاط لا جدال عليها)؛ فإن غياب اللّذة ليس سيئًا في حد ذاته. هذا يعني أنّه دائمًا من الأسوأ أن تكون موجودًا على ألا تكون موجودًا.
يبدو على بيناتار تمسكه بوجهة النظر التي عبّر عنها شوبنهاور أنّ سلبيّة الألم تفوق بمراحل إيجابيّة اللّذة. بالإضافة إلى ذلك، يرى شوبنهاور السعادة فقط كإلغاء لشيء مؤلم قطعًا. بشكل مماثل لحجّته في «عن عذابات العالم»، السعادة «هي الأمر الجيد السلبي»؛ بكلمات أخرى، السعادة والرضا دائمًا ما يعطيان إيحاءً برغبة ما مُلباة، حالة من الألم وصلت لنهايتها. يفسّر هذا حقيقة أنّنا عمومًا لا نجد اللّذة على قدر توقّعنا، وأنّ الألم عادة ما يفوق توقعاتنا. اللّذة في هذا العالم، كما يقول البعض، تفوق الألم وزنًا؛ أو بطريقة ما هناك توازن متعادل بين الاثنين. إذا كان القارئ يرجو أن يرى بنظرة خاطفة أيّ التصريحين هو الأصدق، ليقارن مشاعر حيوانيين على الترتيب، أحدهما يفترس الآخر.
الفلسفة والاكتئاب
يسلّط فيليب ماينلاندر (Philipp Mainländer) (1841-1876)، وهو فيلسوف ألماني آخر، الضوء على الارتباط بين المنظور الفلسفي والصحة النفسية. دعى ثيودور ليسينج مؤلَّف ماينلاندر الأساسي «فلسفة الخلاص» (1867) «هو على الأغلب أكثر أنظمة التشاؤم راديكالية من تلك المعروفة لأدب الفلسفة». في هذا العمل، يقول ماينلاندر، المتأثر بشوبنهاور بشدّة وعلى نحو غير مفاجئ، أنّ الحياة لا تمتلك أيّة قيمة على الإطلاق وأنّ «عدم الوجود أفضل من الوجود.»
ومن الصعب العثور على أيّ ترجمات إنجليزية لأعمال ماينلاندر، لكن ربما بوسعنا اختصار فلسفته في القول بأنّ العالم بأكمله له هدف واحد، الوصول لعدم الوجود؛ والذي يمكن تحقيقه من خلال الإضعاف المستمر لمجموع قواه (في العصر الحديث يُمكن اعتبار هذا إشارة للزيادة في الأنتروبي). نتيجة لذلك، ينبغي على كل فرد استنفاذ قوته/ها للوصول للنقطة حيث رغبته/ها في الفناء مُلباة. التحرير الحقيقي للمرء يكمن في الموت.
هل كان ماينلاندر محقًا؟ حسنًا، خلال خدمته العسكرية كتب ماينلايندر إلى أخته مينا عن كونه «مرهقًا ومستنزفًا، ومتعبًا بشكل يفوق الوصف»: الإرهاق المبالغ فيه هو من الأعراض الشائعة للاكتئاب. بعد أن أنهى كتابة فلسفة الخلاص اختبر ماينلايمدر انهيارًا عصبيًا، ثم مات منتحرًا وهو في الرابعة والثلاثين من عمره.
خلال كل هذا يُسلّط ماينلايندر الضوء على كيف يمكن للمنظور الفلسفي والصحة النفسيّة أن يتشابكا بشكل عميق. بالطبع يثير هذا السؤالَ المثير للاهتمام عن مدى تأثّر نظرتنا للكون بشكل عام بصحتنا النفسيّة، ومدى تأثرها بالعقلانيّة والملاحظة والحدس والحكمة وما إلى ذلك. يتجلّى الرابط ما بين التشاؤميّة الفلسفيّة واللا إنجابيّة والصحة النفسيّة أيضًا من خلال حقيقة أنّ الفلاسفة أمثال شوبنهاور وبيناتار وماينلاندر يدلون بتصريحات مشابهة لتلك الصادرة عن المكتئبين. آمن شوبنهاور بأنّ الوجود الإنساني بشكل عام هو خطأ، في حين أنّ شخصًا مكتئبًا كان ليقول أنّ حياته الشخصيّة هي خطأ. هل تعدُّ قفزةً كبيرةً الانتقال من التفكير في أنّك خطأ إلى التفكير في أنّ البشريّة جمعاء هي خطأ كوني فادح؟
إذا كانت مفاهيم فلسفيّة مثل التشاؤم والقلق الوجودي والأزمة عادة ما تظهر في الاكتئاب، ألا يوجد شيئ لقوله بخصوص رؤية الاكتئاب كمشكلة فلسفيّة بقدر ما على الأقل؟
يكتب روجيرو:
«كلا المنظورين، التشاؤم والوجوديّة، لن يريا الاكتئاب كعلّة كامنة في عقل الشخص بالضرورة. قد يتّفق المتشائم والوجوديّ في الواقع على انّ العالم بحد ذاته في حالة مزرية، وأنّ العادات الاجتماعيّة بحد ذاتها هي مَرَضيّة، وأنّ أحاسيس اليأس والقلق والفقد واللا جدوى قد تكون اعتياديّة في الأشخاص شديدي الذكاء والملاحظة». الشخص «المكتئب»، لهذا السبب وطبقًا لهذا المنظور، قد يرى أشياءًا لا يراها الآخرون، وقد يمتلك بصيرة أفضل تجاه ضلالات وانحراف الثقافة المعاصرة، وقد يمتلك إدراكًا مُحسّنًا للخيّر والجميل. إعطاء الأدوية للشخص قد يتسبب نتيجةً لذلك في إعتام رؤيته، وتقليل حساسيّة منظوره، وقتل الميل للبحث عن المعاني.»
(الفلسفة والاكتئاب، 2005، philosophicalsociety.com).
إنّه تصريح مثير للجدل، بالذات إذا كان يثني الأشخاص عن التدخلات الدوائيّة أو أشكال العلاج النفسي القائمة على تغيير نمط تفكير الفرد. بغرض الحفاظ على التوازن والصحة، يتوجّب على كل فرد البناء على تلك الأدوات التي يجدها أكثر صلة وإفادة له: الأدوات الفلسفيّة، والروحانيّة، والدوائيّة، والجسديّة، والعلاجات النفسيّة. مع أمرٍ معقدٍ بقدر الصحة النفسيّة، قد يكون من غير الحكمة أو حتى من الخطير التعميم أو تقديم ترشيحاتٍ غير متوازنة. يقوم روجيرو على الأقل بإثارة النقطة الوجيهة أنّ الطريقة التي يُنظر بها إلى المرض النفسي ثقافيًا قد تؤثر على كيفيّة الاعتراف به ومعالجته.
تحويل المعاناة
لا يرى كلُّ الفلاسفة المعاناة المتأصّلة في جوهر الحياة الإنسانيّة شيئًا يدعو إلى اليأس. الحقيقة النبيلة الأولي للبوذيّة تنص على أنّ الحيّاة تميّزها المعاناة وعدم الرضا. لكنّ منظورًا يائسًا لا يبدو قابعًا في قلب الفلسفة البوذيّة كما هو بالنسبة لشوبنهاور (على الرغم من كونه تأثّر بالبوذيّة في أخلاقياته). قال آلان واتس (Alan Watts)، وهو فيلسوف غربي بوذي طالما بعث بهجة وسعادة خلال محادثاته، إنّ «الفرد يعاني فقط لإنه يأخذ بجديّة ما صنعه الإله على سبيل الدعابة… هذا هو سر الحيّاة الحقيقي، أن تتفاعل بشكل كامل مع ما تفعله هنا والآن. وعوضًا عن تسميته عملًا، لتدرك أنّه لهو.»
لدمج بعض من تعليقات واتس الأخرى عن الحالة الإنسانيّة:
«معنى الحياة هو أن تكون حيًا.. على الرغم من ذلك يهرول معظم الناس هنا وهناك وكأنّهم في ذعر شديد، وكأنّه من الضروري تحقيق شيء يفوق ذواتهم.. إنّنا نعيش في ثقافة حيث يُلصق بنا بكل طريقة ممكنة أنّ الموت هو خسارة فادحة.. لكننا إذا عشنا نعيش، وإذا متنا نموت، وإذا عانينا نعاني، وإذا كنا مرتعبين فإنّنا مرتعبون.. دائمًا ما ستكون هناك معاناة؛ لكن ينبغي علينا ألا نعاني فوق المعاناة.»
إنّه أمر شديد الصعوبة، لكنّ المهمة الأبديّة لكلّ شخص هي تطوير علاقة صحيّة مع معاناته. الاستجابة بشكل مستمر للألم من موضع حكمة بوسعه تخفيف عبء المعاناة، وقد ينتج عنه تغييرٌ جوهري في منظورك الفلسفي خلال تلك العملية.