لم يشهد التاريخ فيلسوفا قبل أفلاطون، أنشأ فلسفة جامعة ونظاما شاملًا لنواحي الفكر وجوانب الحقيقة؛ إذ كان كل من سبقه إذا تناول بالبحث جانبا، فاتته جوانب أخرى، لذا لم تكن الفلسفة قبله أكثر من مجموعة أراء متناثرة ونظريات وملاحظات لم تتسع لتشمل الكون بأسره، إلى أن جاء أفلاطون فأمعن النظر فيما خلّفه أسلافه وأخذ أفضل ما لديهم؛ فمن فيثاغورس استمد العناصر الأورفية.
ومن بارمنيدس استمد الإيمان بأن العالم الواقع أبدي لا يقع في الزمن، وبأن التغير لابد أن يكون وهمًا. ومن هراقليطس استقى المذهب السلبي الذي يقرر أن العالم المحسوس لا دوام فيه لشيء ما. وأخذ عن سقراط اهتمامه بالمسائل الخلقية، وميله إلى البحث عن تعليلات للعالم تكون أقرب إلى التعليلات الغائية منها إلى التعليلات الميكانيكية. وهكذا استمد أفضل ما لدى أسلافه ونسقها جميعها في فلسفة جديدة من عِندياته أمده بها عقله المتوهج الفذ، فاستطاع أن يضع بناء فكريًا ترك أثره على الفلسفة الغربية بشكل لم يتركه أي فيلسوف أخر، فكان أعمق الفلاسفة أثرًا مع أرسطو: قديما ووسيطُا وحديثُا.
يقول عنه برتراند راسل: إن أفلاطون أعظم أثرًا من أرسطو في العصور التي جاءت بعدهما؛ وإنما أزعم هذا لسببين: الأول هو أن أرسطو نفسه نتيجة تفرعت عن أفلاطون؛ والثاني هو أن اللاهوت المسيحي والفلسفة المسيحية على الأقل حتى القرن الثالث عشر كانا أكثر اصطباغًا بالأفلاطونية منها بالأرسطية.
ربما يتفق في ذلك “وايتهد” مع “برتراند راسل” إذ كتب يقول: الفلسفة الغربية كلها لا تُفهم إلا باعتبارها حواشي على أفلاطون. لكن وما الذي يعنيه “برتراند راسل” من أن اللاهوت المسيحي كان أكثر اصطباغُا بالأفلاطونية منها بالأرسطية ؟ نستطيع أن نقول أنه طوال القرون الاثني عشر الأولى في العهد المسيحي، كانت محاورة “طيماوس” هي الأساس الذي بُنِي عليه كل ما كتُب في علم الكونيات في الغرب؛ فمن بداية القرن الخامس الميلادي، كانت الترجمات اللاتينية لتلك المحاورة هي المصدر الوحيد المتاح لشرح “الطبيعة” حتى تُرجمت أعمال أرسطو العلمية؛ وتعود الشهرة التي تتمتع بها المحاورة أن صورة “الإله” في “طيماوس” ، يمكن تفسيره على أنه “الإله” الذي في سفر “التكوين”؛ بيد أن هناك ثمة اختلافات بين صورة “الإله” في كليهما، فالإله عند أفلاطون لم يصنع الكون من عدم، ولكنه استخدم مواد كانت موجودة بالفعل، وهو لا يهتم بالإنسان بوجه خاص، ولكنه كلّف مساعديه بمهمة صنعه كي يبقيه على مسافة لا يتخطاها.
وبالنظر إلى ذلك الخلاف بينهما، لعل المرء يسأل عن السبب الذي حدا بآباء الكنيسة بإسباغ صبغة مسيحية على أفلاطون في القرون الوسطى بعد وفاته؟ ربما هذا الموقف يذكرنا بما فعله المؤرخون المسلمون كالشهرستاني وغيره من إصباغ الصفات الإسلامية على الحكماء الأوائل ك “طاليس ” الذي فُسر مقولته في “المبدأ الأول” بطريقة لا تتعارض مع فكرة الألوهية؛ وفُعِل نفس الشيء مع غير واحد من الفلاسفة الطبيعيين الأوائل، وآخرهم سقراط الذي أُلبِس لباس النبوة يحدث الناس عن الوعد والوعيد والثواب والعقاب. أما عن تعليل ذلك يقول “أنتوني جوتليب” أن السطو على الوصف العلمي الوحيد المفصل للعالم إغراء لا يقاوم.
غير أن هناك إضافة أخرى في محاورة “طيماوس” راقت لمعتنقي المسيحية؛ وهي إشارة “الصانع الاكبر” التي قالها أفلاطون: إن العالم هو أفضل ما خلقه ذلك الصانع الأكبر”؛ مما يعني ذلك أن الكون والتخطيط المحكم الذي يبدو عليه، يدل على هدف أسمى وغاية ينشدها؛ لذلك كانت أفكار أفلاطون في “طيماوس” تتفق مع اللاهوت المسيحي بشكل عام، وذلك على الضد من أفكار ديموقريطس وأبيقور والتي كانت ترمي إلى فكرة العالم الآلي الميكانيكي. ومن نافلة القول هنا أن نشير إلى أن تفسير “نيوتن” للنتائج التي استنبطها من حركة الكواكب ومسارات المذنبات، تتفق بطريقة ما مع طيماوس، إذ كتب يقول: لا يمكن تصور أن الأسباب الألية وحدها قد تؤدي إلى هذا الكم الكبير من الحركات المنتظمة. فهذا النظام البديع الذي يحتوي الشمس والكواكب والمذنبات لا يمكن أن ينشأ إلا بواسطة توجيه وسيادة كائن بارع. بيد أن إيمانويل كانط قد رصد ثلاثة عيوب في تلك المحاولات لاستخراج معجزات مسيحية من القوانين الفلكية المكتشفة؛ وبما أننا لسنا بصدد الحديث عن كانط ، ولكي لا نشطح بعيدًا عن موضوعنا، فلا مناص من الرجوع سريعا إلى فيلسوفنا “أفلاطون “.
ولد أفلاطون في أوائل الحرب البلونيزية، وذاك في عام 428ق. م، وقد نشأ أفلاطون في جو مريح أثير، وكان شابا وسيمًا، ويقال أن سبب تسميته بأفلاطون بسبب عرض كتفيه، وكان يطمح في صباه إلى الاشتغال بالسياسة، وكل شيء يؤهله لذلك، فكان سليل أسرة أرستقراطية يرتفع نسبها إلى المشرع الإغريقي العظيم “صولون”، بيد أن اجتماعه بسقراط كان نقطة تحول في حياته، وقد قام بدراسة الديالكتيك واستغرق في اتجاهه الجديد هذا استغراقًا تامًا حتى نسى كل المشكلات السياسية وتخلى عن مطامحه، وقد كان في الثامنة والعشرين من حياته وقت إعدام سقراط ، وترك هذا أثرًا عظيمًا في تفكير أفلاطون حمله على كره الديموقراطية وكراهية الجماهير والجموع التي ولدتها، فارتحل إلى أماكن بعيدة وعديدة في الأعوام القليلة التالية، وكانت معظم هذه الرحلات لزيارة الفلاسفة والرياضيين الآخرين، ثم عاد إلى أثينا وأسس ما عُرف ب”الأكاديمية” عام 387ق.م، وكان في الأربعين من عمره آنذاك، وكانت أنشطة الأكاديمية تحاكي تلك التي كانت تقيمها الجماعات الفيثاغورية التي رآها أفلاطون في إيطاليا، وأتاحت الاكاديمية دراسة جميع مجالات العلم من الجغرافيا إلى التصنيف النباتي والتاريخ السياسي، والرياضيات وعلم الفلك على الخصوص؛ وكان لهذه الأكاديمية شهرة، ففي عهد أفلاطون قامت أربع مدن على الأقل باستدعاء خبراء لصياغة قوانينها وكتابة دساتيرها القديمة .
ظهرت في الكتابات الحديثة نظرات مختلفة في تفسير الطابع الحق لفلسفة أفلاطون. فثمة طائفة من الكُتاب اقتنعوا بأن أفلاطون ميتافيزيقي وديالكتيكي أولًا وأساسًا، ورأوا أن منطقه يمثل محور المذهب الأساسي أو روحه. واتجه اخرون إلى تأكيد الفكرة المقابلة لهذا؛ فذكروا أن اهتمام أفلاطون بالسياسية والتربية كان منذ البداية دعامة فلسفته؛ وأعظم قوة موجهة لها. وانتقد “فيرنرياجر” في كتاب “بايديا” النظرة الأولى نقدا عنيفا؛ فقد اعتقد أنه لا يصح القول بأن المنطق أو نظرية المعرفة هما محور فلسفة أفلاطون؛ ولكن هذه الفلسفة تركزت على البوليتيا أو السياسة؛ وأظهر روسو في هذا الصدد تصورًا لجمهورية أفلاطون بأن قال لا يصح وصف هذا الكتاب بأنه مذهب سياسي كما قد يفهم من عنوانه؛ فالأصح هو أنه أول بحث ظهر في التربية.
كان من أهم الموضوعات التي تناولها أفلاطون في فلسفته هي “المدينة الفاضلة ” وإنها لكثيرة العدد منها المشهور، ومنها ما دون ذلك. بدءا من “جمهورية ” أفلاطون، إلى “حياة ليكورجوس ” لبلوتارك. وربما أدخلنا في زمرة المدن الفاضلة أيضًا “حديقة الغزلان” للحكيم الهندي جواتما بوذا، ومنها يوتبيا ” جابرييل دي فوانيي”، وربما أدخلنا أيضا “مدينة الشمس ” لكامبانيلا، كذلك “أراء أهل المدينة الفاضلة” لأبى نصر الفارابي”، والشهير منها أيضًا “يوتوبيا “توماس مور الطوباوية والتي هي مدينة في لا مكان، وكان توماس مور هو أول من صاغ كلمة يوتوبيا أو توبيا في نطقها اليوناني؛ وقد اشتقها من الكلمتين اليونانيتين ou بمعنى لا وtopos بمعنى مكان؛ فتكون الكلمة في مجموعها “ليس في مكان”. ثم “أطلنطا الجديدة” لفرنسيس بيكون.
ومدينة أفلاطون الفاضلة هذه تقع في كتاب ” الجمهورية” وهي أهم محاورات أفلاطون على الإطلاق ، فعن الجمهورية يقول “ول ديورانت” : هو كتاب تام في حد ذاته، حيث نجد في هذا الكتاب المجاز الأفلاطوني وعلمه اللاهوتي، وفلسفته الأخلاقية الأدبية والنفسانية، وفنه التعليمي وسياسته، ونظريته في الفن، هنا في كتاب الجمهورية نجد المشاكل التي تواجه العالم اليوم، من الشيوعية إلى الاشتراكية، المشاكل التي بحثها روسو حول العودة في حياتنا إلى الطبيعة وحرية التعليم، والمشاكل التي أثارها نيتشه حول علم الأخلاق، وهنا نجد فلسفة برجسون وفرويد. وعن مدينة أفلاطون الفاضلة يقول برتراند راسل: لقد مهر أفلاطون في الفن الذي يتيح له أن يطلي آراءه المنافية للحرية على نحو يخدع العصور التالية التي أُعجبت ب “الجمهورية” دون أن تتبين قط ما تنطوي عليه مقترحاتها. نفس هذه الملاحظة أبدتها الكاتبة ” ماريا لويزا برنيري” في كتابها ” المدينة الفاضلة عبر التاريخ” ففي مستهل عرضها لليوتوبيات المختلفة، سلطت الضوء على الطابع التسلطي غير المتسامح لهذه الرؤى إلا قليلا؛ فتقول: قد زعم مؤسسو اليوتبيات أنهم منحوا الحرية للشعب، ولكن الحرية التي منحوها توقفت عن أن تكون حرية. وتقع تسلطية اليوتبيات في التأكيد المستمر على أن قوانينها تتبع نظام الطبيعة، على حين أنها في واقع الأمر قد سُنّت بشكل متعسف.
كانت الفترة التي كتب فيها أفلاطون “الجمهورية” هي فترة تدهور في تاريخ اليونان، هي فترة الحرب بين أثينا واسبرطة وهزيمة أثينا الساحقة في الحرب البلونيزية، وهو ما أدى إلى ضعف المدن والدخول إلى صراعات طويلة ومنازعات داخلية مما أدى بهم إلى التفكك ومن ثم احتمالية التعرض لغزو أجنبي، وكان يعتقد بطريقة أو اخرى أن الديموقراطية هي التي أدت إلى هذه الفوضى. لذلك كان من الطبيعي أن يهتم أفلاطون في كتاباته بالشأن السياسي والاجتماعي؛ فحاول أن يستخلص بعض الدروس المستفادة من هزيمة أثينا؛ وطبيعة الحال عندما شرع أفلاطون في بناء جمهوريته المثالية اتجه إلى اسبرطة واتخذها أنموذجًا له.
وقد كان أفلاطون بمثابة رد الفعل المضاد للاتجاهات الرئيسية للفكر اليوناني في عصره؛ إذ أمن بضرورة الإلزام الأخلاقي وبعدم المساواة والسلطة؛ وأمن بضرورة أهمية القوانين الصارمة والتنظيمات الثابتة؛ وكعادة مؤسسي اليوتوبيات الذين يرون أن قوانينهم متفقة والطبيعة؛ كان أفلاطون بالمثل، فقد رأى أن الطبيعة قد أوجدت بعض البشر ليكونوا حكامًا؛ وبعضهم الأخر ليكونوا محكومين؛ فيقول في الجمهورية: “إن الحقيقة التي أقرتها الطبيعة هي أن المريض، سواء أكان غنيًا أم فقيرًا، ينبغي عليه أن ينتظر على باب الطبيب، وأن كل إنسان يحتاج إلى أن يكون محكومًا، يجب أن ينتظر على باب القادر على الحكم “. وبعد أن استنكر أن يتولى كل إنسان حكم نفسه، أقر بطبيعة الحال على ضرورة وجود طبقة حاكمة، لا تقتصر قوة هذه الطبقة على السلطة التي يمكن أن تمارسها على عامة الشعب، بل فضلًا عن ذلك تتمثل في تفوقها الأخلاقي والعقلي ووحدتها الداخلية؛ لذلك كان من المبادئ التي نادى بها أن يكون حكام المدينة الفاضلة فلاسفة. ثم كانت هنالك طبقتين هما طبقة الحراس أو الجنود؛ وطبقة الشعب.
إذا أردنا أن نحدد المفاهيم الرئيسية لهذه المحاورة، فإنه يمكن أن نقول أن الغاية التي كان يرمى إليها هي “العدالة “؛ ومركز البنيان السياسي المقترح هو فكرة “الطبقات “؛ وهناك مفهوم آخر أهم من هذين لأنه بمثابة الأساس لهما؛ وهو مفهوم “التخصص”. وتظهر أهمية هذا المبدأ منذ البداية؛ منذ الحديث عن نشأة المدينة الطبيعية، فيرى أفلاطون أن مبدأ التخصص ليس واقعة ملاحظة وحسب، ولا ضرورة تفرض نفسها فقط، بل أساسًا طبيعيًا يكمن في النفس البشرية، فأفلاطون يعتبر أن الطبيعة لم تجعل فردا يشبه الآخر، وإنما لكل “طبيعة” مختلفة تجعله مؤهلًا لهذه الوظيفة أو تلك ولكن ليس لكل الوظائف معًا، ومبدأ التخصص هذا أو مبدأ الطبائع المختلفة يؤديان بالضرورة إلى مفهوم الطبقات عند أفلاطون.
فيبدأ أفلاطون تقريره أن أبناء المدينة يجب تقسيمهم إلى ثلاث طبقات؛ لكن المشكلة الأساسية عند أفلاطون هي الاستيثاق من أن طبقة أولياء الامور أو الحكام سينفذون ما أراده المشرع، وله في ذلك عدة مقترحات لتحقيق هذه الغاية؛ بعضها تربوي، وبعضها اقتصادي وبعضها ديني. لذلك انتقل أفلاطون إلى جانب آخر من أهم جوانب البناء السياسي الأفلاطوني؛ ألا وهو الجانب التربوي. فالتربية التي يصفها أفلاطون هي تربية طبقة الحراس التي ستخرج منها بعد ذلك طبقة الحكام الفلاسفة، بل والتربية بشكل عام، وتتوزع أقسام التربية كما هو المعروف عند الإغريق وقتئذ، بين التربية البدنية التي تتضمن التدريب العسكري، والموسيقى، أما عن الموسيقى فيلاحظ “لويس ديكنسون ” أن الكلمة اليونانية كانت أوسع بكثير من المعنى الذي نفهمه منها اليوم، إذ كانت تضم جميع أنواع التثقيف الخلقي والجمالي والعقلي. لذلك فإن تربية الحاكم المستقبلي يجب ألا تنحصر في التربية البدنية، بل يجب أن يدرب عقله على التفكير والارتفاع فوق الحواس عن طريق دراسة العلوم الرياضية، حتى يكون قادرا على تكريس نفسه لدراسة الفلسفة الحقة التي كان يسميها بالديالكتيك.
ثم يمضي أفلاطون من مناقشة عجيبة إلى الأدب المسرحي، فيقول إن الرجل الخيّر ينبغي له أن ينفر من محاكاة الرجل الشرير، فأما ومعظم المسرحيات تحتوي على أشرار فلا مناص للأديب المسرحي وللمثل أن يحاكيا سلوك أناس اقترفوا مختلف الآثام. فهكذا هجوم أفلاطون على الشعر أو الشعراء ، كان من اكثر النواحي إثارة للحيرة في كتاب الجمهورية، لأنه غني عن البيان أن أفلاطون نفسه يعتبر من أعظم شعراء الفلسفة، فمحاوراته (فيدون –المأدبة – جورجياس –فيداروس) من حيث القيمة من أعظم منجزات اليونان في عالم الفن، بيد أنه في الجمهورية لم يعد يتحدث بوصفه فردًا ولا يشرع هنا لنفسه، ولم يسمح لنفسه بالتأثر بميوله الشخصية، إنه هنا يفكر ويتحدث كشارع يقدّر القيم الاجتماعية والتربوية للفن، ويصدر أحكامه الخاصة بذلك، فيقول سقراط مخاطبا أديمانتوس: أنا وأنت لسنا شعراء الأن، لكننا نتحدث بوصفنا مؤسسو دولة، ولا يهمنا اعتمادًا على هذه الصفة أن نخترع حكايات، ولكن ما يهمنا أن نبين الأسس التي يعتمد عليها الشعراء عندما يصنعون قصصهم، والحدود التي ينبغي ألا يسمح لهم بتجاوزها.
ثم انتقل الى الرقابة على الموسيقى بمعناها الحديث هنا فحرم الأنغام الليدية والأيونية: فالأولى تعبر عن الأسى، والثانية بها انحلال، ولم يسمح إلا بالأنغام الدورية التي تحث على الشجاعة والأنغام الفريجية التي تضبط النفس.
أما في الجانب الاقتصادي فيقترح أفلاطون شيوعية تتناول كل شيء في طبقة الأولياء وطبقة الجنود، فيقول إن الأصدقاء لا بد لهم الاشتراك في كل شيء بما في ذلك النساء والأبناء وإن كان يعترف أن ذلك سيتتبع مشكلات، لكنها يظنها أن مشكلات ممكن التغلب عليها. فأولًا لا بد أن تتلقى البنات نفس ما يتلقاه الصبيان من تدريبات أو تعليم، فيتعلمن الموسيقى وفن القتال مع الصبيان جنبًا إلى جنب، ومن حق النساء أن يكن على أتم مساواة للرجل في كل شيء، فالطبيعة الأساسية واحدة في كليهما، حتى وإن كانت هناك فروق ظاهرة، فهذه الفروق لا شأن لها بالسياسة.
وفي الجانب الديني، أقر أفلاطون بحق الحكومة في الكذب ببث أساطير معينة في نفوس الناس وذلك للحفاظ على وحدة الدولة الداخلية.
يمكننا أن نوجز مشروع أفلاطون السياسي فنقول: أن تتولى قلة قليلة ولكن بيدها “العلم” حكم المدينة، وهي التي ستشرع وتدير التربية وفق نموذج أخلاقي صارم وثابت، وهي لن تحكم لصالحها بطبيعة الحال، بل لخير المحكومين جميعًا الذين يجب على كل منهم أن يظل في مركزه وألا يأخذ لنفسه دورًا هو غير مؤهل له لا بخلقته أو بتعليمه، وحجز الزاوية في هذا المشروع أن يكون الحكام فلاسفة.