إذا ما طُلب من أي أمة أن تفصح عن نوابغ الفكر فيها، وتعلن على رؤوس الأشهاد أنها بفضل علمائها وفلاسفتها ساهمت بأكبر الأثر في بناء الحضارة الإنسانية، فحقيق على الأمة الفرنسية أن تعلن على رؤوس الأشهاد اسم «رينيه ديكارت» الذي كان له عظيم الأثر في الفلسفة والعلم على السواء.
ولما لا؟ فهو مؤسس الفلسفة الحديثة وواضع الثورة الفكرية الحديثة في قالبها الأكمل.
وُلد «رينيه ديكارت» في 31 مارس من سنة 1566 في بلدة “لاهي” وهي إحدى مناطق مقاطعة “التورين” بفرنسا، ومن نافلة القول أن نقول أنّ ثمة جدال كان قد نشب بين أهل مقاطعة “التورين” وأهل “بواتو” حول مولد ديكارت وصحة نسبته إلى إحدى المقاطعتين؛ فأهل التورين يؤكدون أنه ولد في “لاهي” ويعتمدون في تأييد ذلك على أمور منها أن ديكارت قد ذكر في رسالة إلى «براسيه» أنه ولد في حدائق التورين، وأنّ سجلات التعميد الموجودة ببلدة “لاهي” تذكر أنه قد تم تعميده بها. أما أهل “بواتو” فيؤكدون أن ديكارت من سادات مقاطعتهم ويستندون في ذلك إلى ما صرح به ديكارت نفسه لصديقه «بيكمان» من أنه من أعيان “بواتو” ، وإلى ما صرح به ديكارت نفسه حين قيد اسمه في جامعة “ليدن” 1630 من أنه من أعيان بواتو.
بيد أنه من الأفضل أن نردد مع «دالامبير» مقولته التي قالها بصدد نزاع شبيه بهذا: “إن الرجال الممتازين لا ينتسبون في الحقيقة إلى المدينة ولا إلى القرية ولا إلى الأمة التى تفاخر بهم، إنهم قليل عددهم، وقد ألقت بهم المقادير على سطح الأرض، فليسوا زينة ولا قنية لأحد، بل هم أفذاذ من النوع الإنساني الذي لا سبيل إلى تعريفه”.
ينتسب ديكارت إلى أسرة من صغار الأشراف الفرنسيين، فقد كان أبوه مستشاراً ببرلمان برايتاني، أما أمه فقد ماتت بعد مولده بثلاثة عشر شهرا.
تلقى ديكارت علومه الأولى في مدرسة “لافليش” وهي إحدى مدارس اليسوعيين وهو في سن الثامنة، وهذه المدرسة يقول عنها أحد المفكرين الأحرار المتحمسين “يبدو أنها زودته بقدر من الرياضيات أعظم كثيرا مما كان يمكن أن يحصل عليه في معظم الجامعات في ذلك العصر” غير أنه تعلم فيها الفلسفة على نحو كانت تُدرس؛ فقضى الخمس سنوات الأولى في دراسة اللغات القديمة، أما الثلاث سنوات الأخيرة ففي دراسة المنطق والأخلاق والطبيعيات والميتافيزيقا.
غير أن ديكارت كان قد لاحظ عند تخرجه في هذه المدرسة أنّ المعارف التي كانت تُلقى إليه لهي معارف جزئية غير كاملة وينقصها التناسق والإنسجام فيما بينها، فكانت تُشعِر ديكارت بالملل والضجر، ففي كتابه “مقال عن المنهج” وهو ما يشبه السيرة الذاتية وصف ديكارت هذا الكتاب بأنه حكاية أو تاريخ لحياته، قد أعطى الإنطباع بأنه تحمل أيام دراسته هذه على مضض ولم يستفد منها؛ أدى به هذا الأمر إلى الانصراف ردحا من الزمن إلى باريس ليلهو و يلعب وهو الشاب الحائر.
غير أنه مع سفره إلى هولندا كانت نقطة التحول في حياته ؛ ففي مدينة “بريدا” إلتقى ديكارت والبالغ أنئذاك من العمر 22 عاماً طبيباً مثقفاً واسع الإطلاع بالرياضة والطبيعة ويدعى «إسحق بيكمان» وكان يكبره بثماني سنوات، وصارا صديقين وكان لهذا الطبيب عظيم الأثر على ديكارت الشاب، وأهدى إليه ديكارت “رسالة في الموسيقى” وهي باكورة أعمال الشاب الفيلسوف. ولقد اعترف ديكارت بفضل «بيكمان» عليه فكتب له ديكارت يقول: “إن شئت الحقيقة، دعني أقر بأنك الذي أخرجني من خمولي وجعلني أتذكر أشياء سبق أن تعلمتها وكاد النسيان أن يطويها، وعندما شطح عقلي بعيدا عن الأمور الجادة، أعدتني أنت إلى جادة الطريق، لقد كنت نائما وأنت الذي أيقظتني” ولعل ديكارت كان يعني بـ “الأمور الجادة” مجموعة من المسائل المعضلة في الرياضيات البحتة والتطبيقية، فيقول في هذا السياق «توم سوريل» مؤلف كتاب (ديكارت.. مقدمة قصيرة جدا) أنّ الرسائل المتبادلة بين ديكارت وبيكمان خلال تلك الفترة لا تناقش شيئاً أخر غير الرياضيات إلا قليلاً.
وفي رسالة أخرى بينهما أعلن ديكارت بأنه منشغل “باقامة علم جديد كل الجدة يمكن بواسطته أن تحل جميع المسائل المعروضة للبحث”.
ومن المعروف أن ديكارت كان قد تطوع في الجيش الهولندي لأن العرف الشائع حينئذ أن يذهب الناس إلى هولندا للدرس أو السياحة أو للخدمة في الجيش، غير أن ديكارت كان ينفق ساعات فراغه من الخدمة العسكرية في الدرس، لاسيما دروس الرياضيات، والتصوير، والعمارة الحربية، ومن هولندا عرج ديكارت إلى ألمانيا، وما هي إلا شهور قليلة حتى وقعت له الحادثة التي كان لها أكبر الأثر في حياته كلها؛ فحينما كان الفيلسوف ببلدة “نويبرج” على نهر الدانوب حدثت له أزمة عقلية، فحبس نفسه، وعكف على التأمل وإعمان الفكر في خواطر أدت به إلى نظريته العامة في المنهج للبحث عن العلوم. فيحدثنا ديكارت نفسه فيقول “ألجأني الشتاء إلى قرية لم أجد فيها شيئا من السمر، ولم يكن لدي لحسن الحظ ما يشغلني من هموم أو أهواء، فكنت أحبس نفسي طول اليوم وحدي في حجرة دافئة حيث كنت أفرغ الفراغ كله لحديث نفسي وتصريف خواطر فكري”
وعن هذه الحادثة يقول «ول ديورانت» في كتابه (قصة الحضارة) أنه رأى فيما يرى النائم في ثلاث رؤى أو ثلاثة أحلام، ومضات من النور، وسمع رعدا، وبدا له أن روحاً سماوية كانت توحي إليه بفلسفة جديدة وبعد خروجه من هذا الموقد أو الغرفة كان -كما يؤكد لنا- قد صاغ الهندسة التحليلية وتصور فكرة تطبيق المنهج الرياضي في الفلسفة.
وقد اعترف رجالات الفكر والعلم في العالم أجمع بفضل ديكارت العظيم، فيقول عنه «هيجل» في كتاب دروس في تاريخ الفلسفة: “إن ديكارت هو في الواقع المحرك الأول الحقيقي للفلسفة الحديثة من حيث اتخاذها الفكر مبدأ أساسيا.. وإن أثر هذا الرجل في عصره وفي العصور الحديثة، مهما قيل في شأنه لا يمكن أن يكون مغالى فيه، إنه بطل، وقد تناول الأشياء من مبادئها.” وفي موضع آخر يقول عنه «هيجل» أيضا إلى «فيكتور كوزان»: “لقد عملت أمتكم للفلسفة عملا جليلا حين أعطتها ديكارت..” ولم يكن عجيبا أيضا أن نعرف أن «تشارلز مورجان» يكتب إبان الحرب العالمية الثانية وفرنسا تحت نير الإحتلال الألماني فيقول: “إن فرنسا فكرة ضرورية للحضارة، ولما لا؟ فلو لم تنجب إلا رينيه ديكارت لكفاها ذلك شرفاً.”
ويرى أحد الدارسين لفلسفة ديكارت أن فلسفة القرن السابع عشر كله من أوله إلى آخره في فرنسا وانجلترا وألمانيا وإيطاليا وهولندا؛ إنما كانت فلسفة ديكارتية إلى حد بعيد عند بعض الفلاسفة، وديكارتية إلى حد ما عند بعضهم الأخر؛ فـ «مالبرانش» و «سبينوزا» و «لبيتنز» وكثير غيرهم من فلاسفة القرن السابع عشر لم يكونوا إلا ديكارتيين، يتفاوتون في ذلك تطرفاً أو اعتدالا، وإذا ما كان قد قُدّر على الكثيرين من كبار الفلاسفة أن ينتظروا ردحاً من الزمن قبل أن يروا نجاح مذاهبهم، بل وغالبا ما كانوا يرحلون عن دنيا الناس قبل أن يُقدر لهم أن يروا مظهرا من مظاهر هذا النجاح، فإن رينيه ديكارت أصاب من ذلك مالم يكن له في حسبان، فلعل أكثر ما اشتهر به هي مقولته “أنا أفكر، إذاً أنا موجود” فإثباته الحدسي لحقيقة الأنا المفكرة أو (الكوجيتو) التي تعتبر أول مبدأ في النظرية الميتافيزيقية التي وضعها، واكتشافه الرياضي الرائع وهو تطبيق الجبر والهندسة والميكانيكا، واختراعه للهندسة التحليلية، واسهاماته في الفيزياء، ورسائله في البصريات والآثار العلوية، واسهاماته في علم الأرصاد الجوية، وعلم وظائف الأعضاء، وما إلى ذلك.
وفي هذا الصدد يقول عنه «ول ديورانت» في (قصة الحضارة) “لقد بذل ديكارت جهداً جباراً لتحقيق هدفه؛ انظر إلى ما ألزم نفسه بدراسته (الرياضيات، الفيزياء، الفلك، التشريح، الفسيولوجيا، علم النفس، الميتافيزيقا، نظرية المعرفة، الأخلاق، اللاهوت) فمن ذا الذي يجرؤ اليوم على أن يجول بين هذا كله ؟! إن كل هذه الأشياء قد فتحت أمام أعين المفكرين أفاقا بديعة وبعيدة، وبفضلها استطاع ديكارت أن يرى مظاهر النجاح لفلسفته”.
ما طبيعة العلم العجيب الذي اهتدى إليه ديكارت؟
الخلاف في هذا الأمر كثير بين مؤرخي الفلسفة وغيرهم من الباحثين، فما رآه ديكارت في رؤياه لم يعرفه أحد على وجه اليقين؛ فوصفه لأحلامه التي راودته في مذكراته الخاصة على هيئة جمل مبتورة لدرجة يستحيل معها أي تفسير موثوق به. فيرى «كونت فوشيه دي كاريل» الذي نشر “رسالة أوليبمكا” أن ديكارت قد اكتشف المنهج الذي قام عليه فلسفته. ويرى «مييه» في كتابه “تاريخ ديكارت قبل سنة 1637” أنه اكتشف قواعد المنهج والهندسة التحليلية. أما «هملان» فيرى أنه قد اهتدى إلى الهندسة التحليلية. غير أن المرجح هو أن ما راوده هو فكرة توحيد قائمة طويلة من العلوم تحت لواء الرياضيات. وتتضمن هذه القائمة أربعة فروع علمية كانت تصنف عادة تحت مسمى “العلوم الأربعة” وهي الحساب والهندسة والموسيقى والفلك، علاوة على البصريات والميكانيكا وبعض العلوم الأخرى.
عاد الفيلسوف إلى فرنسا غير أنهّ حادثة قد حدثت بها ضاقت الأرض بها ذرعاً على ديكارت إذ حدث وأنّ بعض العلماء الشبان نظموا اجتماعاً هاماً بباريس وأرادوا أن ينتقدوا فيه طبيعيات أرسطو وأن يناصروا نظرية “الذرة” أو الجزء الذي لا يتجزأ؛ لكن الكهنوت أعلن إنذاك أنّ النظرية باطلة لأنها مخالفة للعقيدة الكاثوليكية، وأمرت الحكومة بانصراف الحاضرين وإلقاء القبض على زعماء الجلسة وأبعدوهم عن باريس وقضى البرلمان بتحريم أى مباديء جديدة تخالف ما قال به القدماء، أو تنظيم محاضرات مالم يصرح بذلك رجال الكهنوت وكل ما يقوم بعكس ذلك فجزاؤه الإعدام. فغادر ديكارت فروا إلى هولندا والتي كان به جو من الفكر الحر لا بأس به، كما كانت لديه رغبة للاستقلال التام والهدوء والتزام العزلة عن الناس تماماً. وكانت الفترة التي قاضاها في هولندا فترة خصبة جداً؛ فكتب رسالة صغيرة في الميتافيزيقا وموضعها وجود الله ووجود الروح. ثم وجه اهتامه إلى دراسة علوم الطبيعة فحرر كتاباً سمّاه فيما بعد “العالم” وأراد فيه أن يبسط رأيه في كيفية نشوء العالم على مقتضى قوانين الميكانيكا، فبدى للفيلسوف أن الله خلق المادة “عماء” ثم رتبها وفقا للقوانين التي لم يزل يراعيها في حفظ العالم. وبهذا يكون دكارت قد وفق بين عقيدة الخلق وبين فكرة النشوء الحاصل وفقاً للقوانين الطبيعية التي يُستطاع البرهنة عليها، غير أن حادثاً قد وقع وكان له أثر لا يستهان به في حياة ديكارت الفكرية؛ إذ حكمت ماحكم التفتيش بايطاليا على «جاليلو» بالمروق من الدين لقوله بدوران الأرض. وكان ديكارت يقول بذلك أيضا في كتابه “العالم” ولما بلغه نبأ الحكم على جاليلو خاف أن ينشر كتابه، وكتب إلى صديقه «مرسن» بأنه يعترف بإذا كانت حركة الأرض باطلة، فكل فلسفته باطلة كذلك.
مؤلفات ديكارت
1- العالم.. كان من أثر عزلة ديكارت في هولندا_
2- مقال في المنهج.. كتاب صغير الحجم شرع فيه ديكارت تبيانا للقواعد التي ينبغي على الذهن تتبعها أثناء بحثه عن الحقيقية في العلوم المختلفة
3- التأملات.. ويبرهن فيه ديكارت على وجود الله وتميز الروح عن الجسد وخلود النفس، وهو كناية عن ستة تأملا :
التأمل الأول: في الأشياء المشكوك فيها.
التأمل الثاني: في طبيعة النفس الإنسانية وسهولة معرفتها.
التأمل الثالث: في حقيقة الإله واثبات وجوده.
التأمل الرابع: في التمييز بين الخطأ والصواب.
التأمل الخامس: في بيان ماهية الأشياء المادية، ووجود الإله وحقيقته.
التأمل السادس: في وجود الأشياء المادية والتمييز بين النفس والجسد.
4- مباديء الفلسفة.. وقد كتبه باللاتينية وفيه يعرض ديكارت لفلسفته عرضا شاملا.
5- رسالة في انفعالات النفس.. ونشرها سنة 1649ميلادية.
6- البحث عن الحقيقة بواسطة النور الفطري.
أما (المقال في المنهج) فهو الرسالة الفلسفية الصرفة؛ ففيها تاريخ أفكاره، وأوضح عن الخصائص المهمة لمذهبه الجديد في نظرية المعرفة وفي الميتافيزقا. ولقد كان ظهور هذا الكتاب بالفرنسية فتحاً جديداً في عالم التأليف؛ إذ كانت عادة العلماء والفلاسفة حتى ذلك الحين أن يكتبوا باللاتينية، ولما نهض ديكارت ونشر كتابه بالفرنسية، أدرك الناس للمرة الأولى كيف تعبر الفلسفة عن معانيها باللغة التي يألفها الجمهور. وفي ذلك يقول ديكارت إلى الأب «فاتييه»: “أردت أن يتيسر حتى للنساء أن يفهمن من كلامي بعض الشيء، وأن يجد مع ذلك أولو الفطنة مادة تكفي لأن تشغل بالهم”
بيد أنه ربما كان هناك سبب أخر لإيثار ديكارت الفرنسية على اللاتينية في هذا الكتاب؛ هو أنّ ديكارت كان قد ضاق ذرعاً بالمتشبثين بأراء القدماء والذين لا يبحثون من خارج الكتب التي كانت قد كتبت باللاتينية. فأراد أن يوجه كتابه إلى أوسع دائرة ممكنة من أولئك الذين لا يحفلون لا برأي أرسطو أو غيره. وفي ذلك يقول ديكارت “إذا كنت قد أثرتُ أن أكتب بالفرنسية والتى هي لغة بلادي، على الكتابة باللاتينية، التي هي لغة من قاموا على تعليمي، فذلك لأنني آمل أن الذين لا يستخدمون إلا عقولهم في حال فطرتها وصفائها سيقدرون آرائي خيراً من أولئك الذين لا يؤمنون إلا بما في كتب القدماء” لذلك كان كتاب “مقال في المنهج ” كما يقول «ول ديورانت» ” (قصة الحضارة): “فاتحة عصر جديد” بيد أن العجيب أن هذه الكتاب لم يثير الأعتراضات عليه إلا قليلا من الملاحظات، في حين أن رسائله الأخرى كـ(التأملات) اصطحبت معها مجادلات عنيفة، وسجلت حولها كثير من الإعتراضات. فأرسله ديكارت قبل نشره إلى عالم هولندي يدعى «كاتروس» ثم أرسله إلى الأب «مرسن» مع اعتراضات كاتروس وردوده هو عليها، فسميت هذه الإعتراضات بـ”الإعتراضات الأولى”.
وقدم ديكارت للكتاب برسالة إلى علماء الدين في (السربون) يسألهم تأييدهم للكتاب. وجمع «مرسن» اعتراضات من مختلف رجال الدين وسميت ب”الإعتراضات الثانية ” ، وكذلك ” اعتراضات هوبز الثالثة “، واعتراضات “ارنو الرابعة “، واعتراضات “جسندي الخامسة ” . واعتراضات من لاهوتيين وفلاسفة أخرين سادسة.
وظهر الكتاب سنة 1641 مذيلا بهذه الاعتراضات جميعاً وردود ديكارت عليها. ولما كان من المنتظر أن يقر الكتاب رجال الدين فقد طبع في أسفل الغلاف عبارة (cum approbatione doctorumأو بإقرار من علماء الدين).
بيد أنّ هذه العبارة قد حذفت من الطبعة الثانية وزادت علي الطبعة الاولى اعتراضات من اليسوعي «بوردان» وسميت “بالإعتراضات السابعة”.
أما كتاب “المباديء” فهو خلاصة واضحة جدا عن فلسفة ديكارت، ويليها شيء مما ارتأى الفيلسوف نشره من طبيعياته. ثم صرف الفيلسوف انشغاله إلى العناية بشؤن الاخلاق، وكان قد اتصل بالأميرة «إليزابيثط» ابنة فريدريك الخامس وكان قد قرأ معها كتاب “الحياة السعيدة ” للفيلسوف الروائي «سنيكا» .
أما عن أثار ديكارت بعد موته، فيقول «عثمان أمين» في كتابه عن ديكارت: “أن له أثارا بعيدة المدى في التاريخ، فكانت أراؤه بمثابة ثورة فكرية هائلة، بل كانت على التحقيق أكبر ثورة فلسفية عرفها الناس منذ أيام الفيلسوف اليوناني سقراط حتى عهد الفيلسوف الألماني «كانط» . فامتد نفوذه في أواخر القرن السابع عشر إلى المفكرين في جميع الأقطار الأوروبية، حتى أصبح الفيلسوف الفرنسي إماماً للعصر الجديد كله، فما من مثقف أروربي إلا وقد تأثر به راضياً أو كارهاً، أو تلقى منه على الأقل حافزاً قويا على التأمل. ولقد اعترف الانجليزي «جون لوك» بما لدي ديكارت من فضل عظيم على الفلسفة. وتقبل الانجليز الفلسفة الديكارتية لأنهم وجدوا فيها محاولة للدفاع عن الحقائق الدينية الجوهرية من جهة، وتمثيلا طيباً للعلم الرياضي الجديد من جهة أخرى. واعتمد اللاهوتيون على المذهب العقلي الديكارتي للوصول إلى اليقين في الدين، بل واستخدم بعضهم الدليل الديكارتي المعروف باسم “الدليل الأنطولوجي” لإثبات وجود الله، وانتبهوا إلى بسط تأويلات جديدة عن الله والوحي. وقد جاءت المثالية الألمانية التي أبدعها «كانط»؛ وكذلك الكانطية الجديدة عند «فيشته» و «شوبنهور» موافقتين لبداية المثالية الديكارتية؛ وإن كانتا قد اختلفتا عنها في النتائج الواقعية التي انتهت إليها. ولقد رأى «شِلنج» أن الطابع الذي يميز الفلسفة الحديثة هو الفصل بين “المتناهي” و” اللامتناهي” وأن ديكارت قد عبر عن الثنائية تعبيراً علمياً؛ وما الفلسفة إلا تحقيق تلك الفكرة التي بدأت بديكارت.
وكان من أشهر من تأثروا بديكارت أيضا؛ الفيلسوف الألماني الشهير «إدموند هسرل» ؛ والذي قد اعترف نفسه بتأثير ديكارت عليه في مستهل كتابه “تأملات ديكارتية” ؛ ويقول أيضاً بصدد مذهبه في “الفينومنولوجيا” – الفينومنولوجيا منهج ينحصر في وصف “الظاهرة” أي ما هو معطى مباشرة: “ربما صح أن نسمي هذا المذهب ديكارتية جديدة؛ وإن كنا قد اضطررنا أن نطرح على التقريب كل ما للديكارتية من فحوى معروف؛ وذلك لأننا بسطنا بعض المسائل الديكارتية بسطا قائما بذاته”