مِن الحب ما قتل
مقولة “ومن الحب ما قتل” من المقولات التراثية في ثقافتنا العربية، ويرجع أصل هذه العبارة إلى القصة المروية عن الأصمعي[1]، فقد قال الأصمعيُ: بينما كنت أسير في البادية، إذ مررت بحجرٍ مكتوب عليه هذا البيت:
أيا معشر العشاق بالله خبِّروا ….. إذا حلَّ عشق بالفتى كيف يصنعُ
يُداري هواه ثم يكتم سرَّه ….. ويخشع في كل الأمور ويخضعُ
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى ….. وفي كل يوم قلبه يتقطعُ
إذا لم يجد صبرًا لكتمان سرِّه ….. فليس له شيء سوى الموت ينفعُ
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلِّغوا ….. سلامي إلى مَن كان بالوصل يمنعُهنيئًا لأرباب النعيم نعيمهمْ ….. وللعاشق المسكين ما يتجرعُ
من الشعر ما قتل
ويمكن أن نضيف مقولةً أخرى ونقول: “ومن الشعر ما قتل” أيضًا، ومن أشهر مَن تنطبق عليهم هذه العبارة هو الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي[2]، فقد هجا المتنبي مِن بين مَن هجاهم ضبَّةَ بن يزيد العتبي، وقال في قصيدة له نذكر منها أبياتًا عدة ونترك الباقي لما فيها من أبشع الألفاظ وأقذع العبارات، وهي:
ما أنصف القومُ ضبّة وأمـه الطرطـبّـة ….. فلا بمن مات فخـرٌ ولا بمن عاش رغبةوإنما قلت ما قلت رحمـة لا محـبـة ….. وحيلة لـك حتـى عذرت لو كنت تيبهوما عليك من القتل إنمـا هـي ضربـة ….. وما عليك من الغدر إنمـا هـو سـبـة
فالخيلُ والليلُ والبيـداءُ تعرفنـي …. والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ
من العلم ما قتل
كانت هذه نماذج من الحب ومن الشعر اللَّذَيْنِ تسببا في قتل أصحابهما، ومن العلم ما قتل أيضًا، ويعلم الناسُ كلُهم، صغيرُهم وكبيرهم قصةَ العالم الإيطالي جوردانو برونو (بالإنجليزيَّة: Giordano Bruno)، الذي تبنّى نظرية كوبرنيكوس القائلة بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها، الجميع يعلم محاكمتَه التي تمت في إيطاليا، والتي اُتهم خلالها بالزندقة حتى قادوه إلى ساحة الإعدام أمام الناس، وجردوه من ملابسه، وصلبوه على عمود، ثم أحرقوه حيًّا على مرأى من الناس ومسمع.[3]
والجميع يعلم أيضًا قصةَ جاليلو جاليلي (بالإنجليزيَّة: Galileo Galilei)، الذي حُوكِم أيضًا واتُهم بالهرطقة، كما صودرت كتبه ومُنع تداولها، وقد حُكم عليه بالسجن أول الأمر، لكن المحكمة خفّفت هذا الحكم، وكان الحكم النهائي هو الإقامة الجبرية في بيته مدى الحياة.[4]
هذان النموذجان من أشهر النماذج التي تُتَداوَل على الأسماع والأذهان، ولكن يوجد الكثير ممن لم يأخذ حقه من الصيت والشهرة، وسنتناول في هذا المقال بعض هذه النماذج التي ماتت لأجل نظرية اخترعوها، أو رأيٍّ علميٍّ تبنوه، أو فكرٍ قالوه، وأحد أبرز هذه النماذج هو الإمام الطبري.
ابن جرير الطبري
هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، المشهور بالإمام أبي جعفر الطبري، وُلد عام (224هـ/ 839م)، في آمُل عاصمة إقليم طبرستان، الذي يَقع الآن في شمال دولة إيران. قال عنه الخطيب البغدادي: “كان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا بأحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرائقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم”.
بدأت محنة الطبري مع الحنابلة عندما أَلّف كتاب “اختلاف الفقهاء”، وكان محتوى الكتاب عن اختلاف العلماء والمذاهب الإسلامية، وهو كتاب ضخم وحافل، إلا أنه لم يذكر فيه المذهب الحنبلي؛ حيث كان يرى أنّ الإمام أحمد مصنف من المحدِّثين، وليس من الفقهاء، فقد كانت المذاهب الأخرى أقدم منه وأكثر شهرةً ورواجًا في العالم الإسلامي، ومذهب الحنابلة كان مقتصِرًا على العراق فقط.
وقد أورد ياقوتُ الحموي تلك الواقعةَ بالتفاصيل في كتابه “معجم الأدباء”، إذ يقول: لما قَدِم الطبري إلى بغداد، وفي زيارته الأخيرة؛ تعصّب عليه أبو أحمد الجصاص، وجعفر بن عرفة، والبياضي، وقصده الحنابلة في المسجد يوم الجمعة، وسألوه عن أحمد بن حنبل، قال: “ما رأيت له أصحابًا يعوَّل عليهم”، فلما سمع الحنابلةُ منه ذلك، وثبوا عليه ورموه بالمحابر، وقيل كانت ألوفًا، فقام أبو جعفر بنفسه، ودخل داره، فرموا داره بالحجارة، حتى صار على بابه كالتلّ العظيم، وركب نازوك صاحب شرطة بغداد في عدد كبير من الجنود، ليمنع عنه العامة، ووقف على بابه يومًا إلى الليل، وأمر برفع الحجارة، فأغاظ ذلك الأمر عوام الحنابلة بشدة، فدفعهم التعصب المقيت إلى محاصرة بيت الطبري، ومنعه من الخروج منه، ومنع طلاب العلم من الدخول عليه، حتى إنّ كلّ طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد، عام 309هـ، لم يجتمعوا به، ولم يرووا عنه شيئًا؛ بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن علي، دخل بغداد ولم يكتب شيئًا عن الطبري، وعندما عَلِمَ أستاذُه، ابن خزيمة، ذلك، قال لتلميذه (حسنيك): “ليتك لم تكتب عن كلّ مَن كتبت عنهم، وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلت الحنابلة بحقّه”.[5]
ظلّ الطبريُ حبيسًا في بيته يعاني الاضطهادَ الشديد، ولا يدخل عليه أحدٌ إلا القليل من خاصته، وكان قد جاوز الخامسةَ والثمانين، وأنهكته السنون ورحلات طلب العلم في شتى بقاع الأرض، وزادت المحنةُ من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردّهم شيء، لا مكانة علمية، ولا كِبر سنّ، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما.
وظلّ الحنابلة محاصرِين بيتَ الطبري، حتى حان وقت الرحيل، وفارقت روحه الحياة، وبلغت المحنة أوجها، ووصل التعصب إلى ذروته، وظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، ما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره ليلًا، ولم يشهد جنازته أحد، بل حتى لم يُدفن في مقابر المسلمين.[6]
جورج كانتور
جورج كانتور (بالإنجليزيَّة: Georg Cantor)، هو عالم رياضيات، وُلد في سانت بطرسبورج في روسيا، ثم انتقل والداه إلى ألمانيا فرارًا من ليالي الشتاء القارس في روسيا. أنهى مرحلةَ الدراسة الثانوية بتفوقٍ بارع، ثم أراد والدُه أن يلتحقَ بجامعة زيورخ التطبيقية (بالإنجليزيَّة: ETH Zurich)، ليكون نجمًا ساطعًا في مجال الهندسة.
درس كانتور الرياضيات في جامعة زيورخ، ثم بعد أن مات والده انتقل إلى جامعة برلين حيث كان طالبًا بارزًا فيها، وأصبح رئيسًا لاتحاد الطلاب الخاصّ بالرياضيات، ثم حصل منها على شهادة الدكتوراه عن نظرية الأرقام.
يُعدُّ جورج كانتور هو المؤسس لنظرية المجموعات الحديثة في الرياضيات (بالإنجليزيَّة: Set Theory)، ويُعد أول من أشار إلى أهمية مبدأ التناظر واحدًا لواحدٍ بين المجموعات، وهو من عرّف المجموعات اللانهائية والمتسقة، كما أنه أثبت أن الأرقام الحقيقية أكثر بكثير من الأرقام الطبيعية.
لكن الأعمال التي قام بها كانتور لم تلقَ قبولًا وسط علماء الرياضيات في ذلك الوقت، كان على رأسهم عالم الرياضيات الألماني ليوبلد كرونكر (بالإنجليزيَّة: Leopold Kronecker) والعالم الفرنسي هنري بوانكاريه (بالإنجليزيَّة: Henri Poincaré) كما أبدى الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (بالإنجليزيَّة: Ludwig Wittgenstein) انتقادات فلسفية لها.
وكان يصفه الرياضياتي ليوبلد كرونكر بأنه “مفسد للشباب” ولا يجب أن يكون أستاذًا يقف ليدرس عقول الشباب فيفسدها، وهو “دجال ومشعوذ علمي”، كما وصف الفيلسوف النمساوي فيتغنشتاين نظرية كانتور بأنها “عبثٌ جملةً وتفصيلًا”، وأنها “هراء، تثير السخرية والضحك”.
أراد جورج كانتور أن يتقدم إلى العمل في جامعة برلين، ولكن رُفِضَ تعيينه بأمر من رئيس قسم الرياضيات، بل وكتب إلى باقي الجامعات يحثهم على عدم قبول كانتور في أيِّ وظيفة للتدريس في أيِّ جامعة.
أُصيب كانتور باكتئاب شديد، ما استدعى إقامته في مصحة نفسية، ثم خرج منها واستمرت الانتقادات الشخصية له ولنظريته، حتى قرر أن يترك مجالَ الرياضيات ويترك التدريسَ فيه، وطلب أن يعمل أستاذًا للفلسفة والتاريخ، ثم اشتغل بعد ذلك في الأدب الإنجليزي.[7]
أراد كانتور بعد ذلك أن يُحسِّن علاقتَه بالرياضيين الألمان، لكن سرعان ما ساءت مرةً أخرى، ودخل مراتٍ ومراتٍ إلى المصحة النفسية، حتى أعياه المرضُ والتعب، وقامت الحرب العالمية الأولى وكانتور لا يعمل ولا يجد مالًا ولا مأوى، حتى مات كمدًا في آخر مصحة نفسية كان بها.
بدأت أعمال كانتور تحظى بمكانة علمية مرموقة بعد أن مات حسرة وكمدًا، وعُدَّت أعماله من أعظم الإنجازات في مجال الرياضيات، وجميع الرياضيين يقبلونها الآن، حتى قال عنه الفيلسوف والرياضياتي الإنجليزي برتراند راسل (بالإنجليزيَّة: Bertrand Russell): إن جورج كانتور يُعد واحدًا من أعظم العلماء في القرن التاسع عشر. وقال عنه عالم الرياضيات الألماني ديفيد هيلبرت (بالإنجليزيَّة: David Hilbert): لا يحق لأحد أن يطردنا من الجنة التي خلقها لنا جورج كانتور.[8]
جوتفريد لايبنتز
وُلد جوتفريد لايبنتز (بالإنجليزيَّة: Gottfried Leibniz) في 1 يوليو 1646، في لايبزيج في ألمانيا، ويُعد من أشهر علماء العالم في الرياضيات والفلسفة، بل واحدًا من ألمع علماء التاريخ على الإطلاق.
بدأت المشكلة حينما نشر لايبنتز كتابَه عن التفاضل والتكامل، حينها اعترض إسحاق نيوتن على لايبنتز مُدّعيًا أنه سرق أعماله التي لم ينشرها بعد، وأن اختراع التفاضل والتكامل يرجع الفضل فيه إلى نيوتن، ولايبنتز ليس إلا سارق ومحتال لأعمال نيوتن التي رآها في زيارته إلى لندن، ومراسلاته مع نيوتن ومع أصدقائه المقربين.
زادت وتيرة الصراع بينهما إلى حدٍ كبير، ووصلت الحال إلى حرب بين فريقين، فريق منحاز لنيوتن، على رأسهم جون كيل، وجون واليس، ونيكولاس فاتيو دي دويلير، والذي أُطلق عليه اسم “قرد نيوتن”، والفريق الآخر المنحاز إلى لايبنتز وعلى رأسه الرياضي السويسري يوهان برنولي، والفرنسيين بيير ريموند، وبيير لويس مورو.
قرر لايبنتز الاحتكام إلى الجمعية الملكية البريطانية للفصل في هذه المشكلة، وبما أن إسحاق نيوتن كان هو رئيس الجمعية الملكية، فقد صدر القرار بإدانة لايبنتز بالسرقة العلمية، وتصنيف نيوتن بأنه المخترع الأول للتفاضل والتكامل.[9]
ما زاد الأمر تعقيدًا هو إدخال الاعتبارات السياسية في الصراع العلمي، فأصبح النزاع نزاعًا سياسيًّا بين إنجلترا من جهة، وألمانيا من جهة أخرى. حتى نُصح لايبنتز بألا يزور إنجلترا نظرًا لكثرة خصومه هناك خوفًا على سلامته، خاصةً بعدما تعرض للسخرية في المحكمة بشَعْره المستعار وملابسه القديمة.[10]
مرت السنوات الأخيرة في حياة لايبنتز بصفة سيئة، وعانى فيها الوحدة والاضطرابات، خاصةً أنه لم يستطع إقناع المجتمع العلمي بأنه لم يسرق شيئًا من نيوتن، حتى مات وحيدًا على فراشه، بلا أهل ولا أصدقاء ولا علماء، وبلا أيِّ شيء سوى مساعده الشخصي.
كانت جنازة لايبنتز صغيرة جدًا، ولم يحضرها أشخاص كثيرون، بل حتى دُفن في قبر ليس له علامات ولا في مكان يليق بعالِم مثله، وفي المقابل، حين مات نيوتن، دُفِن في أعظم مكان في لندن مع الملوك والعظماء في كنيسة Westminster Abbey.
وظل قبر لايبنتز دون أيِّ علامات ودون نعي إلا من مؤسسة علمية واحدة فقط، لمدة 50 سنة، إلى أن أُعيد التحقيق في قضية اختراع التفاضل والتكامل، وحينها بعدما مات الرجلان المتنازعان، نيوتن ولايبنتز، توصل علماء الرياضيات إلى حقيقة أن لايبنتز لم يسرق شيئًا من نيوتن، وأن طريقة كل منهما في اختراع التفاضل والتكامل مختلفة تمامًا، وأن كل واحد منهما اخترع العلم منفردًا.[11]
خاتمة
كانت هذه ثلاثة نماذج من العلماء الذين ماتوا بسبب نظرياتهم وأعمالهم، والقائمة تطول وتطول، ولو كان في الوقت متسعٌ لوجب علينا أن نذكر العالم الألماني ألفريد فينجير (بالإنجليزيَّة: Alfred Wegener) الذي طرح أول مرة نظرية الإنجراف القاري (بالإنجليزيَّة: Continental Drift) التي تفترض أن قارات الأرض كانت قارةً واحدةً في الأساس، ولكنها بدأت في الإنجراف والتحرك مبتعدة عن بعضها، حيث لاقت نظريته رفضًا من التيار العلمي العام وقتها، وظلّ فينيجر في بحثه واستكشافاته ورحلاته لإثبات نظريته، حتى كان في جرين لاند في رحلة بحثية، ومات في هذا البلد وهو يجري أبحاثه وحساباته ودُفن في الثلج.
وبعد 50 عامًا من وفاته، أُثبِتت صحة نظريته، وهي النظرية المُعتمدة في الجيولوجيا الآن.[12]
أقول: لو كان في الوقت متسعٌ لحدثتكم عن العالم الإنجليزي جون ويكليف (بالإنجليزيَّة: John Wycliffe) الذي درس في جامعة أوكسفورد، ثم عمل أستاذًا بها، وكان أول مَن ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة الإنجليزية، وقاد حركة الإصلاح الديني في بريطانيا، ما اضطر جامعة أوكسفورد أن تصدر قرارًا مشتركًا مع الكنيسة بِعدِّه زنديقًا ومهرطقًا، وأمرت بمصادرة كتبه وطردِه من الجامعة. وبعد موت جون ويكليف بثلاثين سنة، حكم المجمع الكنسي عليه بالإبادة من وجه الأرض، ونفذ الملك مارتن الخامس هذا القرار، وحفر قبر ويكليف وأخرج عظامه منه، ثم أحرقها ونثر غبارها في الماء.[13]
كانت أعمال ويكليف من أهم الأعمال والأفكار التي غيّرت تاريخ إنجلترا، بل أوروبا، بل العالم أجمع، فهو الأب الروحي لمارتن لوثر الذي قاد ثورة الإصلاح الديني التي غيّرت شكل أوروبا والعالم والتاريخ…
والآن، نرى أن جامعة أوكسفورد التي طردت ويكليف منها قديمًا، تفتخر به، ويوجد بها الآن كلية كاملة مسماة باسم هذا العالم الراحل، التي لم تقتله أفكاره، بل أُخرجت عظامَه من قبره وأُحرقت بعد أن مات ودُفن.
لو كان في الوقت متسع لحدثتكم عن جابر بن حيان الذي مات في السجن، وعن ابن رشد الذي منعه الناس حتى من الصلاة في المسجد هو وابنه، وعن الجعد بن درهم الذي قُتل يوم عيد الأضحى في المسجد، ذبحه خالد بن عبدالله القسري والي الكوفة على المنبر لأجل نظرية قالها في العقيدة؛ ذُبح داخل المسجد وعلى المنبر وفي يوم العيد، ودمه أُريق قبالة أعين الناس، فقط لأجل نظرية تبناها.[14]
وإذا كانت الكنيسة قد اعتذرت لجاليلو بعد ثلاثة قرون ونصف من وفاته[15]، وإذا كانت أوكسفورد قد خلّدت ذكرى ويكيلف وأصلحت خطأها السابق بتسمية كلية باسمه، فإن أحدًا لم يعتذر للجعد بن درهم، ولم يحترم حرمة الدم ولا حرمة المسجد، بل إن علماء الدين بعد ذلك كتبوا الأشعار فرحًا بذبح هذا الرجل على منبر المسجد، وقالوا:
ولأجل ذا ضحّى بجعدٍ خالدُ …. الـقسري يوم ذبائح القربان
شكر الضحيةَ كلُ صاحب سنة …. لله دَرُّك من أخي قربــان
ولحدثتكم أيضًا عن الطبيب الفرنسي أنطوان كلت (بالإنجليزيَّة: Antoine Clot) الذي أقنع محمد علي باشا بإنشاء أول مدرسة للطب الحديث في مصر، بل كانت أول مدرسة للطب أُنشِئت في الوطن العربي كله، التي أصحبت مدرسة القصر العيني الآن، فجمع له مئة من طلاب الأزهر، واستقدم لهم أساتذة من فرنسا، ومعهم مترجمون للعربية.
وبدأت للمرة الأولى دروس التشريح على جثث موتى حقيقيين، إلا أن كثيرًا من طلبة الأزهر وشيوخه كانوا يرون حرمة تشريح جثامين الأموات، فتقدم طالب مصري في أثناء محاضرة التشريح؛ لطعن الدكتور أنطوان وقتله، إلا أن الطلاب الآخرين حالوا بين جسده وبين الخنجر.[16]
كانت تلك لمحة يسيرة عن علماء دفعوا حياتهم وأُزهِقت أرواحهم -أو كادت أن تُزهق- مقابل رأي قالوه، أو نظرية ابتكروها.
الدور | الاسم |
---|---|
إعداد | محمد رضا |
تحرير | شيماء محمود |