لم علينا قراءة فرانز فانون؟

بدأ تبلور حركة «حياة السود مهمة» في عام ٢٠١٣ بعد تبرئة القضاء الأمريكي لجورج زيمرمان في قضية مقتل الشاب الأسود ذي الأصول الأفريقية مارتن ترايفون الذي كان يبلغ آنذاك سبعة عشر عامًا، ثم انتشرت الحركة أكثر في أوساط الرأي العام في ٢٠١٤، بعدما أطلق أفراد من الشرطة الرصاص على كل من مايكل براون البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا في مدينة فيرجسون بولاية ميسوري، وتامر رايس البالغ من العمر اثنى عشر عامًا في مدينة كليفلاند بولاية أوهايو.

على الرغم من ذلك، كان مقتل جورج فلويد البالغ من العمر ستة وأربعين عامًا خنقًا بشكل فج ومهين على يد شرطي بمدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، هو الشرارة التي انفجرت بعدها مظاهرات عارمة جعلت من تلك الحركة ظاهرة عالمية، حين التقط أحد المارة فيديو مقتله لينتشر بعدها على الإنترنت مفجرًا سلسلة من الاحتجاجات العالمية المناهضة للتمييز العنصري، وتكرار حالات العنف ضد السود دون معاقبة مرتكبي تلك الجرائم.

احتلت مشاهد من تلك المظاهرات –التي حدثت في أوج تفشي فيروس كورونا وواجهها القمع الشُرطيّ في كثير من الأحيان– الصدارة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لعدة شهور، ولكن مع خفوت الاهتمام الإعلامي إثر لهاثه وراء كل ما هو جديد، أصبحت واحدة من أهم التحديات التي تواجه حركة «حياة السود مهمة» هي كيفية الحفاظ على زخم الحركة، وتعزيز نضالها في سبيل الحرية والعدالة على المدى الطويل.

تستند فكرة قدرة القراءة على مواجهة العنصرية إلى تاريخ طويل ومشرف، أوله قوائم القراءات المناهضة للعنصرية التي حررتاها أمينتا مكتبة، هما تشارلماي رولينز وأوجاستا بيكر بأمريكا في الأربعينيات من القرن العشرين، ولكن ما أهمية تبادل قوائم القراءة بينما حياة الآخرين على المحك؟ هل هي مجرد انشغال فارغ لا يثمر سوى شعور زائف بأننا نقوم بدور ما دون الحاجة الفعلية لتغيير أي هياكل أو أنظمة؟

لننظر إلى كتابات فرانز فانون (١٩٢٥-١٩٦١) على سبيل المثال، وهو طبيب نفسي وفيلسوف في علم الاجتماع من جزيرة مارتينيك واحدة من جزر البحر الكاريبي شمال ترينيداد وتوباغو، ومن أهم أعماله (بشرة سمراء، أقنعة بيضاء –Black Skin, White Masks) (١٩٥٢)، و(مُعَذَّبُو الأرضThe Wretched of the Earth) (١٩٦١)، وهما من الكتب المؤثرة في تطور دراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات العرقية والإثنية، والنظرية النقدية. 

يتصدر كتاب «بشرة سمراء، أقنعة بيضاء» الكثير من قوائم القراءة المناهضة للعنصرية، وتستطيع من خلال بحث سريع على محركات البحث ملاحظة مدى أهمية فكر فانون للصراعات المعاصرة المناهضة للعرقية والطبقية، فهو كتاب مبني على مراجعة لأطروحة فانون –المرفوضة بالطبع– لنيل الدكتوراه عن «التجارب المعاشة للرجل الأسود».

ولد فانون لعائلة تنتمي للطبقة المتوسطة، وحارب مع الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية قبل أن يسافر إلى فرنسا للعمل كطبيب، إذ يعكس كتاب «بشرة سمراء، أقنعة بيضاء» الصدمة المتولدة عن كونه أسود وسط مجتمع يتخذ من البياض معيار له، كاشفًا الحقيقة وراء عبارة «الحرية والمساواة والأخوة» التي استخدمتها فرنسا كشعار لها في مستعمراتها، وواقع العنصرية اليومية في فرنسا في منتصف القرن العشرين، ويقول نايجل جيبسون إن فانون كان مُنصبًا على توضيح القمع العنصري والكولونيالي، وما يكمن فيهما من نزع الصفة الإنسانية عن المقموعين حيث كانت «معاناة السود جسدية، بشكل مختلف كليًا عن معاناة البيض».

يعتبر فصل «حقيقة السواد» من أشهر فصول كتاب «بشرة سمراء، أقنعة بيضاء»، وفيه يروي فانون تفاصيل لقاء جمعه بطفل أبيض على متن قطار في فرنسا، حيث شاور الطفل بإصبعه نحو فانون صارخًا بفزع: «انظروا! زنجي!»، فيأخذنا فانون عبر روايته لتلك الحادثة إلى أعماق سيكولوجية لضحايا العنصرية، ليختبر القارئ بنفسه ما يشعر به السود عندما تٌشيؤهم نظرة الرجل الأبيض.

يبني فانون جدله على اثنين من مصطلحاته هما: (السيمياء الجسدية -corporeal schema) أو الوعي العام بالجسد أي اختزال وجود المرء في مجرد جسده، و(السيمياء العرقية-الجلدية  -racial-epidermal schema) أي ما يُفْرَض على الإنسان الأسود من افتراضات مُسبقة بناءً على لون جسده وحسب، وفي محاولة لتصوير ومحاكاة الجرح أو الشرخ النفسي الذي يصيب ضحايا (الاستجواب العنصري -racial interpellation)، حيث يشعر المرء بالرفض ويُجْبَر على رؤية نفسه كشخص دوني وحقير في نفس الوقت.

«اكتشفت سوادي، وخصائصي العرقية؛ دمرتني رسومات توم-توم، وأكل لحوم البشر، والدونية، والعيوب العرقية، وسفن العبيد، وفوق ذلك كله.. فوق ذلك كله، ابتسامة الزنجي في ذلك الإعلان –بعد أن أكل العصيدة لأول مرة– عرفانًا بالجميل لسيده الأبيض.»

يرفض فانون أن يستسلم لوطأة الإرث الثقافي الزائف الذي ينسبه المجتمع الفرنسي الكولونيالي للسود، ويرفض تلك الذات السوداء التي أعاد الرجل الأبيض تشكيلها «بصهرها، وتشويهها، وإعادة تلوينها، ووشحها بسواد الحزن صبيحة شتاء أبيض ما»، ومن ثم يبدأ في تفكيك ونقد ودحض الصورة التي خلقها الرجل الأبيض عن السود.

لا يفعل فانون ذلك بأسلوب أكاديمي جاف، بل يتنقل بأسلوب كتابة خفيف الخطى بين السياسة، والطب النفسي، والأدب، والفلسفة، وبذلك لا يخضع أسلوبه لأي من التصنيفات الأدبية التقليدية، فكتاباته متعددة الأبعاد وتنضح بالمشاعر، والبلاغة، والتورية، ويجعلها تغيير الإيقاع والوتيرة والجرس الموسيقي أقرب إلى الكلام المنطوق، حتى إن ديفيد مايسي –مؤرخ ومترجم معروف بدراسات السيرة الذاتية التي كتبها عن فرانز فانون– يزعم أن فانون كان يملي كتاباته على زوجته جوسي في صورة خطابات كلامية.

لذلك يختلف تفاعل القارئ مع نصوص فانون اختلافًا جذريًّا عن تفاعله مع أي نص أكاديمي آخر، فبدلًا من البحث في النص عن إجابات مباشرة أو تفسيرات أكيدة، يدعو فانون القارئ لكي يصبح جزءًا من النص ويتخيل عوالم وحيوات وذوات أخرى غير تلك الخاصة به، وربما تكون قراءاته عصية على الفهم في بعض الأحيان، إلا أنها «حقيقية»، فهي لا تجبر القارئ على التفكير وحسب بل وعلى الإحساس، والفهم، والتضامن. 

فهل من المهم قراءة كتابات فانون؟ هل بإمكانها تغيير أي شيء؟ لا شك في أنها قادرة على الأخذ بيدنا إلى ما تسميه كريستينا فيشر برونز بـ«المساحة الانتقالية» التي يقوم فيها الأدب على «تحفيز التفكر في الحواجز الجامدة التي تفصل بين الذات والعالم»، ومن ثم تحليل ونقد المعتقدات المسبقة التي يعتبرها معظم الناس من المُسَلَّمَات. 

ربما لن تغير مثل تلك الكتابات العالم في التو واللحظة، ولكنها قادرة على فتح نوافذ صغيرة على عوالم أخرى لفهم ما يمر به الآخر وما تطالب به حركات مثل «حياة السود مهمة»، ولربما ينتج عنها إعادة تشكيل وعي الناس بشكل يضمن نجاح مساعي تلك الحركات.

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي