يحدث أن يختلط الحابل بالنابل، أن تجد من يشجع ويؤيد أنظمة فاشية أو أنظمة تميل إلى الشمولية، تجذب البعض لأجل مصالح مالية أو سياسية مختلفة، فمؤيدو الفاشية من الممكن أن تتخيلهم كل شيء، فلاسفة كانوا أو علماء اجتماع أو نفس والكثير من المثقفين والسياسيين الذين يريدون الحفاظ على امتيازاتهم بالطبع، لكن كل ما يريده الأديب هو مساحة لحرية الرأي والتعبير، إذًا لماذا في خضم بحثنا عن مؤيدي الأنظمة الفاشية فوجئنا بالعديد والعديد من الأدباء؟ يعتقد الكثير أن الأنظمة الفاشية كانت جاذبة فقط للمختلين والساديين.
إنما وجدنا (ريتشارد وولين) الأكاديمي والمؤرخ الفكري الأمريكي يكتب في «غواية اللامعقول قصة الغرام الفكري بالفاشية من نيتشه إلى ما بعد الحداثة» عن ترك الغربيين للسياسة العاقلة وانتمائهم إلى الأنظمة القمعية المتسمة باللامعقولية مثل الأنظمة الفاشية التي سادت في ثلاثينيات القرن الماضي، وانحاز كثير من المثقفين إلى سياسات يمينية متطرفة، وذلك بعد انحدار الديموقراطية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قائلًا:
«إذا عددنا الأدباء الفاشيين والمتعاطفين فلسفيًا مع الفاشية، لم نُشِر إلا إلى قمة جبل الجليد الضخم الطافي في الماء، فقائمتنا سوف تتضمن إرنست يونجر، وجوتفريد بن، ومارتن هايدجر، وكارل شميت، وروير براسيلاك، وبيير دريولا روشيل، ولويس فريدنان سيلين، وبول دي مان، وعزرا باوند، وجيوفاني جينتيلة، وفيليبو مارينيتي، وجابرييل دانونزيو، ووليم بطلر ييتس، وويندام لويس.» [1]
وسُمي الجيل الذي عاصر أهوال الحرب العالمية الأولى والثانية بالجيل الضائع، حيث حل التيه والربكة على النخبة المثقفة والأدباء والكُتاب، خلال الوقت التي كانت تكتسح فيه النازية في ألمانيا، والفاشية الإيطالية.
هل كان هتلر جذابًا للأدباء حقًا؟
لنحكي عن (هنري ويليامسون) الكاتب البريطاني والصحفي الفلاح محب السيارات ومؤلف أيضًا لأكثر من خمسين كتابًا، وتأثرت كتباته بكونه فلاحًا حيث وصف الطبيعة وصفًا جميلًا ورومانسيًا، كما أن معاصرته للحرب العالمية الأولى جعلته يفصّل الكثير من أحداثها ويسردها بدقة، فأصبح زميلًا في الجمعية الملكية للآداب والمعهد الدولي للفنون والآداب أيضًا. [2]
ويحضر ويليامسون لأول مرة في عام 1935 مؤتمر حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني في نورمبرج، كما أعجب بحركة شباب هتلر مقارنةً بالشباب الذي وصفه بالفقير ومنعدم الرؤية الذي تركه في أحياء لندن الفقيرة، وتولد لديه اعتقاد راسخ بأن هتلر رجل جيد أراد بناء ألمانيا جديدة وأفضل مما كانت عليه، كما تأثر جدًا بالدعاية النازية فأصبح لا يشكك في مزاعم التيار النازي قط، وبات الروائي من أشد المتحمسين دفاعًا عن النظام الحاكم.
وقبل ذلك قد أقام ويليامسون في أعقاب الحرب مباشرةً علاقة وطيدة مع أوزوالد موزلي، مؤسس وقائد الحركة الفاشية والمعادية للسامية في بريطانيا والتي تسمى بالقمصان السوداء، حيث مارست عنفًا ملحوظًا ضد اليهود وخصومهم اليساريين أيضًا، فكان موزلي مقربًا لهتلر لدرجة أن الأخير حضر حفل زفافه في بريطانيا الذي أقيم في منزل وزير الإعلام النازي جوزيف غوبلز.
جسَّد شخصيته الممثل سام كلافلين في آخر حلقة عرضت من بيكي بلايندرز المسلسل البريطاني الشهير الذي يحكي عن تمكن عصابات الشوارع من أحياء بريطانيا الفقيرة آنذاك، ويسرد مآسي الرجال والبلاد بعد خوض الحروب وعلاقة بريطانيا بالنازيين والروس خلال هذه الحقبة. [3]
وتلك العلاقة هي التي قربته كثيرًا من شخصية هتلر حيث لم تكن ألمانيا الجديدة هي الملهم لويليامسون، بل كان هتلر نفسه، وذلك ليس بدافع شخصيته السياسية الجبارة والمسيطرة أو دوافع سياسية، وإنما جانب ويليامسون الحساس الخيالي المرتبط بالكتابة هو الذي جذبه إلى القائد الملهم، لكنه في الحقيقة كان معارضًا للحرب حيث يقول أنه تمنى لو استطاع أن يطير إلى ألمانيا قبل ليلة الكريسماس لعام 1914 حتى يقنع هتلر بالعدول عن الحرب. [4][5]
كاتب «الجوع» ظل يدافع عن هتلر حتى بعد انتحاره!
كما كان هتلر رسامًا مرهفًا، ومع ذلك أصبح النازي الذي يريد السيطرة على العالم، فلدينا كاتب رواية الجوع (كنوت همسون) الأديب المبدع المصنف من أفضل أدباء القرن العشرين والحاصل على نوبل لعام 1920، نجده يميل سياسيًا إلى الفاشية النازية، بل وآمن بهتلر إلى الحد الذي جعله يخون بلاده النرويج، حيث تعد إحدى البلاد التي احتلها الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، فبدلًا من تجنيد قلمه ضد المعتدي، كتب همسون مقالة بعنوان «الألمان يقاتلون من أجلنا!» وبالطبع قُبض عليه في أواخر أيامه بتهمة الخيانة ووقعت عليه غرامات مالية.
ونجد أن الأديب اليميني المتطرف كليًا كان نافرًا بشدة من قيم الحداثة، بل كرّس محاضراته في أوسلو لينقد المادية الأمريكية رافضًا للديموقراطية المزيفة على حد قوله، إلى جانب آرائه بأنها ضد طبيعة الإنسان، إيمانًا منه بأن البشر درجات ولن يتساووا أبدًا من حيث الذكاء، كما هاجم أيضًا التزاوج المختلط بين العرقيّات البيضاء والسوداء، فقال: «الزنوج زنوجٌ وسيظلون كذلك. شكلٌ بشري ناشئ مِن المنطقة المَدارية، أقربُ إلى أن يكونوا أعضاء بدائية على جسد المجتمع الأبيض، وبدلًا من أن تؤسِّس أمريكا نخبةً فكرية، أسَّست مزرعة للخيول الهجينة.»، أما بعد انتحار هتلر، ظل يدافع عنه لأنه كان يراه محاربًا من أجل الإنسانية وواعظ إنجيل العدالة والمبشَّر به لجميع الأمم.
أما النظام الفاشي الإيطالي بقيادة (موسوليني) فكان له نصيب الأسد من الأدباء المؤيدين
إذا كنا أسقطنا مصطلح الفاشية على اليوتوبيا النازية التي كان يأمل في بنائها هتلر لأنه يعد نظامًا شموليًا بالمعنى المعروف، فإن أول من أخرج مصطلح الفاشية السياسية إلى النور هو الزعيم الإيطالي (بينيتو موسوليني) حينما استخدمها لأول مرة لوصف حركة سياسية قومية معادية للحركات اليسارية آنذاك، وشرع بعد توليه السلطة في بناء الديكتاتورية الإيطالية التي كانت حلمه منذ الصغر، فيصف موسيليني أتباع حركته قائلًا: «أريد أن أجعل الالتزام الوطني كلمة ذات معنى، (الفاشيون) يتسلحون بإحساس الطاعة الطاغي.»، وكأي حركة سياسية جديدة، نالت الفاشية في بداياتها إعجاب الكثير من المثقفين والسياسيين بل والأدباء والمفكرين. [6]
وقبل الحرب العالمية الأولى كان بالفعل يوجد تياران أدبيان رئيسيان يبرزان أشكال الحياة الأدبية في إيطاليا ألا وهما: تيار المستقبلية، وتيار الشفقية، فالأول ما يهمنا بشدة حيث انجرف إلى الفاشية مما أودى ذلك إلى نهايته في آخر المطاف، وتعد المستقبلية الإيطالية تيارًا يقطع أي علاقة مع القديم والماضي، لذلك اعتبر مؤيدوه من الأدباء أنه عمل ثوري بامتياز، ودعم المستقبليون الفاشية حيث كانوا قوميين، متطرفين، ومعجبين بالعنف، حيث كانوا يعارضون الديمقراطية البرلمانية آنذاك.
بعدما وضع فيليپو توماسو مارينتي -الشاعر والأديب الإيطالي الشهير- حجر الأساس في تيار المستقبلية، أسس على الفور الحزب السياسي المستقبلي مما جعله أحد الأعضاء الأوائل في الحزب الوطني الفاشي، كما سعى لجعل المستقبلية هي الفن الرسمي للدولة لكنه فشل في ذلك نظرًا لعدم اهتمام موسوليني الشخصي بالفن واختار وقتها أساليب أخرى ودعم حركات بعينها من أجل إبقاء الفنانين موالين للنظام، وظل يدعم مارينتي الفاشية الإيطالية حتى وفاته. [7]
كان يحب موسوليني.. (عزرا باوند)
«كان يكرس باوند خُمس وقته لشعره وبقية الوقت يكرسه لتحسين حيوات أصدقائه، يدافع عنهم عندما يهاجمهم أحد، ينشر لهم أعمالهم في المجلات ويخرجهم من السجون ويقدم لهم الأموال، يبيع لهم لوحاتهم، ينظم لهم حفلاتهم الموسيقية ويكتب مقالات عنهم، يقدمهم للنساء الثريات، ويتكلم مع الناشرين لنشر أعمالهم، ويصحبهم بالليل عندما يقولون إنهم يحتضرون، ويوقّع على وصاياهم، يدفع لهم نفقات المستشفى ويبعد عنهم فكرة الانتحار، وفي النهاية يسنون له السكاكين وينتظرون الفرصة الأولى للقضاء عليه.» [8]
تلك كانت كلمات (إرنست هيمينغواي) دفاعًا عن (عزرا باوند) الشاعر والناقد الأمريكي رقيق المشاعر والذي ينعكس ذلك على شعره الغنائي في الكثير من أعماله، فيعد واحدًا من أكثر الشعراء الذين كتبوا بالإنجليزية نبوغًا على الإطلاق! ويرى بعض النقاد أنه واحد من أهم شعراء الغرب في القرن العشرين إن لم يكن أهمهم.
كان باوند يميل إلى الحركات الباطنية التي وجدت طريقها إلى الغرب من الشرق الأقصى، حيث كان يمارس اليوغا وابتعد عن الشعائر المسيحية حيث كان يرى أن المسيحية السائدة في أوروبا وأمريكا لا علاقة لها بالمسيحية الأصلية التي كانت سائدة في فلسطين، لكنه أعجب كثيرًا بكونفوشيوس الفيلسوف الصيني صاحب تعاليم الدين المدني الذي كان يأمل باوند في تحقيق مثله في بلاده، ولذلك اختلط عليه الأمر وظن أن الدولة الفاشية التي أسسها موسوليني هي تجسيد لتلك الدولة المدنية التي حلم بها الحكيم الصيني، فظل شاعرنا يحتقر الأنظمة الليبرالية الديمقراطية حتى حوكم بعد الحرب العالمية الثانية وصدر بحقه حكمًا بالإعدام، لكن العديد من الكُتاب وقفوا معه مثل هيمنغواي ودافعوا عنه حتى اعتبرته السلطات مريضًا عقليًا فأودعوه مستشفى المجانين لمدة عشر سنوات.
هنا نرى أن لهث بعض الكٌتاب والأدباء وراء النظام النازي أو الفاشي أو أي نظام يميل إلى الشمولية السياسية في العموم لم يكن بسبب الحروب التي عاصروها وحدها، فتعد الحرب أحد الأسباب المربكة والمخلخلة للأفكار كما أشرنا، لكن لا ننسى أيضًا الانبهار بالقائد الملهم في حالة هتلر الذي ظن البعض أنه سيخلص البلاد من كل سوء، فحينما ينتهي القائد من خصومه يتحول إلى تقييد حتى مؤيديه ويدفع بلاده كلها بلا استثناء إلى الهزيمة المنكرة. أو الانبهار بأيدولوجية قومية تدعو إلى العنف باسم النظام مثل الفاشية، فتتحول إلى نظام إقصائي مستبد يفعل كل الجرائم الممكنة حتى يظل النظام يتنفس.