متى سنتعلم ألا نعلن نهاية شئ بكل ثقة؟
منذ خمسون عامًا، أغلقت اثنتان من أبرز الجامعات الأمريكية بإغلاق أقسام تدريس الأمراض المعدية، وهم مليئين بالثقة من كون كل الأمراض والمشاكل المتعلقة بهذا الموضوع قد حُلت للأبد.
لكن ظهور الكثير من حالات الإصابة بأمراض الحصبة والتهاب الغدة النكفية في كلٍ من أوروبا والولايات المتحدة – وبأعداد غير مسبوقة – قد أوضح أي تهديد يمثله هذا الموضوع..
الإنفلونزا: حرب عالميّة فيروسيّة!
ليست معلومة جديدة، لكنها لا تنفك تكرر نفسها مرارًا وتكرارًا. جمع”سنودن”، وهو بروفيسير في قسم التاريخ في جامعة “ييل” ب”نيو هاڤين” في ولاية “كونيتيكت”، بجمع الكثير من الأدلة، بعضها من نتاج الأبحاث التي أجراها. والجدير بالذكر أنه قد قام بتتبع الأوبئة التي اكتسحت العالم على مدار فترة تتعدى الألف سنة، والتي تنوعت ما بين الطاعون الدبلي (بالإنجليزيَّة: Bubonic plague)، والجدري، والملاريا، والسارس الذي يصيب الجهاز التنفسي، والايبولا، وغير هذا كثير.
استعاد تاريخًا طويلًا من أكباش الفداء، والعنف، والهيستيريا، والتديّن الذي يصاحب ظهور الأوبئة، كما تمعن في تأثيراتهم -البعيدة المدى- الاجتماعيّة، والسياسيّة، والثقافيّة.
عندما هاجم وباء الكوليرا مدينة “باريس” في عام 1832م-وهو الوباء الذي قتل تقرييًا حوالي تسعة عشر ألفًا منهم- انتشرت نظرية مؤامرة مفادها أن الحكومة الغير محبوبة -والتي يترأسها الملك “لويس فيليب”- كانت تسمم آبار المياه بسم الزرنيخ!، تمكنت قوات الشرطة والجيش بالكاد من احتواء العنف الذي ظهر وقتها. وقد تسببت تلك الأحداث في بث الخوف في طبقات معينة من الشعب، خصوصًا الطبقات الفقيرة.
يزعم البروفيسير “سنودن” أن هذا يوضح لماذا ظهر أشنع مثالين من القمع لتلك الطبقة في القرن التاسع عشر في العاصمة الفرنسية كذلك. فقد صاحبت ثورة 1848م الكثير من أحداث العنف التي دمرت المجتمع الباريسي، وصاحبها كذلك ظهور حكومة ثورية ظلت تحكم المدينة لفترة ٣٢ عامًا لاحقًا.
لوحظ منذ فترة طويلة التعاون بين الحروب والأوبئة في إعادة تشكيل التاريخ. فالشيء الوحيد الذي كبح جماح غزوات “نابليون بونابرت” التوسعية تجاه الغرب، هو انتشار الحمى الصفراء بين قواته، والتي أصابتهم في مستعمرة”سانت دومينيك” الفرنسية في البحر الكاريبي (والتي تدعى الآن “هاييتي”).
أما أحلامه تجاه الشرق فلم يقف أمامها إلا وبائي الدوزنتريا والتيفود. (ويجدر بنا الإشارة إلى أن وباء التيفود الذي دمر القوات الفرنسيّة أثناء تراجعها من “موسكو” قد تسبب في عدد كبير من الوفيات كذلك.)
التهديدات الأمنية
صاحب الحرب العالمية الأولى ظهور وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 ليقتل ما بين 50 مليونًا ل100 مليون شخص! لكن بالرغم من هذا فلم تتوافر إلا معلومات قليلة عن ذلك الوباء الكارثي. هناك مخاوف من ظهور وباء إنفلونزا جديد بالمستقبل، كما أن هناك اهتمام كبير بدراسة العلاقة بين وباء الإنفلونزا هذا، ووباء الإيدز المتفشي في جنوب أفريقيا بالوقت الحالي.
هناك بعض الأدلة على كون استخدام البيض للجنوب أفريقيين ككبش فداء في 1918م هو أول خطوة في التمييز العنصري ضدهم، تلاها قيامهم بتقليص مساحة الأراضي المتاحة للملونين، وتلك العنصرية سرّعت من الهجرات، والتي تسببت بالنهاية في تقسيم عائلات الزنوج. كما إنّ هذا تسبب في ظهور أشكالًا جديدة من الممارسات الاجتماعية والجنسية. كل هذه النقاط سرّعت من انتشار الإيدز بينهم بمجرد ظهوره.
على سبيل المثال، الشباب الذين يعيشون بعيدًا عن عائلاتهم غالبًا ما يعتادون على ممارسات حياتية تحفز انخراطهم في الكثير من الأنشطة الجنسيّة والعنف؛ وهو ما جعل قارة أفريقيا تتمتع بواحد من أعلى معدلات الاغتصاب في العالم!
وكأن هذا ليس كافيًا، فقد تسبب الإعلان الغير مسؤول -والذي قام به الرئيس “تابو ميبيمي” في 1999م- بأن الوباء ليس بسبب فيروس “اتش أي في”، وهو ما تسبب في وفاة نصف مليون -كان يمكن تفادي إصابتهم من الأساس! – من الجنوب أفريقيين!
التغلب على إيبولا
يبدو أننا في القرن الحادي والعشرين نكرر الكثير من الأخطاء التي تسببت في إطلاق سراح العديد من الأوبئة بالماضي. لهذا سّمى البروفيسور “سنودن” بتسمية كل من وبائي السارس والايبولا ب”بروفة”! بالرغم من تأييد العديد من الناس لتقديم الرعاية الصحية للجميع، إلا أن الأنظمة الاقتصادية العالمية تمانع هذا -لأن الأمر غير مجدي اقتصاديًا بالنسبة لهم- كما أن العديدين يظنون أن الحدود الجغرافية ربما تقف حاجزًا أمام المرض، بالرغم من أنها معلومة ثبت خطأها منذ قديم الأزل!، وقد أعلن الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترامب” أن فرص المهاجرين للحصول على إقامة دائمة سيرتبط من الآن فصاعدًا بالحمل الذي سيمثلونه على ميزانية الدولة -الصحيّة خصوصًا- مما يوشي بأن الوافدين الجدد سيكون بهم عدد أقل من الأطباء، مما سيقلل من فرص اكتشاف الأمراض!
هي معركة خاسرة للأسف، فالمرض المعدي الوحيد الذي تمكن العالم من القضاء عليه بالكامل هو الجدري، أما الأمراض الأخرى التي ظن المتفائلون في الستينات أنها ستكون قد اختفت من العالم الآن قد أثبتت صلابتها، ويمكنها بسهولة أن تهاجم من جديد، فمثلًا، تعاني جمهورية الكونغو من مأساة تتعدي الإيبولا فقط، فهناك تفشي لوباء الحصبة، بالإضافة للبوليو الذي ظهرت منه سلالة متحوّرة غير التي ظهرت بالسابق وتم التوصل لمصل لها!
صحيح أن الجهود التي تقوم بها الدولة للقضاء على تلك الأمراض قد أثمرت نتائج جيدة، إلا أنها غالبًا كانت ذات سعر فادح!، يعتقد “سنودن” أن القضاء على مثل تلك الأوبئة يحدث عندما تتضافر جهود الجميع سويًا، أطباء، وسياسيين، وصانعي أدوية، بالإضافة للعاملين بمجال الإعلام والمواطنين.