النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات: آلية الهيجز وحل مشكلة الكتلة.
اهتزت الأوساط الفيزيائية في الرابع من يوليو عام 2012 عندما أعلن فريقان بحثيان من العاملين في المُصادم الهادروني الكبير (Large Hadron Collider) التابع لمنظمة CERN عن اكتشافهم لجُسيمٍ يُشبه في خواصه إلى حدٍ كبيرٍ (بنسبةٍ تتخطَّى الـ99%) جسيمًا تم التنبؤ بوجودهِ في ستينيات القرن الماضي، عندما كان يُحاول العلماء في ذلك الوقت وضعَ نظريةٍ مُتناسقةٍ تُفسِّر الجُسيمات الأولية وتفاعلاتها فيما بينها عن طريق القوى الأساسية المعروفة (النووية القوية، والنووية الضعيفة، والكهرومغناطيسية).
وبالفعل، في الخمسينيات كانت هناك نظرية ناجحة تصف الجسيمات المشحونة كهربيًّا وتفاعلها فيما بينها باستخدام القوةِ الكهرومغناطيسية، وكانت هذه النظرية متوافقةً بشكلٍ كبيرٍ مع التجارب، ولكن كما ذكرنا فهناك قِوًى أُخرى غير الكهرومغناطيسية متواجدة في الطبيعة لا يستطيع العلماء وصفها بطريقةٍ مُتوافقةٍ مع التجارب، حتى وصلنا إلى الستينيات ولم يتغيَّر الوضع.
ولكن بعدها تَغيَّر الوضع عندما نجحَ كلٌّ من شيلدون جلاشو (Sheldon Glashow) وستيفن واينبرج (Steven Weinberg) ومحمد عبد السلام (Mohammad Abdus Salam) في وضعِ نظريةٍ تِصِفُ القوة النووية الضعيفة وأيضًا تضعها في نفس الإطار مع القوة الكهرومغناطيسية فيما يُعرف بالـ(Electroweak unification).
ولكن ما دَخْل هذا كله بآلية الهيجز؟
للإجابةِ على هذا السؤال، سأحاول في البداية شرحَ بعض الأسسِ النظرية التي تقوم عليها فيزياء الجسيمات وبشكلٍ مبسط، ولكن من أجل التبسيط سأتخطَّى بعضَ المفاهيم والتي سيكون من الصعب على القارئ العادي فهمها والتي تطلَّب معرفةً قوية بالفيزياء.
صندوق الأدوات:
في البداية، لنتعرف على الأدوات التي يستخدمها الفيزيائيون لوصفِ سلوكِ الجُسيمات الأولية وتفاعلاتها:
الإطار النظري هو نظرية الحقل الكمِّي (Quantum Field Theory)، وهي نظريةٌ تدمج بين ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة، وسنتحدث باختصارٍ عن تلك النظرية.
في الميكانيكا الكلاسيكية، على سبيلِ المثال القوة الكهربية، إذا كان لدينا جسيمٌ مشحون يُولِّد مجالًا كهربيًّا يُؤثِّر بهِ على الجسيمات المشحونة الأخرى فنتعامل هنا على أن الجسيمات هي مصدر المجال، ولكن في نظرية الحقل الكمِّي تكون المجالات هي الأساس والجسيمات تنتج عنها، والسبب في ذلك هو طبيعة ميكانيكا الكم عند دمجها مع النسبية الخاصة.
فمثلًا -وكما هو معروفٌ ومُلاحظٌ تجريبيًّا- فإن عدد الجسيمات لا يكون ثابت (في ميكانيكا الكم النسبوية) كما هو الحال مع تصادمات الجسيمات، فمن أين تأتي تلك الجسيمات الإضافية؟
نظرية الحقل الكمي:
تَتوَّلد الجسيمات عندما تكون هناك طاقة كافية لإثارة المجال، إذن فالجسيمات ما هي إلَّا إثاراتٍ في المجالِ الكمِّي الخاصِّ بنوع هذا الجُسيم (هذا أيضًا يُفسِّر لما كل الجسيمات من نفس النوع متشابهة، فهي ناتجةٌ من نفس المجال!)
إذن، لدينا مجال كهرومغناطيسي يُولِّد فوتونات، وأيضًا مجال للإلكترونات ومجال للكواركات… إلخ.
وفي فيزياءِ الجُسيمات، هناك ثلاثة أنواع من المجالات تم تحديدها على أساس رقم العدد المغزلي لها، فالمجالات ذات العدد المغزلي 0 هي مجالاتٌ قياسية (Scalar Fields)، والمجالات ذات العدد المغزلي 1 سُمِّيَت بالمجالات الاتجاهية (Vector Fields)، وهناك مجالٌ ثالث للجسيمات ذات العدد المغزلي ½ وتُسمّى (Spinor Fields).
وفي النموذجِ العِيَاريّ (Standard model) جُسيمات المادة (كالإلكترونات والكواركات) وتُسمَّى فرميونات (Fermions) تتولد من مجالات الـ(Spinors)، أمَّا حامِلات القوى (Bosons) فتنتج عن المجالات الاتجاهية، أما بوزون الهيجز فهو الجسيم الأولي الوحيد المعروف لهُ غزل 0.
فالتفاعلات تتم بين جسيمات المادة Fermions عن طريق حاملات القوى المختلفة (gauge bosons)، فمثلًا الفوتون هو حامل القوة الكهرومغناطيسية، والقوة الضعيفة لها 3 بوزونات، البوزون Z وهو متعادل الشحنة وبوزونين من النوع W أحدهم سالب الشحنة والآخر موجب الشحنة.
فالمجالات القياسية ذات الغزل 0 هي عبارةٌ عن كمياتٍ قياسيةٍ لها قيمة مُعرَّفة عند كل نقطة في الزمان والمكان، أمَّا المجالات المُتجهة فهي عبارة عن كمياتٍ اتجاهية (في حالتنا هذه لها أربع مركبات -مركبة زمانية وثلاث مركبات مكانية)، أمَّا مجالات الـSpinors فهي تشبه المُتَّجَهَات (فلها أيضًا مركبات) ولكنها تختلف في سلوكها تحت تأثير تحويلاتٍ دورانية.
ففي العادة إذا قمنا بتدوير أيِّ شكلٍ بزاوية 360 درجة فإنه يعودُ لحالته الأصلية، ولكن في حالة الـ Spinors فإنها عندما تدور بزاوية 360 درجة تُصبح معكوسةً (رياضيًّا تُصبح الكمية بعد التحويل سالبة).
وكما ذكرت في البداية، كانت هناك نظرية تصف القوة الكهرومغناطيسية باستخدام نظرية الحقل الكمِّي تُسمَّى الإلكتروديناميكا الكمية (Quantum Electrodynamics) واستطاعت التنبؤَ بالكثيرِ من النتائج العملية وبدقةٍ كبيرة -يعود تاريخ هذه النظرية إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية ولكنها واجهت عقباتٍ لم يتم حلها إلَّا بعدَ انتهاءِ الحرب على يد ريتشارد فاينمان (Richard Feynman) وجوليان شوينجر (Julian Schwinger) وسينيشيرو توموناجا (Sin’ichirō Tomonaga) وغيرهم.
ولكن عدم مقدرة العلماء على تطوير نظريةِ حقلٍ كمِّيٍّ للقوتين النوويتين جعلت علماءً كثيرين ينفرون من النظرية مرةً أخرى. ولكن في بداية الستينيات، ظهر هناكَ أملٌ في تطويرِ نظريةٍ لوصف القوة النووية الضعيفة في إطار نظرية الحقل الكمي باستخدام نظرية يانج-ميلز، وهي نوعٌ من النظريات مختلف عن النظرية التي تصف الكهرومغناطيسية.
التوحيد الكهروضعيف وآلية الهيجز:
ولكن في البداية لم تفلح المحاولات، فإذا ما تم تطوير نظريةِ تصفُ القوةَ الضعيفة فإن البوزونات الحاملة لتلك القوة ستكون عديمة الكتلة وهو ما يخالف الطبيعة الحقيقية للقوة النووية، فالقوة النووية لها مدى قصير جدًا، وهذا يعني أن البوزونات الحاملة لها يجب أن يكون لها كتلة، وتم توحيد هذه النظرية مع النظرية الكهرومغناطيسية وأصبحت تعرف باسم الـ(Electroweak unification).
كانت هذه هي النظرية التي وضعها الثلاثي (كلٌّ منهم عملَ بشكلٍ منفصل) واينبرج وسلام وجلاشو. لكن احتاجت النظرية لتعديلاتٍ باستخدام آليةٍ تم تطويرها في نفس الفترة بواسطة ستة عُلماءٍ عملوا بشكلٍ مُنفصلٍ أيضًا في ثلاث مجموعات، الأول كان بيتر هيجز (Peter Higgs) والمجموعة الثانية كانت تضم فرانسوا انجلرت (Francois Englert) وروبرت براوت (Robert brout) والمجموعة الثالثة تكوَّنت من جيرالد جورالنيك (Gerald Guralnik) وريتشارد هاجن (Richard Hagen) وتوم كيبل (Tom Kibble).
هذه النظرية عُرِفَت فيما بعد بآلية هيجز (Higgs Mechanism) وهي النظرية التي اُستخدِمَت في تفسير وجود كتلة لبوزونات القوة النووية الضعيفة وعدم وجود كتلة للفوتونات، اُستخدِمَت نظريةٌ مشابهة في تفسيرِ بعض الظواهر في نظرية التوصيل الفائقِ أيضًا.
استفادت نظرية الهيجز من نظرية كسر التناظر الآني (Spontaneous Symmetry Breaking) التي طوَّرها يوشيرو نامبو (Yoshiro Nambu) وجيفري جولدستون (Jeffery Goldstone) ولكنها أيضًا كانت تُظهر بوزوناتٍ عديمة الكتلة، ولكن هيجز وباقي العلماء استفادوا من هذه الفكرة وطوَّروها بحيث تختفي هذه البوزونات عديمة الكتلة وتظهر مكانها بوزونات لها كتلة.
من الصعب شرح النظرية بدون الدخول في تفاصيل رياضيَّة مُعقَّدة سيكون من الصعب على القارئ العادي فهمها ولكن بشكلٍ عام، فالنظرية تعمل عند التلاعب بالمعادلة التي تحتوي على بوزوناتٍ عديمة الكتلة ووضعِ مجالٍ قياسي، هذا المجال يُؤدِّي إلى اختفاء البوزونات عديمة الكتلة غير المرغوب فيها وظهور الكتلة للـW و الـ Z.
هذا المجال هو ما يُعرف بمجال الهيجز، وكما ذكرت في السابق أنَّ الجسيمات ما هي إلَّا إثاراتٍ في المجال الكمي، فوجودُ مجالِ هيجز يَتطلَّب وجودَ بوزون هيجز، وهذا ما يتطلبه الأمر لإثبات تلك الفرضية، فيجب رصد جسيم متوافق مع الخواص التي تتنبأ بها النظرية في المعمل.
لكن للأسف تبيَّن أن هذا الأمر ليس سهلًا على الإطلاق، فتطلب الأمر حوالي نصف قرن ليتمكَّن العلماء من رصد هذا الجسيم، وبالفعل تغير الأمر بعد إنشاء المُصادم الهادروني الكبير LHC.
وبعد الإعلان عن الاكتشاف في 2012 وتأكيده في 2013، حصل كلٌّ من بيتر هيجز وفرانسوا إنجلرت على جائزةِ نوبل في الفيزياء.
*القوة النووية القوية هي المسؤولة عن تماسك النواة، والقوة النووية الضعيفة هي المسؤولة عن الانحلال النووي، والقوة الكهرومغناطيسية هي القوة التي تنشأ بين الجسيمات المشحونة كهربيًا.
إعداد: Ahmed Mohamed
مراجعة لغوية: Mohamed Sayed Elgohary
المصادر:
http://cerncourier.com/cws/article/cern/41013
http://arxiv.org/abs/1502.06276
An introduction to quantum field theory by michael peskin and daniel schroeder
#الباحثون_المصريون