ليس بداهةً أن يكتبَ السَّجين عن سجنِه كما يتخيَّل البعض. و ليس واجبًا عليه أن يروي حكايات السّجن فضحًا للسجان. فالسّجن بعد أن يمضي يتحوَّل إلى حكاية تافهة بالمُقارنة مع حياة السَّجين.
لؤي حسين
فَرَض أدب السّجون نفسِه كظاهرة أدبيّة في الأدب الفلسطينيّ الحديث، أفرزتها خصوصيّة الوضع الفلسطينيّ، مع التذكير أنَّها بدأت قبل احتلال 1967، فالشّعراء الفلسطينيون الكِبار محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وغيرهم.. تعرَّضوا للاعتقال قبل ذلك، وكتبوا أشعارهم داخل السجون أيضًا.[1]
أدب السّجون قديمًا
إن أدب السّجون والكتابة عنه وعن عذاباته معروفة منذ القدم عربيًا وعالميًا أيضًا، فقد كتب الرّوائي: عبد الرحمن منيف روايتيّ «شرق المتوسّط» و«الآن هنا» عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسّط. وكتب فاضل الغزّاوي روايته: «القلعة الخامسة»، وديوان الشّاعر المصريّ أحمد فؤاد نجم: «الفاجومي». ومنها ما أورده الأستاذ: محمّد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة أخبار الثقافة الجزائرية أدب السجون في رواية: «ما لاترونه» للشّاعر والرّوائي السّوري سليم عبد القادر، و«تجربة السّجن في الأدب الأندلُسيّ» لـ رشا عبد الله الخطيب، و«السّجون وأثرها في شعر العرب» لـ أحمد ممتاز البزرة، و«السّجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأمويّ» لواضح الصمد، وهي مؤلّفات تهتم بأدب العصور الماضية.
وكتبَ الشيخ سعيد الكرمي قصائد داخل السّجون العثمانيّة في أواخر العهد العثمانيّ، كما كتبَ إبراهيم طوقان قصيدته الشّهيرة عام 1930؛ تخليدًا للشّهداء: عطا الزير، محمّد جمجوم وفؤاد حجازي، وكتبَ الشّاعر الشعبيّ عوض النّابلسي بنعل حذائه على جدران زنزانته ليلة إعدامه في العام 1937 قصيدته الشّهيرة: «ظنّيت إلنا ملوك تمشي وراها رجال»، وكتبَ الدّكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن العشرين «أوراق سجين»، كما صدرت مجموعة قصص: «ساعات ما قبل الفجر» للأديب محمّد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و«أيام مُشينة خلف القضبان» لـ محمّد أحمد أبو لبن، و«ترانيم من خلف القضبان» لـ عبد الفتاح حمايل، و«رسائل لم تصل بعد».
أمّا عن النّصوص الأدبية التي عكست تجربة السّجن شعرًا أو نثرًا فهي ليست قليلة، نذكر منها: «روميات أبي فراس الحمداني»، و«قصائد الحُطيئة»، و«علي ابن الجهم» وأمثالهم في الأدب القديم.[1]
أدب السّجون حديثًا
أمّا ما يهتم بأدب العصر الحديث، فنذكر منها: «أدب السّجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسيّ» لـ يحيى الشّيخ صالح و«شعر السّجون في الأدب العربيّ الحديث والمُعاصِر» لـ سالم معروف المعوش، وأحدث دراسة في ذلك كتاب «القبض على الجمْر» للدكتور محمد حُور.
وبالنسبةِ لنصوص الأدب الحديث شعرًا ونثرًا فنذكر: «حصاد السّجن» لـ أحمد الصّافي النّجفي، و«شاعر في النّظارة: شاعر بين الجدران» لسليمان العيسى، و ديوان: «في غيابةِ الجُبّ» لـ محمّد بهار، وديوان: «تراتيل على أسوار تدمر» لـ يحيى البشيري، وكتاب: «عندما غابت الشّمس» لـ عبد الحليم خفاجي، ورواية: «خطوات في الليل» لـ محمّد الحسناوي، و«يا صاحبيّ السجن» لـ أيمن العتوم.[1]
أبرز الروايات في أدب السجون
القوقعة: يوميات مُتلصِّص – مصطفى خليفة
عند قراءتك لهذه الرواية تستشعر قيمة كل شيء يحيط بك، سريرك المتواضع تراه أعظم نعمة تستحق الشكر
مصطفى خليفة كاتب سوريّ، درسَ الإخراج والفن في فرنسا، ليس لديه أية توجهات سياسية وتوجهاته كانت فنية بحتة، أمضى ثلاث عشرة سنة في السجن بتهمة الانتماء للجماعات السياسية التي واجهت النظام في ثمانينيات القرن الماضي، وهو صاحب رواية «القوقعة». تم اعتقاله في مطار دمشق في الثمانينات لدى عودته من (باريس)، حيث كان عازمًا وشاحذًا همته على المشاركة في بناء وطنه والعيش في كنفه، إلا أن يد الأجهزة الأمنية طالته بسبب تقرير دُسَّ فيه، وذكر فيه وقائع إحدى السهرات الباريسية والتي كان مصطفى خليفة أُقحِم في إحدى نقاشاتها السياسية؛ ليدلو بدلوه ويتفوه بنكتة سياسية تطول الرئيس الراحل وقتها حافظ الأسد الذي كان في أوج صراعه الشرس على التشبُّث بحُكم سوريا.
هذا التقرير حكم على مصطفى خليفة مُرهف الحس بالسجن في أعتى سجون العالم قسوة ثلاثة عشر عامًا، ذاقَ خلالها أنكى أنواع التنكيل والعذاب النفسي والجسدي والجنسي بسبب تقرير من زميل في فرنسا، وبسبب عدم اكتراث أي جهاز أمني في إعطائه أية قيمة للنظر في أمره أو السماح له بشرح موضوعه والتكلُّم إليهم.
خرج من السجن في أواخر التسعينيات لينصدم بالمجتمع في الخارج، وليكون خرج من سجن صغير إلى سجن كبير. صُدِم بشدة عند خروجه من السجن بوفاة والديه اللذين كانا ينتظرانه في المطار قبل ثلاثة عشر سنة ولكنه لم يصل.
تلك العتمة الباهرة – الطاهر بن جلون
كان القبر زنزانة يبلغ طولها ثلاثة أمتار وعرضها متر ونصف، أما سقفها فوطئ جدًا يتراوح ارتفاعه بين مائة وخمسين ومائة وستين سنتيمترات، ولم يكن بإمكاني أن أقف فيها.
هل يوجد شياطين على هيئة بشر؟ بعد قراءتك لهذه الرواية ستتأكد بالفعل من وجودهم.
تحكي الرواية شهادة حية للمعتقل السابق في سجن (تزمامارت) الرهيب بالمغرب، عزيز بنين الضابط المُتهَّم بمحاولة الانقلاب على الملك الحسن الثاني في انقلاب الصخيرات الشهير عام 1970. يروي عزيز شهادته على 18 عامًا قضاها في قبر محفور تحت الأرض لا يرى الشمس ولا الضوء.[3]
18 عامًا ويموت من رفقائه مَن يموت، أحدهم بلدغةِ عقرب، وآخر لـ أَكْلِه صراصير، وثالث من التعذيب الشديد.
إحدى روايات أدب السجون المؤلمة بكل تفاصيلها، وإذا كان (تزمامارت) قد هُدِمَ مُنذ التسعينات، فإن شهادة عزيز بنين التي رسمها الطاهر بن جلون بأروع أسلوب لن تُهدَم أبدًا.
شرق المتوسط – عبد الرحمن منيف
هل يمكن أن تُرمِّم إرادةَ إنسانٍ لم تَعُد تربطه بالحياةِ رابطةٌ؟ أنا ذاكَ الإنسان. لا لست إنسانًا، السّجن في أيامِه الأولى حاول أن يَقتُلَ جَسَدِي. لم أكُن أتصوَّر أني احتمل كلَّ ما فعلوه، لكن احتملت. كانت إرادتي هي وحدُها التي تتلقى الضربات، وترُدُها نظراتًا غاضبةً وصمتًا. وظللتُ كذلك. لم أَرْهَب، لم أتراجَع. الماءُ البارِد؟! لـ يَكُن. التعليقُ لمدةِ سبعةِ أيامٍ؟ ليَكُن. التهديدُ بالقتلِ والرَصَاصُ حولي تناثَرَ؟ ليَكُن. كانت إرادتي هي التي تُقَاوم. والآن.. ماذا بقيَ فيّ أو منّي؟
عبد الرحمن المنيف واحدٌ من أبرزِ الأدباءِ العرب، الكاتبُ السعودي يروي لنا في هذه الرواية حكايةَ مواطنٍ عربيٍّ مجهولِ الجنسيةِ والمكانِ والزمانِ أُلقَى به في السجنِ كحالِ أغلَبُ المعارضين.
الضربُ لم يكن كافيًا لكسرِ إرادَته، في الحقيقةِ كانت غيرَ قابلةٍ للكسر.[4]
يا صاحبي السجن – أيمن العتوم
أخطرُ ما في السجنِ أن تفقدَ احترامَك لذاتِك، لأنك إن فعلتَ صارت رقبَتُك بيدِ جلَّادِك، وصرتَ تتقبَّلُ منه الصفعةَ في وجهِ الكرامةِ على أنها قبلةٌ في خدِّ الرضى
هنا يخرج دكتور أيمن العتوم ما في جعبته من مآسي السجن والسّجان، كيف كانت الليالي الظلماء تحيط به، وكيف مضت الأيام في ظلال السجن القاتمة والرهيبة.
إحدى روايات أدب السجون التي ستأخذ خيالك بعيدًا حيث الواقع أقبح بكثير من كل ما قد يرد بخاطرك عن السجون.[5]
شرف – صنع الله إبراهيم
لم يجد الأهلُ وسيلةً للتعبيرِ عن رأيِهم سوى الحجارة، تصوَّرت الشرطةُ أنها تواجِهُ انتفاضةً على الطريقةِ الفَلسطينيةِ، وردَّت بإطلاقِ الرصاصِ على الطريقةِ الإسرائيلية!
للمؤلف صنع الله إبراهيم، صدرت عن دار الهلال 1997، احتلت المركز الثالث في قائمة أفضل مئة رواية عربية.
هى رواية سوداوية إن أمكن لي القول، تناقش أسرار وخبايا السجون المصرية بفسادها وطغيانها، وما يدور داخلها من ظلم وافتراءات، كما تُسلِّط الضوء أيضًا على ما يعانيه الاقتصاد والمجتمع المصريّ من كوارث يشيب لها الولدان.
الرواية مُقسَّمة إلى أربعة فصول:
- الفصل الأول: عن (شرف) الذي دخل السجن بتهمة القتل، حيث قام بقتل سائح أجنبيّ حاول أن ينتهك عرضه
- الفصل الثاني: يحكي قصة طبيب يدعى رمزي متهم بقضية رشوة
- الفصل الثالث: والذي يكشف الجرائم التي ترتكبها شركات الأدوية بحق شعوب العالم الثالث
- الفصل الرابع: هى مسرحية هزلية تُعرض داخل السجن، وهى إسقاط على السياسة المصرية لعصور مختلفة.[6]
الرواية مُشبَّعة بالأحداث التاريخية والاقتصادية والسياسية التي قد تعرفها لأول مرة.
خمس دقائق وحسْب.. تسع سنوات في سجون سورية – هبة الدباغ
لا أتخيل نفسي بعدَ تسعِ سنواتٍ من السجنِ والعذابِ والأمراضِ الجسديةِ والنفسية، تأتي لحظةُ الحريةِ، فأشعرُ بالضياعِ، لا أدري أين أذهبُ، فأهلي جميعُهم قُتِلوا إلا ثلاثة من أخوتي هاربين من جحيمِ الوطنِ، وعائلةٌ نصفُها يعملون لصالِح مخابراتِ النظام! إنه الألمُ في أقسى صورِه.
بهذه الكلمات ختمت هبة الدبا» روايتها «خمس دقائق وحسب.. تسع سنوات في سجون سورية»، التي تحكي معاناتها داخل السجون السورية، ويجسد عنوان الرواية ليلة القبض عليها، عندما طلب منها رئيس المخابرات ان تحضر معه للتحقيق خمس دقائق وحسْب، فعادت إلى بيتها بعد تسع سنوات!
الرواية لا تُسلِّط الضوء على التعذيب داخل السجون بقدر ما تركز على السجين نفسه، وحالته النفسية، وعلاقته بمن حوله، وجدير بالذكر ان هبة الدباغ لم تكن مُتهمة بشيء، فقط كل ما في الأمر أن لها أخًا كان ينتمي لجماعة سياسية، فتم القبض عليها لاستدراجه.
وبعد خروجها من السجن لم تجد أحدًا من عائلتها، فقد تم قتلهم جميعًا بمجزرة حماة 1982، الرواية تحمل ألمًا كبيرًا، والكثير من المآسي التي تتعرض لها الكاتبة، لكنها رائعة. [7]
تزممارت: الزنزانة رقم 10 – أحمد المرزوقي
نعم، كانت معنوياتَنا قد نزلت إلى الحضيض، وكانت أغلى أمنياتِنا هي أن نموتَ موتةً فجائيةً تقينا أهوالَ الاحتضارِ الطويلِ البطيء الذي كان فيه السجينُ ينقلبُ إلى جيفةٍ مُهترئةٍ يتكالبُ على نهشِها البعوضُ والذبابُ وأنواعٌ لا حصر لها من الحشراتِ الطائرةِ والزاحفة!
صدرت هذه الرواية عن دار طارق للنشر، عام 2009، من تأليف أحمد المرزوقي الذي يروي معاناة 18 عام داخل سجن (تزممارت) لتورطه في محاولة انقلاب 1971 ضد ملك المغرب الحسن الثاني، فشلت المحاولة وتمت محاكمته عسكريًا، وترحيلة إلى سجن (تازمامارت)، وهناك تلقَّى أشد أنواع العذاب.
الرواية مؤلمة جدًا، من ضمن المواقف المؤلمة التي يتعرض لها الكاتب، أن يوضع في قبر مظلم، ويُعطى الفتات والماء الملوَّث طيلة 18 عامًا، لا يرى أحدًا ولا أحد يعلم بمكانه.
ورغم هذه المعاناة الشديدة إلا انه كان صبورًا وتحمَّل حتى تم الإفراج عنه في اكتوبر 1991.[8]
وسأبقى أقولُ للجميعِ لا تقربوا السّجنَ.. لا وأنتم سكارَى، ولا أنتم أصحّاء، أعرف أنَّ كلامي لن يلغي السّجونَ، ليس في بلادي، ليس خلال حياتي، و أعرفُ أني قد أعودُ سجينًا ذاتَ يوم؛ لا لأني أسعى إلى ذلك؛ بل لأني مسلوبُ الحقِ بألاَّ أُسجَن إلا بحكمِ القانونِ.. وتحديدًا القانون الشرعيّ الذي يشرّعه شعبي وشعوبُ العالم.
لؤي حسين
كتابة وإعداد: هبة خميس
مراجعة علمية ولُغوية: آلاء مرزوق
تحرير: زياد الشامي
المصادر:
- سلحوت جميل.أدب السجون. دار أطلس للنشر والتوزيع, 2012.
- خليفة مصطفى.القوقعة: يوميات متلصص. دار الأدب, 2008.
- جلون طاهر بن.تلك العتمة الباهرة. دار الساقي, 2004.
- منيف عبد الرحمن.شرق المتوسط. المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 2001.
- العتوم أيمن.يا صاحبي السجن. المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 2012.
- إبراهيم صنع الله.شرف. دار الهلال, 1997.
- الدباغ هبة.خمس دقائق و حسب: تسع سنوات في سجون سورية. 1995.تمت الترجمة بواسطة: بيان خطيب
- المرزوقي أحمد.تزممارت: الزنزانة رقم 10. دار طارق للنشر, 2009.
- حسين لؤي.الفقد (حكايات من ذاكرة متخيلة لسجين حقيقي). دار بتر للنشر والتوزيع.