نفاثات الثقوب السوداء فائقة الكتلة وفيزيائها الغريبة

a

||||

تكمن الثقوب السوداء الهائلة في قلب معظم المجرات، وغالبًا ما توصف بأنها «وحوش»، ولكن على الرغم من هذا، فهي إلى حد كبير غير مرئية، ولإثبات وجودها على الإطلاق، فإن علماء الفلك عادة ما يقيسون سرعة سحب الغاز  التي تدور حول تلك المناطق.

ولكن في بعض الأحيان يمكن لهذه الأجرام أن تعبر عن وجودها من خلال خلق نفاثات قوية تحمل الكثير من الطاقة لدرجة أنها تفوق سطوعًا كل الضوء المنبعث من نجوم المجرة المضيفة.

ونحن نعلم أن هذه (النفاثة النسبية-Relativistic jets) عبارة عن زوجين من تيارات البلازما التي تسافر في اتجاهات معاكسة بسرعات قريبة جدًا من سرعة الضوء. أما البلازما فهي حالة من حالات المادة حيث تكون جسيماتها مشحونة كهربائيًا على الرغم من عدم وجود شحنة إجمالية لها.

النفاثات المتدفقة من ثقب أسود فائق الكتلة بقلب مجرة قنطورس A.

لفترة طويلة اعتبرت الفيزياء التي تحكم هذه النوافير الكونية لغزًا، ولكن الآن لدينا ورقة جديدة نشرت في مجلة Nature، وقد سلطت الضوء على أسباب هذه الظاهرة الغريبة.

ما يجعل النفاثات النسبية استثنائية هي استقرارها المثير للإعجاب، فهي تخرج من منطقة كبيرة مثل أفق حدث، أو كما تسمى منطقة اللاعودة، للثقب الأسود الهائل وتنشر بعيدًا بما فيه الكفاية للخروج من المجرة المضيفة مع الحفاظ على شكلها لفترة طويلة، حيث يصل طولها إلى مليار ضعف نصف قطرها الأوليّ، ولوضع هذا في المنظور، فلك أن تتخيل نافورة مياه تخرج من خرطوم بقطر 1 سم ​​وتبقى دون اضطراب لمسافة 10,000 كم.

وبمجرد أن تنتشر النفاثات على مسافات كبيرة من مصدرها، فإنها تفقد تماسكها وتتحول إلى هياكل متوسعة والتي غالبا ما تشبه أعمدة الدخان، وهذا يدل على أن النفاثات تخضع لنوعًا من عدم الاستقرار بما يكفي لتغيير مظهرها تمامًا.

تصنيف النفاثات

اكتشف الفلكي الأمريكي (هيبر كورتيس-Heber Curtis) أول نفاثة فلكية في عام 1918، حيث لاحظ شعاعًا مستقيمًا متصلًا بنواة المجرة الإهليلجية العملاقة «M87» بخط رفيع من المادة.

رسمة تخيلية لمجرة في قلبها ثقب أسود فائق الكتلة. Credit: NASA

وفي سبعينات القرن الماضي درس الفلكيين في جامعة كامبريدج، بيرني فاناروف وجوليا رايلي (Bernie Fanaroff and Julia Riley) مجموعة كبيرة من هذه النفاثات. ووجدوا أنه يمكن تقسيمهم إلى فئتين، الأولى نفاثات ينخفض سطوعها ​مع زيادة المسافة إلى مصدرها، والثانية نفاثات تصبح أكثر سطوعًا عند حوافها، ويعد النوع الأخير أسطع بحوالي 100 مرة من الأول.

وكلاهما له شكل مختلف قليلًا في نهايته -فالأول يشبه أعمدة نار مشتعلة، والثاني يشبه تيار مائع رفيع ومضطرب، ولا يزال البحث جاريًا لمعرفة سبب وجود نوعان مختلفان من النفاثات.

عندما تتسارع مواد النفاثة بواسطة الثقب الأسود يصل سرعاتها إلى 99.9٪ من سرعة الضوء. فعندما يتحرك جسم ما بسرعة، فإن الوقت يتمدد، وبعبارة أخرى فإن الوقت المقاس داخل النفاثات بواسطة مراقب خارجي يتباطأ (يظهر كأنه يُعرض بالتصوير البطيء)، وذلك كما تنبأت به النظرية النسبية الخاصة لأينشتاين. ونتيجة لذلك تستغرق أجزاء النفاثة المختلفة أوقات متباينة للتواصل مع بعضها البعض -والمقصود بالتواصل هو التفاعل أو التأثير على بعضها البعض- أثناء السفر بعيدًا عن مصدرها، وهذا هو ما يمنع النفاثة من الاضطراب.

ومع ذلك فإن هذا الفقدان من التواصل لا يدوم إلى الأبد، فعندما تخرج النفاثة من الثقب الأسود فإنها تتوسع بانحراف. هذا التوسع يُخفض الضغط  داخل النفاثة، في حين أن ضغط الغاز المحيط بالنفاثة لا يقل بنفس المقدار. في نهاية المطاف فإن ضغط الغاز الخارجي يتغلب على الضغط داخل النفاثة ويؤدي إلى انكماشها، وعند هذه النقطة تقترب أجزاء النفاثة من بعضها لدرجة تمكنهم من التواصل مرة أخرى. وفي هذه الأثناء إذا أصبحت بعض أجزاء النفاثة غير مستقرة، فيُمكن أن ينتقل عدم الاستقرار هذا ليؤثر على الشعاع بأكمله.

وهناك نتيجة أخرى لعملية التوسع والانكماش هذه؛ حيث تؤدي إلى تدفق الشعاع في مسارات منحنية وليست مستقيمة، ومن المرجح أن تعاني التدفقات المنحنية من «عدم الاستقرار الطرد المركزي-Centrifugal instability» مما يعني أنها تبدأ في إنشاء هياكل تشبه الدوامات.

وحتى وقت قريب لم يكن هذا بالشيء الحرج في فيزياء النفاثات الفلكية. والواقع أن عمليات المحاكاة الحاسوبية التفصيلية تبين أن النفاثات النسبية تُصبح غير مستقرة بسبب عدم استقرار الطرد المركزي، الذي يؤثر في البداية فقط على ترابطها مع الغاز المجريّ. فبمجرد انكماشها بسبب الضغط الخارجي ينتقل عدم الاستقرار هذا في جميع أنحاء النفاثة بأكملها، ويعد عدم الاستقرار هذا أمر كارثي للغاية حيث أن النفاثة لا يمكنها الاستمرار عند هذه النقطة وتصبح مضطربة.

وبوضع هذه النتيجة في الحسبان فإننا أصبحنا نفهم بشكل أفضل الاستقرار المثير للإعجاب لهذه النفاثات الفلكية، ويمكن أن يساعد هذا أيضًا في تفسير فئتين غامضتين من النفاثات التي اكتشفهما كلًا من فاناروف ورايلي. كل هذا يتوقف على مدى البعد التي تصل إلية النفاثة بعيدًا عن المجرة المضيفة قبل أن تُصاب بالاضطراب. ولقد بنيت محاكاة حاسوبية لهذه النفاثات على أساس فهمنا الجديد لفيزياء هذه الأشعة الكونية، اتضح أن هذه النفاثات المكتشفة تشبه إلى حد كبير هذان النوعيين واللتين نراهما في الملاحظات الفلكية.

وهناك الكثير لمعرفته عن تلك الوحوش البرية الضخمة التي تقطن مركز المجرات، ولكن شيئًا فشيئًا نقوم بكشف أسرارهم ويتبين لنا أنهم يخضعون تمامًا للقوانين ويمكن التنبؤ بهم.

 

ترجمة: محمد عزت

مراجعة: محمد المصري

تدقيق لغوي: إسراء عادل

المصدر:

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي