يميل كُتَّاب الماضي المقدَّسون إلى افتراض الثَّبات التَّعبيريِّ في مخيِّلة قرَّائهم؛ فيظهر دوستويفسكي دائمًا في نفس الهالة من الهيستيريا المرضيَّة السَّاحرة، وبروست في نفس الإطار المخمليِّ من التَّفتُّح الشُّعوريِّ مفرط التَّناغم، وبالمثل يمتلك أنطون تشيخوف -الَّذي كانت مسيرته المهنيَّة القصيرة عظيمةً كأيٍّ من هؤلاء- لهجته المميِّزة الخاصَّة وطريقته.
غير أنَّ الأثر الَّذي تتركه طريقة تشيخوف محيِّرٌ بغرابةٍ، حيثُ يكتب مُقدِّمًا التَّحفُّظ والتَّردُّد بدلًا من «تفرُّد الشَّخصيَّة»، وسلسلةً من الحالات المزاجيَّة عوضًا عن موقفٍ واضحٍ من الحياة، حتَّى موقف عدم اليقين. وهذه المراوغة -وهي سمةٌ تُميِّز حياته وأعماله كليهما- هي جزءٌ كبيرٌ ممَّا يعطيه جاذبيَّته القويَّة، فضلًا عن حداثته اللَّافتة.
يبدو أنَّ أدب تشيخوف يكسر عصاه مثل بروسبيرو -شخصيَّة شكسبير– نابذًا سحر الخديعة والاحتفال والمثاليَّة، ويواجهنا -للمرَّة الأولى- بانعكاسٍ لأنفسنا في اعتياديَّتنا البسيطة وغرابتنا الغامضة.
نشأة أنطون تشيخوف وأثرها على كتاباته
كانت الاعتياديَّة -النَّسيج الاجتماعيُّ بشكله العمليِّ الأكثر قتامةً- إلى حدٍّ ما حقَّ أنطون المكتسب منذ الولادة، فقد وُلد عام (1860) في تاجونروج، وهي بلدةٌ ريفيَّةٌ تطلُّ على بحر آزوف، يقال أنَّها أكثر البحار ضحالةً على الكوكب، ويظهر هذا التَّابِع المتفرِّع من البحر الأسود في صور الأقمار الاصطناعيَّة بلونٍ رماديٍّ موحِلٍ، معاكسًا للَّازورديَّة العميقة للبحر الأسود نفسه.
وما إذا كان ذلك قد أثَّر على الظِّلِّ الصَّامت لنثر تشيخوف -الَّذي وصفه نابوكوف بأنَّه «مسحةٌ تتوسَّط لون سياجٍ قديمٍ وسحابةٍ قريبةٍ»- فالتَّاريخ لا يُثبِتُ ذلك، لكن بات من الواضح أنَّ المدينة بحدِّ ذاتها أصبحت عنصرًا رئيسيًّا في مخيِّلته، مكوِّنةً قالِبًا للخلفيَّات الرِّيفيَّة السَّخيفة الَّتي تُمثِّل ضدَّها الكثير من شخصيَّاته قصصها الدِّراميَّة، المتمثِّلة في مواجهةٍ مشؤومةٍ أو خضوعٍ حزينٍ.
كان جدُّ أنطون عبدًا اشترى حرِّيَّة عائلته، أمَّا والده (بول) فكان يدير متجر بقالةٍ عامًّا حيث تجمَّع مجتمع بلدة تاجانروج؛ لشراء الأرز والقهوة والبارافين ومصائد الفئران والأمونيا والسَّكاكين والفودكا، والَّذين خدعهم المالك بجدارةٍ.
تسجِّل تقاليد الأسرة حادثةً عُثر فيها على جُرَذٍ غارقٍ في برميلٍ من زيت الطَّهي، وبدلًا من إلقاء الزَّيت، ذهب الأب لكاهنٍ ليُطهِّر الزَّيت واستمرَّ في بيعه، لتكتمل الحلقة التشيخوفيَّة بذروةٍ للأحداث، لما ليس حدثًا جللًا في نفس الوقت (حيث يستمرُّ العمل كالمعتاد)، مع إضاءةٍ قاسيةٍ على شخصيَّة الأب؛ رجلٌ مُرهِبٌ متعصِّبٌ دينيًّا بالإضافة لكونه فاشلًا كلِّيًّا، حيث أفلس عام (1876) وفرَّ إلى موسكو مع بقيَّة عائلته، تاركًا أنطون ذا الأعوام السِّتَّة عشر ليعول نفسه في بلدة تاجانروج.
أصبح الأب أيضًا عنصرًا مولِّدًا رئيسيًّا في مخيِّلة ابنه، ويمكن الشُّعور بحضوره في قصصه من خلال شخصيَّات الأب المستبدِّ في رواياته القصيرة «حياتي» و«ثلاث سنواتٍ»، وشخصيَّة (جايكوب) المتعصِّب الجاهل في رواية «القاتل».
معتقدات تشيخوف
ينغمس طيف الأب فيما يمكن أن يُسمَّى القطب السَّلبيَّ في رؤية تشيخوف للواقع: قوَّة القمع والعقليَّة التَّافهة والقسوة الصَّريحة الَّتي تتجلَّى بشكلٍ دوريٍّ في قصصه، مجتاحةً الشَّخصيَّات على هيئة حالات كآبةٍ مفاجئةٍ أو فراغٍ تامٍّ أو دافعٍ لوحشيَّةٍ بشعةٍ مثل قتل الأطفال المشهور في قصَّة «الفجوة».
وكإنسانٍ -طبيبٍ بذل قصارى جهده لمساعدة الفقراء والمحتاجين- استوحش تشيخوف بوضوحٍ هذا الجانب من الحياة؛ فكانت العديد من أعماله المشهورة إمَّا استنكارًا لها أو دفاعاتٍ عن نقيضها، وحدَّد هذا النَّقيض أساسًا على أنَّه الثَّقافة والعقلانيَّة والتَّقدُّم العلميِّ.
ويُذكر ردُّ أنطون الشَّهير على تولستوي، الَّذي بجَّله أنطون تشيخوف كروائيٍّ لكنَّه رفضه كمُعلِّمٍ: «يخبرني المنطق والعدل أنَّ هناك حُبٌّا للإنسانيَّة متمثِّلًا في الكهرباء والبخار أكبر ممَّا هو في العفَّة والنَّباتيَّة»، في حين أنَّ الأسطر المقتبسة كثيرًا من رسالته للشَّاعر أليكسي بليشييف هي على الأرجح أوضح تعبيرٍ «لمعتقداته» فكانت: «أطهر مقدَّساتي هو جسد الإنسان، والصِّحَّة، والذَّكاء، والموهبة، والإلهام، والحبُّ، والحرِّيَّة المطلقة؛ حرِّيَّةٌ من العنف والباطل مهما ظهرا».