وهج سانت إلمو

سانت إلمو

 

يشاهد بعض الناس عقب العواصف الرعديّة وهجًا يضيء باللون الأزرق وخاصّةً على أطراف الأجسام المُدبّبة وأجنحة الطائرات، كان البحّارة قد عرفوا قديمًا هذا الضوء حين رأوه يتشبّث بصواري السفن إلّا أنّ تفسير هذه الظاهرة ظلّ عسيرًا مُبهمًا على مدى قرون، ظنّ خلالها البعض أنّ الآلهة والقدّيسين هم من يُشعلون تلك النار الزرقاء الغامضة، إلى أن توصّل العلماء لفهم بنية المادّة خلال القرن ونصف القرن الماضيين، وأدركوا أنّ السبب في حدوث هذه الظاهرة لا يرجع إلى أيّ من التفسيرات الدينيّة المتعلّقة بالآلهة والقدّيسين بل لإحدى حالات المادّة الخمس وهي حالة «البلازما».

 

قديمًا اعتقد الإغريق والرومان بوجود توأمين نصف آلهة هما (كاستور) و(بولوكس) ويعنيان بإنقاذ البحّارة خلال العواصف من الغرق، وأنّهما حين يظهران يُرسلان للبحّارة إشارات مضيئة خافتة زرقاء اللون، عُرفت هذه الظاهرة فيما بعد بظاهرة «وهج القديس إلمو» حيث استمدّت تلك التسمية من اسم (القديس إيراسموس) أو (القديس إلمو) الذي عاش في القرن الثالث الميلاديّ واشتهر باعتباره شفيع البحّارة، فقد كانوا يصلّون إليه في أوقات العواصف والكوارث، وينظرون إلى الضوء الأزرق المتراقص على أطراف قواربهم وصوت الأزيز المُنبعث منها باعتباره فألًا طيّبًا يبشّرهم بالنجاة.

تفسير ظاهرة وهج سانت إلمو

تمكّن الكيميائيّ والفيزيائيّ الإنجليزيّ (ويليام كروكس) عام 1879 من الحصول على ما أسماه بـ«المادة المشعّة» من خلال تجاربه باستخدام الصمام المفرغ vacuum tube (وهو أنبوب مصنوع عادةً من زجاج مُحكم الإغلاق وتمّ تفريغه تمامًا من الهواء بتطبيق جهد كهربيّ مرتفع يصل إلى 200 فولت بحيث يمكن التحكّم في سريان الإلكترونات من خلاله، وقد استخدمت لتقويم التيّار الكهربيّ المتردّد وتحويله إلى تيّار مستمرّ، وغير ذلك من التطبيقات في الدوائر الإلكترونيّة [1])، ثمّ جاء اكتشاف الإلكترون بعد عقدين من الزمان لتتبيّن الأوساط العلميّة حقيقة أن المادّة لا تتكوّن فقط من ذرّات مُتعادلة الشحنة الكهربيّة؛ بل أنّ بداخلها أجسامًا أصغر مشحونة كهربيًّا يمكن في ضوئها فهم أسباب توهّج مادّة كروكس المشعّة، ومن ثمّ انفتح المجال أمام فيزياء البلازما.

ما هي حالة البلازما؟

تصل المادّة إلى حالة البلازما حين تكتسب الإلكترونات في ذرّات الغاز متعادلة الشحنة مزيدًا من الطاقة فتتحرّر تلك الإلكترونات من الذرّة ويتحوّل إلى غاز مُتأيّن مشحونٍ كهربيًّا، ويمكن الحصول على حالة البلازما باستخدام الحرارة وبطرق أخرى، فمثلًا: عند تسخين الثلج في الحالة الصلبة فإنّ الروابط الجزيئيّة بين البلّورات تتفكّك نظرًا لزيادة سرعة حركة الجزيئات ويتحوّل إلى ماء في حالة سائلة، وعند الاستمرار بتسخين الماء حتّى درجة الغليان تتحرّر جزيئات  الماء وتزداد سرعتها ويتحوّل إلى بخار ماء غازي متعادل الشحنة الكهربيّة، وعند الاستمرار في تسخين بخار الماء لأكثر من 12000 درجة مئويّة يمكن تحرير الإلكترونات في ذرّات بخار الماء فتصبح أيّونات مشحونة، وهكذا تتحوّل المادّة من غاز يحتوي على سحابة من الجسيمات المتعادلة كهربيًّا، إلى بلازما تحتوي على سحابة من الجسيمات المشحونة كهربيًّا.

 

يعتبر تحرير إلكترونات الغاز باستخدام الكهرباء أسهل من إجراء تلك العمليّة باستخدام الحرارة للحصول على حالة البلازما، وهذا بالضبط ما يحدث في ظاهرة وهج سانت إلمو.

 

أثناء العواصف الرعديّة تنتج المزيد من الإلكترونات نتيجة الاحتكاك بين أجزاء السحب، وقد ينشأ عنها مجالات كهربيّة قويّة تصل في بعض الأحيان إلى الأرض. نظريًّا، يمكن للمجال الكهربيّ القويّ بما يكفي أن يحرّر الإلكترونات في ذرّات الهواء في أيّ جزء من الأرض فيؤدّي إلى تأيُّنها وتكوين البلازما، ولكن من الناحية العمليّة؛ تميل النقاط المدبّبة (مثل صاري السفينة وأجنحة الطائرة) إلى تركيز المجال الكهربيّ فيؤدّي إلى تحرير الإلكترونات من ذرّات الهواء تاركة وراءها الكثير من ذرّات الهواء المتأيّنة المشحونة بالقرب من تلك الأطراف المدبّبة بشكلٍ خاص.

 

يظهر وهج سانت إلمو حول الصاري أو جناح الطائرة بمجرّد أن يتحوّل ذلك الجزء من الهواء من الحالة الغازيّة إلى حالة البلازما خلال عمليّة تُعرف باسم (التفريغ الهاليّ – corona discharge) حين يحرّك المجال الكهربيّ الجسيمات المشحونة لتتصادم مع جسيمات متعادلة فتؤدّي إلى إثارتها بدورها، تنبعث من الذرّات المُثارة فوتونات مضيئة باللون الأزرق حتى تعود إلى حالتها المستقرّة مرّة أخرى.

 

تقول (كريستينا لينش) عالمة فيزياء البلازما في كلّية دارتموث في نيو هامبشاير:

تخيَّل أن بعض الأولاد المتنمّرين يمرّون في فناء المدرسة ويركلون جميع الأطفال، بحيث يصبح الجميع غاضبين وبحاجة إلى استعادة الهدوء، وكذا الذرّات المُثارة تصبح بحاجة إلى الاسترخاء، فتبعث كل منها فوتونًا من الضوء له طاقةٌ ولونٌ مُعيّنان، وبالنسبة لغازي النيتروجين والأكسجين الغالبين على مكوّنات الغلاف الجوّي للأرض فإنّ الفوتونات المنبعثة يصاحبها وهج يضيء باللونين الأزرق والبنفسجي على التوالي.»

الفرق بين وهج سانت إلمو وظاهرة البرق

تميل ظاهرة وهج سانت إلمو للحدوث خلال الظروف العاصفة تمامًا مثل ظاهرة البرق، كما تضيء ضربات البرق بألوان زرقاء وبنفسجيّة لنفس السبب، بيد أن ضربات البرق قد تضيء باللون الأبيض وبمزيج من الألوان في بعض الأحيان. وعلى عكس ضربات الصواعق التي قد تُشكّل خطرًا مهدّدًا للحياة، كما قد تتسبّب في بعض الخسائر الماديّة والحرائق، فإن وهج سانت إلمو لا يُشكّل أيّة خطورة مباشرة على حياة البحارة والجوّالة أكثر من خطورة العواصف ذاتها. ومع ذلك يراعي المهندسون عند تصميم المعدّات الكهربائيّة وخاصّة خطوط نقل الطاقة ظاهرةَ التفريغ الهاليّ منعًا لإهدار الطاقة. لذا؛ تُزوَّد خطوط نقل الطاقة بعيدة المدى بحلقاتٍ معدنيّة تُثبّت حول الأجزاء المدبّبة مثل أطراف الأبراج وقمم الأعمدة، تعمل على منع تركيز مجالات كهربيّة قوية بما يكفي لإحداث البلازما.

 

كما يخلط البعض بين وهج سانت إلمو وظاهرة البرق الكرويّ نادرة الحدوث والتي تُعتبر أسبابها غير مفهومة تمامًا حتى الآن.

 

أما عن ظاهرة الشفق القطبيّ فتشترك مع وهج سانت إلمو في كون الأضواء المُنبعثة ناشئة عن انبعاث فوتونات من الضوء من استرخاء الذرّات المثارة، إلّا أنّهما يختلفان في مصدر الإلكترونات التي تؤدّي لإثارة ذرّات الهواء فبينما تنتج هذه الإلكترونات من الرياح الشمسيّة في الشفق القطبيّ فإنّها ناتجة عن السحب المشحونة كهربيًّا في حالة وهج سانت إلمو.[2]

تأثير الرياح على وهج سانت إلمو

لاحظ العلماء فيما سبق أنّ وهج سانت إلمو المُتكوّن حول الهياكل المؤرّضة كهربائيًّا (المُتّصلة بالأرض كالأشجار وأبراج نقل الكهرباء) يزداد قوّة، ويتوهّج بشكل أكثر سطوعًا خلال الظروف الجوّية العاصفة، حيث تعمل الرياح على زيادة تأيُّن الهواء المحيط. ومؤخّرًا وجد مهندسو الطيران في معهد ماساتشوستس التكنولوجيّ بالولايات المتّحدة الأمريكيّة أنّ قوّة الرياح ذات تأثيرٍ عكسيّ على مدى سطوع وهج سانت إلمو حول الأطراف غير المؤرّضة مثل الطائرات وبعض شفرات توربينات الرياح. ففي بعض التجارب الأخيرة التي أُجريت في نفق “الأخوان رايت” للرياح التابع لمعهد ماساشوستس التكنولوجيّ قبل تفكيكه في عام 2019، في دراسة نُشرت في مجلّة الأبحاث الجيوفيزيائيّة (the Journal of Geophysical Research) لاحظ الباحثون نموذجًا غير مؤرّض كهربائيًّا لجناح طائرة، ووجدوا أن إضاءة الوهج تخفت وتقلّ سطوعًا كلّما زادت قوّة الرياح التي تتعرّض لها تلك الأطراف من الهياكل.[3]

 

 

 

 

 

 

 

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي