أدب المراسلات في الأدب العربي

1475687696_literaturnyy-konkurs

أولًا: أدب المراسلات في العصر الجاهلي

    لا يعد فن الرسائل فنًا حديثًا، بل ترجع أصوله إلي العصر الجاهلي، ولما أمعنا النظر وجدنا الرسائل الشعرية تستعصي على الحصر عددًا، وتتنوع أسلوبًا، وتبلغ مستوىً فنيًا رفيعًا لأنها جاءت في باب الشعر. وقد شكلت تلك الرسائل البدايات الحقَّة لتكوين هذا النوع الأدبي الذي نما وتطور لاحقًا، وأصبح غنيًا بالرسائل النثرية في عصور التدوين المتأخرة. لا جدال حول حاجة المجتمع، أي مجتمع، إلى الرسائل لتدبير شئون حياته، وهذه الرسائل تبدأ في العادة وظيفية الطابع وبسيطة، ثم تؤول بعد ذلك إلى رسائل فنية في مرحلة تالية. فكان لابد للمجتمع العربي في العصرالجاهلي أن يشتمل في منظومته الثقافية على وجود الرسائل. وقد أكد ذلك معظم الدارسين الذين تصدوا لبحث الحياة الأدبية في ذلك المجتمع بصورٍ شتى.

    حيث يؤكد الدكتور «ناصر الدين الأسد» المفكر ومؤرخ الشعر الجاهلي كثرة الرسائل الجاهلية وهذا أثناء تتبعه موضوعات الكتابة وأدواتها في العصر الجاهلي فيقول: «ومن يقرأ أخبار الجاهلية في كتب الأدب أو كتب التاريخ يعجب لكثرة رسائلهم آنذاك، ويكاد يلمس  أن كتابة الرسائل في الجاهلية أمرًا مألوفًا ميسورًا شائعًا في شتى الشؤون» ويلحظ أنه يذكر نماذج من الرسائل دون أن يعني بمدى فنيتها. فهو معني في المقام الأول بإثبات وجود الكتابة في حياة الجاهلية، وموضوعاتها هي، بجانب الرسائل، الكتب الدينية والعهود، والمواثيق، والأحلاف، والصكوك، ومكاتبة الرقيق. (1)

    إذًا عرف العرب في جاهليتهم الكتابة والتدوين، وكانت لديهم رسائل لكن ليست فنية بحسب ناصر الدين الأسد، وإلى مثل هذا ذهب « شوقي ضيف» الأديب والعالم المصري اللغوي حيث قال: « ليس بأيدينا وثائق جاهلية صحيحة تدل على أن الجاهليين عرفوا الرسائل الأدبية وتداولوها، وليس معنى هذا أنهم لم يعرفوا الكتابة، فقد عرفوها، غير أن صعوبة وسائلها جعلتهم لا يستخدمونها  في الأغراض الأدبية الشعرية والنثرية، ومن ثم استخدموها فقط في الأغراض السياسية و التجارية». (2)
ويمضي شوقي ضيف مؤكدًا ذلك ولافتًا النظر إلى وجود فنون نثرية أخرى، فـ يقول: «وإذا كنا  نفتقد الأدلة المادية على وجود رسائل أدبية في العصر الجاهلي، فمن المحقق أنه وُجدت عندهم ألوان مختلفة من القصص والأمثال والخطابة وسجع الكهان». (3)

هل وصل إلينا شيءٌ من الشعر الجاهلي؟

    وصل إلينا كم هائل منه حتى ألفت فيه الكتب والشروحات العديدة، هناك من قال بأنه جاء عن طريق الرواية الشفهية، ولكن بالرغم من هذا لا نستطيع أن ننفي وجود الكتابة في العصر الجاهلي. فالكتابة عرفت في العصر الجاهلي بدليل ما وجدناه من إشارات دالة على وجودها.

ففي شعر «إمرىء القيس» ما يثبت لنا ذلك فيقول:

لِمَنْ طَلَلٌ أبْصَرتُهُ فَشَجَاني, كخط زبور في عسيب يمانِ.

ويقول أيضًا:

أتَتْ حججٌ بَعدِي عليها فأصبَحَتْ كَخطٍ زبورٍ في مصاحفٍ رهبانِ

 

ويقول «طرفة بن العبد»:

كسُطُورِ الرقِ رُقْشَة   الضُحَى مُرَقش يشُعه

    فمن خلال هذه الأبيات السابقة يتبين لنا أن الكتابة كانت معروفة لدى الجاهليين آنذاك، وهذا من خلال ما ورد فيه من دلالات، تدل على وجود أدوات الكتابة وهي: الخط، الزبور، العسيب، المصاحف، السطور، والأديم، والقلم. وعلى الرغم من وصول عدد كبير منه إلا أنه من المؤكد أن ذلك لم يكن فقط موروثنا من الأدب الجاهلي حيث اعتمد في المقام الأول كما ذكرنا على الرواية الشفهية، وكان عدد المدونين محدودًا، وحتى الرسائل الأدبية كانت قليلة مقارنة بالمعاهدات والصكوك، التي كانت تعد أساس حياة العرب في الجاهلية.

الشك في وجود النثر في العصر الجاهلي

    ولعل كثير من النقاش الدائر حول الرسائل الجاهلية يُعبر عنه من خلال مسألة الفنون النثرية الجاهلية عامة، فالدارسون ينقسمون حول تلك الفنون إلى فريقين ، أولهما: ينكر وجود فن نثري جاهلي؛ فبما أن القوم كانوا أميين فأجدر بهم أن لا يعرفوا النثر الفني البتة. ويقف على رأس هؤلاء «طه حسين» الذي يقول: «والواقع أننا لا نستطيع بحال من الأحوال –مهما نحرص على أن نكون من أنصار العصر الجاهلي وعشاقه- أن نطمئن إلى أن هذا العصر له نثر فني». (4)
ويؤكد رأيه هذا مرة أخرى فيقول: «فأول القرن الثاني للهجرة هو الذي شهد ظهور الحياة العقلية، وهو الذي شهد مظهر هذه الحياة العربية، وهو نشأة النثر الفني». (5)

    ويقف على النقيض من ذلك «زكي مبارك»، الذي يمثل الفريق الآخر حيث يؤيد وجود النثر الفني بأرقى صوره في العصر الجاهلي قائلًا: «وخلاصة ما أراه أنه كان للعرب قبل الإسلام نثر فني يتناسب مع صفاء أذهانهم، وسلامة طباعهم، ولكنه ضاع لأسباب أهمها شيوع الأمية، وقلة التدوين، وبُعد ذلك النثر عن الحياة الجديدة التي جاء بها الإسلام ودونها القرآن». ولما كان مبارك لا يمتلك الدليل على وجود ذلك النثر الفني، فإنه يقدم حجة عقلية يراها على درجة كبيرة من الإقناع هي «أن لدينا شاهدًا من شواهد النثر الجاهلي يصح الاعتماد عليه وهو القرآن ولا ينبغي الاندهاش من عد القرآن أثرًا جاهليًا، فإنه من صور العصر الجاهلي: إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره، وهو – بالرغم مما أجمع عليه المسلمون من تفرده بصفات أدبية لم تكن معروفة في ظنهم عند العرب – يعطينا صورة للنثر الجاهلي وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكُتّاب والخطباء». ومع هذا فإنه قلقٌ حيال النثر الفني الجاهلي لضياع مادته حيث قال: «إننا لا نستطيع أن نعطي النثر الفني في العصر الجاهلي لونًا نطمئن إليه، لأن أكثر ما نسب إلى الجاهلية غير صحيح». (6)

صعوبة الوصول لكتابات الجاهلية

    والباحث في العصر الجاهلي يلقي عناءً كبيرًا من مصادر بحثه، وذلك لأن الحديث عن الجاهلية -في المصادر العربية- لم يكن يُقصد لذاته: فتسبر أغواره ويلم شتاته؛ وإنما كان يقصد لغيره من موضوعات العصور الإسلامية التي كان المؤلفون يكتبون فيها، فيستطردون للحديث عن الجاهلية: للتمثيل والاستشهاد، أو للمقابلة والموازنة، أو للوعظ والإنذار، أو للتمهيد بين يدي حديثهم الأصيل تمهيدًا موجزًا يدخلون منه إلى الحديث عما يقصدون. فيكاد يكون حديثهم عن الجاهلية حديثًا عابرًا، منثورًا نثرًا متباعدًا في تضاعيف كتبهم وثنايا رسائلهم. ومن هنا كان لا بد للباحث في العصر الجاهلي من أن يقرأ الكتاب العربي قراءة متمعنة دقيقة، يجرده فيها جردًا كاملًا من عنوانه حتى ختامه، لا يغنيه عن ذلك تبويب الكتاب، ولا هذه الفهارس الدقيقة الشاملة التي يصنعها المحدثون للطبعات الحديثة من تلك الكتب القديمة. وقد يقرأ الدارس الكتاب ثم لا يخرج منه بشيء، أو يخرج بخبر أو خبرين لعله كان قد استخرجهما من كتاب غيره، فلا يضيفان إليه جديدًا.

    أما عن الكتابات التي وصلت إلينا فكانت ثلاث أرسلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى «المقوقس» عظيم القبط في مصر، وإلى «المنذر بن ساوى»، وإلى «النجاشي» في الحبشة. وقد عثر على ما يظن أنه الأصول الحقيقية لهذه الرسائل. وقد كتب الدكتور «حميد الله» بحثًا قيمًا في مجلة “ISLAMIC CULTURE” عرض فيه صورتين لرسالتي المنذر والمقوقس، وتحدث مفصلًا القول في اعتراضات بعض المستشرقين على صحة هذه الرسائل وأصالتها، وفندها جميعها، وانتهى إلى أن هذه الاعتراضات لا تثبت أمام البحث العلمي الدقيق. ومع ذلك فهو، في بحثه السليم، يتوقف توقف العالم المتثبت، فلا يقطع بصحة هذه الأصول، بل يكتفي برد تلك الشبهات التي حامت حول صحتها، ثم يدعها قائمة تنتظر نفيًا أو إثباتًا جديدين.

    فقد كان العرب إذن يكتبون في جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذي عرفه بعد ذلك المسلمون. وقد أصبحت معرفة الجاهلية بالكتابة، معرفة قديمة، أمرًا يقينيًّا، يقرره البحث العلمي القائم على الدليل المادي المحسوس؛ وكل حديث غير هذا لا يستند إلا إلى الحدس والافتراض. وفي النهاية يقر «شوقي ضيف» أن الشعر الجاهلي هو الفن الأسمى لدى الجاهليين، وأن النثر تابع له، والشعر يتناسب وطبيعة حياتهم ، ويمكن له أن يتداول حفظًا بالرواية، لذلك لم تكن لدى القوم رسائل أدبية محبرة. فإن وجد بعض النثر المكتوب فلعله يكتب لغايات عملية وضرورات ملحة. (3)

    ولما كان الإنسان، كل إنسان، يحرص على حفظ كلامه إن كان خطيرًا، فإنه لا بد من أن يجترح طريقة لحفظ ذلك الكلام، فإذا تعسر عليه بالتدوين والكتابة، فليلجأ إذًا أصحاب الرسائل الجاهلية إلى صياغتها صياغة شعرية لأنهم يرونها على جانب من الأهمية، وليحفظوها في ديوانهم – لأن الشعر ديوان العرب – وليجعلوها جزءًا من علمهم وحكمهم. إن “أحمد زكي صفوت” حين جمع رسائل العرب في الجاهلية في كتابه «جمهرة خطب العرب» لم يعثر إلا على اثنتي عشر رسالة منها أربعٌ شعرية، وقد قال في تقديمه لها: إنَّ جمهرة العرب في هذا العصر كانت متبدية، فلم تكن الكتابة فيها فاشية، ولذا كانوا يعتمدون في تراسلهم على المشافهة، فيبعثون برسالاتهم شفيهة مع أمناء ينتجبونهم لإبلاغها. (7)
وقد جاءت الرسائل في العصر الجاهلي شعرية البناء انسجامًا مع المرحلة الشفوية التي نما شعر العرب في ظلها وترعرع. فتحققت لها بذلك صفة الأدبية من هذا الباب، وصارت رسائل فنية ممتازة.

يقول «حاتم الطائي»:

أَلا أَبلِغا وَهمَ بنَ عَمروٍ رِسالَةً

فَإِنَّكَ أَنتَ المَرءُ بِالخَيرِ أَجدَرُ

رَأَيتُكَ أَدنى الناسِ مِنّا قَرابَةً

وَغَيرَكَ مِنهُم كُنتُ أَحبو وَأَنصُرُ

إِذا ما أَتى يَومٌ يُفَرِّقُ بَينَن

بِمَوتٍ فَكُن يا وَهمُ ذو يَتَأَخَّرُ

 

    فالنص على كلمة الرسالة صريح في البيت الأول، والصيغة الافتتاحية بـ «ألا أبلغا» كذلك دالة على الرسالة، والتصريح باسم المرسل إليه وهو «وهم بن عمرو» لا يدع مجالًا للشك في كون هذه رسالة شعرية من «حاتم الطائي» إلى «وهم بن عمرو»، وقد جاءت صياغتها مختصرة وموفية بالغرض، بحيث يسهل حفظها، ومن ثم نقلها إلى المرسل إليه. (7)
ولـ «حاتم الطائي» نفسه رسائل أخرى في ديوانه، يبدأ في كل منها بكلمة صريحة تدل على أنها رسائل على غرار سابقاتها.

إعداد: نهى عبد السميع
مراجعة وتحرير: آلاء مرزوق

المصادر 

1- ناصر الدين الأسد. مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية. 7 ط. 1. دار المعارف, 1988.

2- شوقي ضيف. تاريخ الأدب العربي( الجزء الأول ) العصر الجاهلي. 10 1. دار المعارف, د.ت.

3- شوقي ضيف. الفن ومذاهبه في النثر العربي. 13 ط. دار المعارف, د.ت.

4- طه حسين. في الأدب الجاهلي. 1, د.ت.

5- طه حسين. من حديث الشعر والنثر. 1, د.ت.

6- زكي مبارك. النثر الفني في القرن الرابع. 1, د.ت.

7- أحمد زكي صفوت. جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة. المكتبة العلمية بيروت-لبنان, د.ت.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي