«ثِمار غريبة» لبيلي هوليداي: الأغنية التي قتلت صاحبتها

«ثمار غريبة»: الأغنية التي قتلت صاحبتها

يذكرنا مقتل (چورچ فلويد – George Floyd) وما ترتب عليه من مظاهرات واحتجاجات واسعة في الولايات المتحدة الأمريكية بأغنية بيلي هوليداي «ثِمار غريبة».

 

تُثْمِر أشجار الجنوب ثِمار غريبة

تَنْبُت من بين أوراق وجذور بلون الدم:

أجساد سوداء تتدلى، تتأرجح مع ريح الجنوب –

ثمار غريبة تتدلى من أشجار الحَوْر.

مشهد رعوي للجنوب النبيل

ولعيون منتفخة وأفواه ملوية.

عبق زهر الماجنوليا الحلو العليل

ما يلبث أن تغطيه رائحة اللحم المتفحم.

ههنا ثمار تُرِكَت للغربان لتنهشها،

وللمطر ليغمرها،

وللريح لتعريها،

تُرِكَت في الشمس حتى تتعفن

وتتساقط عن شجرها.

حصاد غريب ومُرّ ههنا.

غنت مغنية الچ‍از الأمريكية (بيلي هوليداي – Billie Holiday) (١٩١٥ – ١٩٥٩) أغنية «ثِمار غريبة» (Strange Fruit) -والتي كتب كلماتها الشاعر اليهودي الشيوعي (أبيل ميروبول – Abel Meeropol)- لأول مرة في عام ١٩٣٩ لإدانة الوحشية والعنصرية الممنهجة التي كان يتعرض لها السود في جنوب أمريكا. كانت بيلي متعاقدة حينها مع شركة (كولومبيا – Colombia) للتسجيلات، إلا أن بيلي لم تنصع لرفض الشركة تسجيل تلك الأغنية، تاركة إياها لتسجل الأغنية مع شركة أخرى مستقلة، هي شركة (كومودور ريكوردز – Commodore Records). 

«ثمار غريبة»: الأغنية التي قتلت صاحبتها
اسطوانة «ثِمار غريبة» من تسجيل شركة «كومودور ريكوردز»

تقول بيلي هوليداي في مذكراتها عن تلك الأغنية: «كانت تذكرني بموت بوب»، في إشارة إلى والدها كلارينس هوليداي، الذي مات في عمر التاسعة والثلاثين بمرض رئوي حاد بعدما رفضت مستشفى بولاية تيكساس علاجه بحجة أنها مستشفى مخصصة «للبيض فقط». «على الرغم من ذلك، كان علي أن أستمر في غنائها، لأن حتى بعد مضي عشرون عامًا على موت بوب، لا تزال نفس الأشياء التي قتلته تحدث في الجنوب.» 

كانت الأغنية على قدر من الأهمية عند بيلي هوليداي لدرجة أنها وضعت شروط لتأديتها على المسرح: كانت تختتم عروضها الغنائية بتلك الأغنية، بعد أن يتم إيقاف كل نادل وعامل عن خدمة الحضور، وإطفاء جميع الأضواء باستثناء ضوء واحد وحسب يتم تسليطه على وجهها، قبل أن تغمض عينيها، وتبدأ في الغناء:

«تُثْمِر أشجار الجنوب ثمار غريبة». كان وقع هذه الأغنية على المستمعين مختلف عن وقع أي أغنية چ‍َاز أخرى بطبيعة الحال؛ فلم تكن أغنية رومانسية عن لقاء حبيبين أو فراقهما مثلًا. كانت علامة فارقة في تاريخ موسيقى الچ‍َاز. «تَنْبُت من بين أوراق وجذور بلون الدم». يتساءل الحضور: ما هذا؟ «أجساد سوداء تتدلى، تتأرجح مع ريح الجنوب». هل تلك «الأجساد السوداء» مشنوقة؟ هل هذه أغنية عن إعدام السود بشنقهم وحرقهم دون محاكمات؟ تخفت أصوات الأكواب والمعالق. تلتفت كل الأنظار نحو بيلي. تُنهي بيلي أغنيتها أخيرًا بآهة طويلة: «حصاد غريب ومُرّ ههنا»، ثم ينطفئ الضوء فجأة. وعند عودة الأضواء، يكون المسرح فارغًا. هل تصفق منبهرًا بشجاعة وقوة الأغنية والحالة الشعورية التي تخلقها كلماتها؟ أم ترجع إلى الوراء في مقعدك متململًا وتقول: أتسمون هذا ترفيه؟

لم يكن الغرض من تلك الأغنية الترفيه بأي حال من الأحوال؛ كانت «أول وأهم أغنية معارضة صريحة في تاريخ الموسيقى الأمريكية»، كما يقول الكاتب في مجال موسيقى الچ‍َاز (لينارد فيذر – Leonard Feather): «كانت أول صرخة ضد العنصرية يسمع صداها بحق».

 كانت كلمات الأغنية صادمة لجمهور بيلي هوليداي الذي كان معظمه من البيض، فكان رد الفعل عليها ضاريًا. على الرغم من أن الكثير من الناس كانوا على دراية بالإعدامات بدون محاكمات (lynching) التي يلقاها الأفارقة الأمريكيين في الجنوب، كان هناك معارضة وسط البيض ضد إنهاء تلك الممارسات في الجنوب. حالت العنصرية، وممانعة الغالبية العظمى لتدخل السلطة الفيدرالية في الشؤون المحلية، دون أخذ الناس في الشمال أي خطوات ناجحة في سبيل إنهاء الإعدامات في الجنوب. 

كان (هاري آنسلينجر – Harry Anslinger)، مفوض المكتب الفيدرالي للمخدرات والعقاقير، عنصري متطرف -حتى بمعايير الثلاثينيات من القرن العشرين. قال (چ‍وان هاري – Johann Hari) في كتابه «عن مطاردة الصرخة: أول وآخر أيام الحرب على المخدرات» (Chasing the Scream: The First and Last Days of the War on Drugs)، أن هاري آنسلينجر قال أن المخدرات تجعل السود ينسون مكانهم في نسيج المجتمع الأمريكي، وأن موسيقيّ الچ‍از على وجه الخصوص خطيرون للغاية، لأنهم يصنعون موسيقى «شيطانية» تحت تأثير الماريجوانا.

بعد فشل محاولات تهديد هاري آنسلينجر لبيلي هوليداي للتوقف عن غناء تلك الأغنية، دفع هاري بأحد رجاله -ويدعى (جيمي فليتشر – Jimmy Fletcher)- بالتجسس على بيلي. اكتشف هاري تعاطيها للكوكايين، ولفق لها تهم استنادًا على افتراضاته العنصرية ضد السود. صدر قرار ضد بيلي بالسجن لمدة ثمانية عشر شهرًا، وبعد خروجها من السجن في عام ١٩٤٨، رفضت الحكومة الفيدرالية تجديد رخصتها للغناء. 

أصيبت بيلي هوليداي بسرطان الكبد وقصور في وظائف الرئة والقلب، مما دفع بها إلى دخول مستشفى نيويورك في عام ١٩٥٩، إلا أنها لم ترد البقاء بالرغم من حالتها الصحية المتدهورة، وظلت تقول لأصدقائها ولأفراد عائلتها: «سوف يقتلونني. سوف يقتلونني هنا. لا تسمحوا لهم.» 

انتهز رجال هاري آنسلينجر الفرصة. ذهبوا إلى المستشفى التي كانت بيلي ترقد فيه، وقاموا بتقييد يديها إلى سريرها، وتخلصوا من الهدايا التي أهداها لها الناس -الزهوز، والراديو، ومشغل الاسطوانات، والشوكولاتة، والمجلات- وكلفوا شرطيين بالوقوف على باب غرفتها، مانعين عنها تلقي العلاج. لاقت بيلي هوليداي حتفها بعد ذلك بأيام معدودة.

كان موت بيلي هوليداي بهذه الطريقة صادمًا لمحبيها. وعلى الرغم من كل محاولات منع صدور أغنية «ثمار غريبة»، إلا أنها وجدت طريقها إلى عموم الشعب ومحبي موسيقى الچاز. ساهمت أغنية بيلي في اندلاع «حركة الحقوق المدنيّة الأمريكيّة الأفريقيّة» في عام ١٩٥٤ -والمعروفة فيما بعد باسم «حركة الحقوق المدنيّة»، كما فتحت الباب أمام موسيقيّ الچ‍از لتناول مواضيع شائكة مثل العنصرية والاضطهاد وحقوق الأقليات بعد أن كانت من التابوهات، وبعد أن كان جُلّ ما يتناوله موسيقيّ الچ‍از السود -أمثال (لوي آرمسترونج – Louis Armstrong) ومن على شاكلته- أغاني تداعب مشاعر جمهور البيض. بذلك، على الرغم من موت بيلي هوليداي، أضحت أغنيتها واحدة من أهم أغاني القرن العشرين.

لم يصلنا أي من التسجيلات المصورة لتلك الأغنية باستثناء تسجيل واحد وحسب من البرنامج التلفزيوني «تشيلسي في التاسعة مساءًا» (Chelsea at Nine) بتاريخ ٢٥ فبراير ١٩٥٩، أي قبل وفاتها بأشهر قليلة.

 


 

المصادر:

  1. Ayre, Maggie. “Strange Fruit: A Protest Song with Enduring Relevance.” BBC News. 25 November 2013.
  2. Hari, Johann. “The Hunting of Billie Holiday.” Politico Magazine. 17 February 2015.
  3. Lynskey, Dorian. “Strange Fruit: The First Great Protest Song.” The Guardian. 16 february 2011.
  4. Weber, Brandon. “How ‘Strange Fruit’ Killed Billie Holiday.” The Progressive. 20 February 2018.

 

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي