قُسمت الفلسفة الإغريقية في تاريخ الفكر إلى مرحلتين، يعبران عن الانتقال من مرحلة التبلور والنشوء إلى الاكتمال والنضوج للفلسفة الهلينية، هما؛ إلى ما قبل سقراط وإلى ما بعد سقراط، فلقد اعتبر الحكيم «سقراط»، أيقونة برزخية تربط وتميز بين المرحلتين في آن واحد، حيث إن سقراط، نشأ وتعلم على مناهج السوفسطائيين؛ الذين اهتموا بالإنسان واقتصروا الفلسفة في واقعهم العملي. إذ سار على دربهم، في أنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض؛ على حد قول شيشرون عنه، وإذا به يتخذ كلمة شعارًا له ولفلسفته؛ قرأها في معبد دلفي: اِعرف نفسك بنفسك، كما أنه لم يكن له مدرسة على غرار: مدرسة أقروطونا (مدرسة الفيثاغوريون)، مثله مثل السوفسطائيين المتجولين، وقد حظت مناقشاته باهتمام دوائر شبابية مختلفة ثقافيًا واجتماعيًا. ومع استعماله مناهجَ جدلية حول الأفكار والتقاليد البشريّة والتي تماثلت مع طريقه معلمي الحكمة -حتى أن أرسطوفان الشاعر المسرحي وهو أحد الرواة المشهورين عن سقراط، قد عرضه كأحد السوفسطائين لا أكثر- إلا أنه خالف شكيّة النسبية السوفسطائية إلى الاهتمام بالمعاني والماهيات والبحث عن الكليات في مفاهيم العدالة والأخلاق والفضيلة، فقد مهد الأثر لعصر أكثر رسوخًا مما مضى، فإن له يد في الماضي وأخرى في المستقبل.
سطع من بين تلاميذ ومريدي سقراط، الشاب أفلاطون الذي كان من طبقة أرستقراطية عريقة، الجندي البارز والرياضي البارع (فاز بالألعاب الأولومبية مرتين)، تثقف على أشعار هوميروس واِطَّلعَ على مذاهب الفلسفة، وتتلمذ على يد أقراطيلوس (من أتباع هيراقيطس)، وكان مُحبًّا وميالًا لعلوم الرياضيات. وفي العشرين من عمره انضم إلى حلقات سقراط، حيث تأثّر بقدرته الفائقة على الجدالِ والبرهانِ، فلزمه وأصبح شغوفًا بتعلم الحكمة التي يهدفها سقراط. وقد حمد الله أنه وُلِدَ في عصر سقراط.
«إن مقابلة أفلاطون لسقراط هي التي حركت نفس أفلاطون وأشعلت فيها نيران الفلسفة»
يعتبر أفلاطون المؤرخ الرئيسي لسيرة سقراط، حيث إن الأخير لم يعمد إلى تدوين فِكره أو حياته قط، فلم تصل لنا مروياته وسيرته سوى عبر ثلاثة رواة مشهورين: أفلاطون وأرسطوفان وأكسانوفون، بالإضافة إلى الشذرات الباقية من مدارس من أطلق عليهم بصغار السقراطيين (اقليدس وأنتستانس وأرستبوس).
وقد أدت مآلات إعدام سقراط، إلى التأثير المباشر في توجه تلميذه أفلاطون، إذ إنه تميز بقدرة أدبية مرموقة، وعبقرية خلاقة، تلمس كلماته ببراعة فائقة وبساطة ملهمة لوجدان القارئ، كُلما قُرأ في إحدى محاوراته؛ إذ مثلت تلك المحاورات الأفلاطونية؛ أسمى الأعمال الأدبية اليونانيّة والإنسانيّة، والتي حاكت سيرة سقراط ونقاشاته الفلسفيّة في أثينا، وامتازت بالتأثر العميق للتلميذ، ففي تلك الفترة أُطلق عليه؛ أفلاطون السقراطي مما أبدته أعماله من دفاع عن سقراطه والتبشير بمنهجه.
بعد موت المعلم، ترك أفلاطون أثينا مع رفاق أخرين اتبعوا إقليدس إلى ميغاري، ثم جال منها إلى مصر، وقصد بعض البلدان الأخرى مثل جنوبي إيطاليا، حيث منبت المدرسة الفيثاغورية التي تأثر بها، وعاد بعد اثني عشر عامًا من الترحال، مرة أخرى إلى أثينا بعد هدوء الأوضاع السياسيّة، وحروب أثينا وإسبرطة، إذ به عمد إلى إنشاء مدرسة في أبنية تطل على بستان أكاديموس، فسُميت بالأكاديمية، وقد درّس بها لعدة عقود، وإلى جانبه عدد من العلماء في كل تخصص، فزخرت الأكاديمية بدروس الفلك والموسيقى والأخلاق والبيان والسياسة والتاريخ وغيرها، فكانت أول جامعة بحق؛ تتميز بجمع جلّ المذاهب الفلسفية والعلمية السابقة عليه.
عمدت فلسفة أفلاطون في التعامل مع تعدد المذاهب الفلسفيّة إلى التوفيق والتنسيق على خلاف مذهب السوفسطائيين الذين انتهجوا الشك مع تعارض الاتجاهات، لذا تبلورت فلسفة أفلاطون من نسيج المدارس المختلفة، فعبر عن فترة حصاد زهرة الفلسفة اليونانية، «فنحن نجد عنده تغير هيراقليطس ووجود بارمنيدس ورياضيات الفيثاغوريين، وعقيدته في النفس، وجواهر ديموقراطيس، وعناصر أنبادوقليس، وعقل أنكساغوراس، فضلًا مذهب سقراط».
بيد أن أهمية فلسفة أفلاطون لم تكن في حيز عصره فقط، حيث ألمَّ بشكل واسع وجامع لمن قبله، وأفرز مذهب أكثر نضجًا وشمولًا مما سبقه في العصر الهليني، بل أن أثر فلسفته ممتده بدءً من تلميذه أرسطو الملقب بالمعلم الأول، مرور بالحقبة الهلينستية والعصور اللاهوتية القروسطية إلى عصور النهضة والحداثة، فإن على مدار طول الزمن لم يخلو عصر من تجلي الفلسفة الأفلاطونية في كثير من اتجاهات الخلف. لذا فإن أفلاطون يعد من أهم الفلاسفة في تاريخ الفكر الفلسفي بلا تردد، وكما قال وايتهد:
«إن توصيف التقليد الفلسفي الأوروبي الأكثر سلامة هو أنه يتألف من مجموعة هوامش لأفلاطون»
وقال آخر:
«أفلاطون هو الفلسفة والفلسفة أفلاطون»
وبالرغم مما تحمله تلك الكلمات من إفراط في الثناء والإطراء على فلسفة أفلاطون، إلا أنها تعبر بشكل أو بآخر عن أثره البالغ في تاريخ الفكر الفلسفي، وسبره لأغوار شتى مباحثها، وهذا ما سنحاول الإشارة إليه عبر عرض أبعاد الأفلاطونية الأهم، وتجلياتها على الفكر فيما بعده.
الفلسفة الأفلاطونية
كما قولنا أعلاه أن أفلاطون هو أول من أنشأ نظام جامعًا للعلوم والمعرفة، ولم تعد الفلسفة منذاك كما ذي قبل، مجرد آراء ومذاهب متناثرة ومحددة في جانب دون الأخر، إذ أنه قدم فلسفة أقدر شمولًا واستيعابًا للمذاهب المتناحرة، فقد نسق وتدبر إلى أن أخرج فلسفة جديدة في شكل متناسق ومنضبط.
لقد كتب أفلاطون ثمانٍ وعشرون محاورة، لم يترك مجالًا في المعرفة والعلم وقتئذ، إلا وتناولها بالحوار والنقاش في محاوراته التي خلقها في نسيج أدبي مبدع حول الشخصية السقراطية، فقد تناقش على سبيل المثال؛ حول مصدر الفضيلة في محاورة مينون، وفي خلود النفس في محاورة فيدون، والبحث في معنى الجمال في محاورة هيبياس الكبرى، ومحاورة طيماوس وهي بحث شامل في الوجود والتكوين، وقد فرد عددة محاورات حول آراء السوفسطائيّة مثل بروتاغوراس وغورغياس، لما تمثله حركتهم الثوريّة حينها، من مواقف شَكيِة حول مفاهيم مثل الأخلاق والمعرفة والعدل، يرفضها أفلاطون بشكل قاطع، فإنه يرى السوفسطائي هو الصورة الزائفة للفيلسوف الحق، كما أن الطاغية هو الصورة الزائفة لرئيس الدولة الحقيقي.
جمهوريّة أفلاطون
بيد أن أشهر محاوراته هي كتاب الجمهورية، والتي تجمع ملخص لفلسفته، ففيها مذهب ما وراء الطبيعة وفي السياسة وفي الدين وفي الأخلاق وفي النفس وفي الفن وفي التربية، ووتبرز اهتمام أفلاطون السياسي بشكل جلي عبر نموذجه عن الدولة المثلى «المدينة الفاضلة»، إذ يُعتبر أن أكبر حدث أثر في فكره وحياته، وفي تَشكُل نظريته السياسية عن الدولة والعدالة، هو من واقع إعدام سقراط، فاتجه لحل تلك المشكلة؛ «لكي يصبح من الممكن أن نحيا حياة إنسانيّة جديرة بالحياة، يجب أن يصبح الفلاسفة ملوكًا»، فهو يبني الاعتبار على أن الإنسان لا يمكنه العيش خارج وجود الدولة، ولكن الدولة التي تعدم فيلسوف صالح كسقراط هي دولة ظالمة، وهي كذلك لأنها جاهلة لذا فيقول: إن المدن لن تخلص من هذه الشرور- كلا، بل أعتقد أن الجنس البشري كله لن يخلص منها، حتى يتلاقي الفلاسفة والملوك، لن يخلص العالم من شروره إلا إذا وقفت هاتان الطبقتان إحداهما إلى جانب الأخرى، بدل أن تسعى كل منها محو الأخرى، عندئذ فقط، يمكن لدولتنا هذه أن تعيش وتشهد ضوء النهار. ولقد نقم أفلاطون على أشكال الحكم السياسي المتعارف عليها حينها، إذ ينتقد اقتصار الحكم الأرستقراطي على فئة بالفطرة والوراثة، والحكم الألوليغاركية على قلة من الأغنياء، وقد احتقر الحكم الديموقراطي مع حدث إعدام سقراط، والذي حكمت عليه جموع الغوغاء بالإعدام.
رأى أفلاطون أنه كما يستوجب أن تكون الفضيلة في الفرد، لا بد أن توجد العدالة في المدينة، أي في ظل تنظيم ووجود الدولة، بالرغم نقده لأشكال الحكم المعروفة إلا أنه أكد على ضرورة وجود شكل من التنظيم الاجتماعي والسياسي، إذ به ارتأى أن دراسة الدولة؛ تبدأ من دراسة الطبيعة البشرية، إذ أرجع سلوك الإنسان وأفعاله إلى الشهوة والعاطفة والعقل، كل قوى منهم موجودة في كل إنسان بدرجات مختلفة، لذا نجد مفهوم العدالة والفضيله عنده، هو أن يؤدي كل إنسان عمله الخاص دون أن يتدخل في عمل سواه، فالذي يغلب عليهم طابع الشهوة تكون في الطبقة العامة من العاملين والصناع والتجار والزراع، والذي يتغلب عليهم الشعور، تتكون منهم طبقة المحاربين الذي يقاتلون من أجل الانتصار، والذين يغلب عليهم الميل العقلي من تأمل وتفكير، هم المأهلين للحكم. تقوم مدينة أفلاطون على أرستقراطية العقل، أي أن الذي يحكم هم صفوة المجتمع من الفلاسفة الذين يمثلون العقل، والطبقة الثانية هم حراس المدينة من الجيش والأمن إذ يمثلون القوة، والطبقة الثالثة من الشعب يمثلون العمل، إذ لكل قسم فضيلة، إذ اجتمعوا وتعاونوا، ينشأ العدل الاجتماعي.
إذ كانت غاية الدولة وصول الأمة إلى الحكمة والمعرفة والفضيلة، فيكون ذلك عن طريق التربية، فالتربية أهم عمل تقوم به الدولة، ففي البداية يهتم بإعداد النسل، وطرق تقويمه، فلا «يكفي تعليم الأطفال (ذكور وإناث) تعليمًا حسنًا، وينبغي توليده تويلدًا حسنًا من أبوين قويين صحيحين»، ويستأصل الضعيف، فيؤخذ الاطفال، وينشؤا على تربية رياضية صحية، وتهذب نفوسهم بالآداب والفنون -ينبذ أفلاطون أشعار هوميروس وهزيود ويؤثر قصصًا جديّة تحث على الخير- فتكون التربية متساوية إلى سن الثامنة عشر، ومن ثم ينقطعوا إلى التمارين العسكرية حتى العشرون، ويختار الأجدرون منهم في دراسة علوم الحساب والفلك والهندسة والموسيقى، وإذا ما بلغوا الثلاثون يُؤهل منهم من له الكفاية في الذهن الفلسفي، ويقضون خمس سنوات في دراسة الفلسفة والمران على الأمور العملية، ثم يعهد إليهم وظائف إداريّة وحربيّة إلى سن الخمسين، فمن امتاز في سيرته يرقى إلى مرتبة الحكام.
وطبقة حراس المدينة من حكام الفلاسفة؛ تسودّها الحياة المشتركة بشكل شيوعي أي أنهم ليس من حقهم أن يملكوا بيوتا أو أملاكًا، والقوت يكون بناءً على الكفاية، تكون حياتهم تقشف وابتعاد عن الملذات، ولا يكون لهم زوجات، فهم في اشتراكيّة في المال، وشيوع في النساء، فقد أعدوا مثقفين ذو خبرة في إدارة الدولة، وهبوا للأخرين. فأفلاطون هنا يحاول ربط الفلسفة بالمشاركة السياسيّة الفعالة، أي أنه يرى: «ستفعل الفسلفة بالمدينة ما يفعله الرسام بالجدار الذي يزخرفه، فهو ينظفه بادئ الأمر بعناية، ثم يرسم عليه صورة المدينة، مقارنًا رسمه في كل لحظة بنموذج العادل الذي في مقدوره أن يتأمله ويتملاه».
أما طبقة حراس المدينة من الجنود والمحاربين؛ ينتقى الحراس من الأصحاء أصحاب المؤهل الحربي، ويكونوا خليطًا من الرجال والنساء، يتشاركون المسكن والمأكل، يقوموا برياضة بدنية سليمة، ولا يستطيعون تكوين أسره، والنسل يعهد إلى زواج مؤقت، فيعقد الحكام تزويج بالاقتراع شكلًا، ولكنه في الأصل يحمل غرض وشروط النسل وفق ما تحتاجه الدولة، ويوضع الأطفال في مكان واحد للتربية من قِبل أخصّاء، وتأتي الأمهات في فترات الرضاعة دون التعرف على هوية الرضيع، فطبقة الحراس تشبه الأسرة الواحدة، تسودّها روابط الأخوة.
وطبقة الشعب من الزراع والصناع والتجار؛ فهم وظيفتهم الإنتاج، فيسمح لهم بالملكية، ولكنها محصورة في حدود معقولة.
بيد أن التأثير الذي غلب على خيال أفلاطون هو نموذج مدينة أسبرطة، فقد كانت طرق معيشتهم تعتمد على الحرب والتجهيز لها، فقد اهتموا بالنشء المحارب والحياة العسكرية الشاقة، ونزعوا إلى اختيار الأفضل للبقاء وإقصاء الأدنى؛ يعدمون الضعيف، والحياة في أسبرطة بها مساحة من المشاركة الاجتماعيّة المُنضَبِطة المٌحددة، وكانت المرأة على قد كبير من الشابهة بالرجل، وتسير حياة الاسبرطي في طاعة ونظام صارم، وهذا ما يشابه مدينة أفلاطون في عدّة نواحي.
يتبع: نظرية المُثُل الأفلاطونية – تجليات الأفلاطونية في تاريخ الفكر الفلسفي.
كتابة وإعداد: عصام أسامة
مراجعة: مايكل ماهر
تحرير: نسمة محمود
مراجع: [1] تاريخ الفلسفة الغربية، ج1، برتراند راسل [2] تاريخ الفلسفة، ج1، إميل برهييه [3] تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم [4] مدخل لقراءة أفلاطون، ألكسندر كواريه [5] قصة الحضارة، حياة اليونان، ويل ديورانت