كانت رؤية ألبرت أينشتاين حول كيفية عمل الجاذبية -على أقل تقدير- خروجًا جذريًا عن المنظور الأقدم، منظور نيوتن. في إطار أينشتاين، ليس نظام الإحداثيات في الزمكان الذي نستخدمه لتمييز أحداث كوننا مجرد خلفية ثابتة، بل متحرك بالكامل وحي في حد ذاته. الزمكان يمكن أن ينحني، ينحني ويلف تحت تأثير الكتلة والطاقة، وهذه الهندسة العميقة هي التي تعطينا قوة الجاذبية.
ولا أحد يعرف كيف أن صعوبة تلك الانحناءات التضاريسية أفضل بكثير من الضوء نفسه. اضطر لمتابعة كل تلة ووادٍ وعثرة وتجاعيد في الكون، يتدفق مسار الضوء ذهابًا وإيابًا باستمرار لأنه يحاول عبثا اتباع مسار مستقيم وضيق. إن وجود جسم ضخم قريب سوف يجبر الضوء أن يحيد عن مساره الأصلي. على الرغم من أن الفوتون -الناقل للضوء والقوة الكهرومغناطيسية- ليس له كتلة، إلا أن تأثير الجاذبية يشمل الكون كله. بمجرد تشكل تضاريس الزمكان من انحناءات وتجاعيد، يجب أن يعمل كل شيء في الكون وأن يستعد للتنقل في تلك الهندسة.
ولعل المثال الأكثر وضوحًا من هذا التأثير هو تلك الظاهرة الغريبة وهي عدسة الجاذبية، والتي يمكن أن يكون فيها جسم ضخم… حسنًا، يتصرف كأنه عدسة. يمكن لهذا التأثير أن يحني مسار الضوء إلى درجة أعلى من تلك التي يَنحنيها ضوء الأجسام التي تنعكس من مرآة منزلية مضحكة، تتشوه صورها إلى درجة لا يمكن التعرف عليها تقريبًا.
نبيذ السماء المظلمة
عن طريق الصدفة البحتة، فإن قاعدة كأس لخمر نموذجي هي تقريب جيد لسلوك عدسات الجاذبية لجسم كروي صغير (نسبيًا) مثل النجم. إذا نظرت من خلال كأس زجاجي (فارغ) في الغرفة المحيطة بك -وقد ترغب في القيام بهذه التجربة حتى يكون الأمر أكثر منطقية- سوف ترى صورة مشوهة للغاية. إذا أشرت بكأس النبيذ مباشرة إلى جسم ما، فسترى الجسم ممتدا في حلقة تحيط بمركز قاعدة الزجاج. في أضعف الحالات، سوف ترى الأقواس أو الصورة نفسها المتكررة على جوانب متعددة من القاعدة.
عندما ننظر إلى أعماق الكون، أحيانًا ما نجد المحاذاة بالصدفة. شيء ضخم حقًا، مثل عنقود ضخم من المجرات، يقع أمام خلفية من العديد من المجرات الغير مرتبطة، يجب أن يتبع الضوء من الخلفية البعيدة مسار الجاذبية الملتوي والمنحني بفعل العنقود، والنتيجة هي مجموعة جميلة من الصور، مثل النظر عبر زجاج نبيذ عملاق، سنرى صور متعددة لنفس المجرة، ظاهرة في أقواس رفيعة طويلة، نقاط غريبة وأحيانًا حلقات مثالية.
هذه الصور المشوهة والمدمرة تعطينا أدلة مهمة حول محتويات ذلك العنقود المجري، ذلك الجسم الهائل بيننا وبين الخلفية التي تصنع ثقلا كافيًا لصناعة عدسة جاذبية جيدة. وبمقارنة الصور الممزقة خلف تلك الكتلة إلى صور المجرات العادية، نستطيع أن نبني تقديرًا -موثوقًا به إلى حد ما- لكتلة هذا العنقود الكبير. يمكننا حتى تقدير كيفية توزيع هذه الكتلة داخل العنقود.
توفر لنا هذه الطريقة دليلا أساسيًا آخر على وجود المادة المظلمة، ويرجع ذلك إلى أن التأثير مستقل تماما عن الطرق الأخرى لقياس كتلة العنقود، مثل المنحنيات الدائرية للمجرات ودرجات حرارة غاز العنقود المجري. باستبعاد تأثير المادة المظلمة، فإن مسار الانحناء للضوء من المجرات الخلفية حول العنقود لن تكون بنفس الشدة التي نراها.
ضعف في القوة
ليست فقط العناقيد الضخمة هي التي نحصل منها على معلومات كونية مفيدة. على الطرف الآخر من طيف العدسات القوية هنالك -لقد خمنتَ ذلك- العدسات الضعيفة. بحكم التعريف، يستطيع كل شيء في الكون أن يتصرف كَعدسات جاذبية، ملاحظاتك التقنية فقط تحتاج إلى الحساسية الكافية للكشف عن تلك العدسات.
كما أن الضوء يُحلّق إلينا من مسافات بعيدة من الكون، لكنه يتم استنفاذه من خلال أي مصدر كتلة قريب منه أو حوله. إذا أخذت نظرة سريعة فقط على أي مجرة عشوائية بعيدة -لاسيّما تلك التي تقع خلف عنقود كبير من المجرات- فإنها لن تبدو مختلفة عن مجرة قريبة، ولكنها ستختلف لو كنت دقيقًا.. هناك قرص طفيف، تشويه صغير هناك، ربما استطالة خفيفة أو انحناء.
هذه التأثيرات صغيرة جدا على أن تلاحَظ في مجرة واحدة، لكن لو قمت بتحليل الآلاف من المجرات، أو أفضل حتى ملايين من المجرات في أنحاء الكون، تستطيع أن تعيد توزيع المادة بيننا وبين تلك المجرات. وإذا ذهبنا إلى أقصى الحدود، فيمكننا فعل ذلك باستخدام خلفية الإشعاع الكوني، الضوء من الكون المبكر الذي تم استنفاذه وترشيحه من خلال حقول القهوة في الكون (تعبيرًا عن كثرة الأجسام في الكون وكأنها في وعاء من القهوة) لدينا لمدة 13.8 مليار سنة. لقد تمكنا من استخدام تشوهات صغيرة للغاية في تلك الصورة لنكمل مشروعًا أكبر: إعادة توزيع المادة في الكون كله بيننا وبين ضوء تلك الخلفية.
ولكن هذه مجرد صورة واحدة، تعطينا الانحناء الكلّي الذي مرّ به الضوء في رحلته عبر تاريخ الكون، ولإعادة صناعة خريطة ثلاثية الأبعاد، نحتاج إلى تكرار هذا الحدث باستخدام سلسلة من الهياكل المركزة للمجرات المحيطة بنا، ورسم خرائط دقيقة بحرص للتشوهات الصغيرة في صورها والإشارة إلى الاختلافات في الهياكل المجاورة.
يُعرف هذا الأسلوب باسم عدسات الجاذبية الضعيفة، يكون في مراحله النسبية، ولكن يكتسب القوة بسرعة، يتم استخدامه حاليًا على نطاق واسع في الاستطلاعات الكونية -مثل الاستقصاءات حول الطاقة المظلمة- وكذلك في البعثات القادمة -مثل WFIRST- كما نأمل لرسم خريطة نمو وتطور بنيَة كوننا، وإتاحة نافذة أخرى إلى العوالم الخفية للمادة المظلمة والطاقة المظلمة.
أصغر عدسة
هناك تطبيق رئيسي آخر للعدسة التي أحتاج إلى ذكرها، في الأعلى، لدينا عدسات قوية، مثل العناقيد الضخمة من المجرات القادرة على تشويه صورة المجرة بشكل ملحوظ. أسفل منها، لدينا عدسة ضعيفة، والتي يمكن اكتشافها من خلال التحليل الإحصائي الدقيق. أسفل أكثر، نجد نوعًا صغيرًا جدًا من العدسات يسمى (مايكرولينسينغ – Microlenses) وهي أصغر حتى من أن تسبب تشويهًا واضحًا.
بدلًا من ذلك، عندما يمر جسم صغير مثل الثقب الأسود أو القزم البني أمام نجم بعيد عن طريق الصدفة، نرى زيادة مؤقتة في السطوع بسبب العدسة.. وفي حين أن هذا الحدث نادر جدا بالفعل، إلا أنه لو كنتَ تحدق في النجوم المعنية بحدوث ذلك لفترة كافية، فأنت مجبر على أن ترى ما يحدث.. وعندما تفعل ذلك، يمكنك أن ترصد إحدى المناظر الطبيعية المجرية التي لا تُرى بشكل آخر.
يمكنك أيضًا اكتشاف الكواكب. عندما تكون النجمة نفسها متطفلة، لو حملت كواكب في مدارٍ حولها فإنها ستغير (قليلًا) السطوع اللحظي خلال حدوث ظاهرة المايكرولينسينغ.
من أكبر إلى أصغر المقاييس، كوننا مليء بالعدسات المتلألئة، ومثلها مثل العدسات الزجاجية التي توجد داخل تلسكوباتنا ومَجَاهِرنا، تمنحنا هذه العدسات الكونية نظرة جديدة إلى أجزاء من كوننا والتي كان من الصعب جدًا رؤيتها.
ترجمة: أحمد محمد سعد
مراجعة علمية: سارة سامر
تدقيق لغوي: هاجر زكريا
تحرير: هدير جابر