مواجهة الأوبئة عبر التاريخ.. عبرة من الماضي

مواجهة الأوبئة عبر التاريخ.. عبرة من الماضي

      إن انتشار الأمراض والأوبئة ليس جديدًا على البشرية، فالعلاقة بين الطرفين لها آثارٌ ضاربة على السكان والمجتمعات في التاريخ، تلك الآثار التي أدَّت إلى تغييرٍ في الأنماط الاجتماعية ونظرية الهجرة والاضطرابات التي تعانيها المجتمعات في ظل هذه الفترات، فماذا يمكننا أن نتعلم من التاريخ في مواجهة تلك الأوبئة؟

في السطور التالية يجيبنا التاريخ حول القرارات التي قللت من آثار تلك الأوبئة وما يقابلها من أفعالٍ أدَّت في النهاية إلى انتشاره.

الوعي وتوافر المعلومات – الاستهانة والجهل بالمعلومات

    إن أكثر ما يساعد حكوماتنا الحالية في مواجهة الأوبئة هو توفر المعلومات، فنحن لدينا قاعدة معلومات كبيرة حول علم الجراثيم ونظريات انتشار الأمراض بدقة، وهي مساعدة كبيرة لم تكن لدى أسلافنا خلال التاريخ.

   إن المعلومات تساعد بشكلٍ كبير في صياغة رد الفعل في وقتنا الحالي. وعلى الجانب الآخر، كان الجهلُ بالمرض سببًا كبيرًا في إصابة الأمريكيين بالجدري في القرن السادس عشر نتيجة قلة المعلومات حول المرض وعدم معرفتهم بطرق التحصين منه والوقاية من انتشاره.

   وبالمثل، فقد سبَّب استهانة أمريكا بما تسببه كارثة الأنفلونزا عام 1918م والتقليل من تهديدها بوقوع العديد من القتلى في صفوف الشعب الأمريكي الذي فقد الثقة في مسؤوليه أثناء تلك الفترة، مما سبَّب انتشار الذعر بين المواطنين، وأدَّت أيضًا قلة المعلومات إلى أن يقوم الأوروبيون بذبح القطط اعتقادًا منهم أن الطاعون ينتقل من خلالها، بينما كانت الفئران هى السبب الرئيسي في انتشاره!

   وبالمثل، أدَّت قلة المعلومات إلى أن يعتقد الأوروبيون أن الكوليرا عبارةٌ عن غازٍ سامٍّ غيرِ مرئي ينتشر في السماء ويصيب الناس.

إن المعلومات الضعيفة أو قلتها  تثير الذعر بين الناس وتشعرهم بأن هناك شيئًا مخفيًا.

الوعي الصحي (العزل الصحي) – الاختلاط

   مثَّلت خطوة العزل الصحي أكبر القرارات التي تُهون من وقع الوباء على البشر، ففي فترة انتشار وباء الموت الأسود (1347- 1352م)، والأنفلونزا الإسبانية ( 1918- 1919م)، كان انتشار وحدات الحجر الصحي شائعًا، خاصةً بعد أوَّل موجة من موجات الطاعون الأسود، وكانت أكثر الأمور التي استجابت لها الشعوب في تلك الفترة.

   وفي جائحة الأنفلونزا لدينا بيانات كبيرة حول دور الحجر الصحي وعدم الاختلاط بين أفراد المجتمع في تخطي الآثار المدمرة في نهاية الأمر وللحيلولة دون القضاء على البشرية.

   وفي فترة اجتياح مرض الجدري في القرن 16م، كان قرارُ المستعمرين الأوروبيين تجاه فرض الحجر الصحي البحري على سفن العبيد القادمين من أفريقيا وإرسالهم إلى العزلة في جزيرة كابراس في بورتريكو دوره في تحجيم ما يمكن تحجيمه من انتشار المرض. في هذا الصدد يذكر المؤرخ باتريك ويمان أن التباعد الاجتماعي بين أفراد المجتمع بشكل جيد والحفاظ على مسافة يساعد بشكل كبير في تقليل معدلات الإصابة خلال فترات الأوبئة، ففي طاعون القرن 14م أغلق المسؤولون في بعض الدول المنازلَ على المصابين بالقوة، أو ما عُرِفَ بالعزل المنزلي، وهو شكلٌ من أشكال العزل الصحي لمنع انتشار الطاعون في تلك الفترة.

   وعلى الجانب الآخر، كانت الاستهانة مع وباء الكوليرا في أوروبا، خاصَّةً بريطانيا، وعدم منع الاختلاط في ظل الاكتظاظ الشديد في لندن سببًا في انتشار وباء الكوليرا كالنار في الهشيم في بريطانيا وأوروبا، فقد انتقل بموجب هذا الاختلاط الوباء إلى مدينة هامبورغ الألمانية، مما أدَّى إلى وفاة 10 آلاف حالة في 6 أسابيع فقط، وكان الأمر مدمرًا، وكان ذلك بسبب التجار الذين رؤوا أن تطبيق الحجر الصحي على مدينة هامبورغ سيؤدي إلى تدمير التجارة في ثاني أكبر المدن الألمانية في هذا المجال، ولكن دُمِّرَت المدينة نفسها!

إغلاق مجال السفر والانتقال – فتح الحدود

   يُمثِّل قرار إغلاق الحدود دورًا مهمًّا وحيويًّا في عدم انتشار الوباء، ففي الطاعون الذي شهده العالم في القرن الرابع عشر عام 1347م، حظر سكان البندقية التجار من دخول المدينة لمدة 30 يومًا امتدت بعدها لمدة 40 يومًا.

   وعلى الجانب الآخر، أدَّى قرار بريطانيا بعدم غلق الحدود وطرق التجارة أثناء وباء الكوليرا في القرن التاسع عشر إلى نشر الوباء بسرعة كبيرة بعد انتقاله من الهند إلى أوروبا.

   وبالمثل، كان انتقالُ رجلٍ أوروبيٍّ واحدٍ من أوروبا إلى جزيرة هسبنيولا في البحر الكاريبي عام 1518م سببًا في انتشار مرض الجدري في الجزيرة ووفاة آلاف الأشخاص بها

   وأيضًا، فإن انتشار وباء الأنفلونزا العظمى عام 1918م وما بعدها كان بسبب ما شهده العالم من هجرات للبشر والحيوانات نتيجة الحرب العالمية الأولى، وانتقالهم إلى أماكن أخرى من خلال السكك الحديدية والبواخر، مما ساعد بشكلٍ كبير في تفشي المرض، وبالمثل، حالة مدينة هامبورج سابقة الذكر.

الاهتمام بالفقراء – إهمالهم واستغلالهم

   على مدار القرون التاريخية، كانت كلُّ الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار الوباء من حجرٍ صحيٍّ واهتمامٍ بالعمال وغيرها ضرورةً لمنع تزايد المرضى، ولكن شَكَّلت فكرة نقص المؤن والإمدادات أعظم الأمور خطورة على الفقراء، فعلى الجانب الأول، كان اهتمام بعض القساوسة بضرورة وصول المؤن والاحتياجات الطبية إلى الفقراء جرَّاء وباء الجدري في القرن 16 أمرًا مهمًا، فقام أحد الأساقفة نتيجة إهمال الحكومةِ للفقراء، وأنهم أكثر الطبقات إصابةً ووفيات، بعملِ صيدليةٍ متنقلة لإمدادهم بالمؤن والدواء والطعام، فكان ذلك سببًا في نجاح إنقاذ العديد منهم، رغم أنه كان أحد ضحايا الوباء فيما بعد. ويذكُر الراهب باتولومي دي لا كاساس أن الافتقار إلى الغذاء والمؤن لدى هؤلاء المحتاجين يتسبب في هلاك الجميع وليس هلاكهم هم فقط.

   وعلى الجانب الآخر، كانت فكرة الاهتمام الصحي بالفقراء عبر التاريخ قليلة الوجود، بل وصل الأمر إلى استغلالهم وليس المحافظة عليهم.

   فمثلًا، كان الأشخاص الأكثر فقرًا هم الأكثر عرضةً لخطر الإصابة بالجدري في القرن الـ16م. وقتها، تجاهلت الحكومات تدابيرَ الصحةِ العامة لهؤلاء الأشخاص الذين طالهم أكبر الضرر في تلك الفترة، وأدى قرار الإسبان في نفس فترة انتشار الجدري بمنع المؤن عن السكان الأصليين لأمريكا إلى هلاكهم بالجدري عام 1519م.

    في النهاية، هذه بعض العوامل وليس جميعها. إن الأوبئة تختبر قدراتنا الاجتماعية وأفعالنا الإنسانية وتدابيرنا السياسية تجاه مقاومتها، لكن التاريخ يحمل بعض الدروس التي لا يوجد لبسٌ فيها، فإن المجتمعات تزيد نسبة تدميرها كلما فشلت في توفير أيِّ رعايةٍ صحيةٍ لرعاياها، أو توفير سبل وقايةٍ شخصيةٍ لهم.

إن ظهور الأوبئة وتواصل ظهورها يذكرنا بإنسانيتنا المشتركة لأنها توضح لنا كيف يرتبط وجودنا الفردي برفاهية بعضنا بعضًا.

المصادر:

1

2

3

4

5

6

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي