ممَّ نخاف حقًّا؟ في الواقع، نخافُ أشياءً كثيرة، وعلى الأغلب ليست صحيحة، فمثلاً نخافُ من أن نصرّح بالحب تجاه أحدٍ ما لكي لا نواجهُ الرفض. نخافُ البوحَ بمشاعرنا تجاه الناس والأشياء، حتى لا نغرّدُ خارج السرب، ولأننا نبحث عن الانتماء إلى الناس أو الأشياء، نخافُ أن ينبذنا ما نُحبه، ونرغبُ في الفرار إليه ليبدأ بعدها العقلُ في ترديد تهويدةٍ مظلمةٍ ك: «أنت مقدرٌ لك أن تكونَ وحدك» أو «لا أحد يُحبك»، أو «أنت دائمًا المُشكلة»، أو «لماذا تصِرُّ على المحاولةِ مرة أخرى؟ لا يُوجد أحدٌ يتقبلك أو يُحبك»، أو أسوأهم على الإطلاق: «أرأيت؟ لقد قال لك لا. إنه لا يُريدك. إنه لا يُبادلك نفس المشاعر. من الأفضل أن تقنع بوحدتك، وألا تُغامر مرة أخرى».
ومع تكرار خيبات الأمل -مع أننا لا يمكن أن نلومَ خيبةَ الأمل على ما نحن فيه دائمًا- إلا أن هذه الكلمات المظلمة تتسرب إلى الروح، فبدلاً من أن نعالجَ الخوفَ ونتفهمه، أصبحنا نخافُ من خَوفِنا! أصبحنا نُسخًا مكرّرةً عمّا يريده الناس منا، وليست حقيقتنا تجاه الأشياء. أصبحَ الخوفُ يُحرِّكُنا كدمى الماريونتِ، وأصبحنا ننحني للجمهورِ، ونقولُ ما يطلبه المستمعون! أمّا عنّا، فنحنُ على جرف الهاوية، فقدنا أنفُسنا على الطريق، لا نعلم أيُّهم نصدّقُ أو لا نصدّقُ، هذا الصوت بداخلك الذي يقول لك: «لا بأس. فلنحاول مرّة أخرى» أو ذاك الصدى بداخلك: «لا تأمل كثيرًا؛ فخيباتك أكثر من آمالك».
فحقًّا، ممَّ تخافُ أنت؟ ولمَ تخافُ؟
يعتبرُ الخوف من الرفض أحد أعمق مخاوف الإنسان البشري على الإطلاق، فمن الناحية البيولوجية، نحن نميلُ لذاك الشعور بالانتماء؛ الشعور بأنك جزءٌ من كلٍّ، كعضوٍ في الجسم، ولذلك نهابُ أن يرانا الناس في صورةٍ حرجةٍ غير مألوفةٍ.
تَخيّلْ معي المشهد التالي، طريقٌ طويلٌ وقت الغروب، وأنت تَتجهُ إلى نقطةِ ركوب الحافلة، حيث تَجدُ من تعرفهم: أصدقاءك، أقاربَك، والكثير ممن تحب أن تقضي وقتك معهم. تبدأ الشمس في المغيب، وتبدأ الحافلة في التحرّك، وأنت تركض لعلك تَلحقها، ولكنها تقلعُ دونك، ولا يلتفتُ إليك الناسُ، تنظر إليهم بأملٍ، وكل ما تتذكّره هو شعور بالانعزالِ، والرفضِ، والهجرِ. سرعان ما تبدأ في الشعور بالتوتّر لكونك وحيدًا في مكان ما معزول في عباءة الليل القادم. أنت وحيدٌ تمامًا. هذا ما يشعرُ به الإنسان عندما ينظرُ إليه الناسُ نظرةً مختلفةً عن المألوفِ. أنك وحيدٌ ومهجورٌ، لذلك نَهابُ التغييرِ، ونخافُ الوحدةِ.
وعلى الرغم من أن للخوف عواملَ مشتركةَ عند كل البشرِ، فإن لهذه العوامل نكهاتٍ مختلفةً، وأصداء وَقعُها يختلفُ باختلاف البَشر، وطريقة تعامُلِهم معه، بل ويختلفُ عمقُ الخوفِ من شخصٍ لآخر.
فإذا ما أمعنّا النظرَ إلى هذه القضية، سنجدنا نطرح أسئلة عدة مثل: ما الذي نشعر به حقيقةً عندما نُرفضُ؟ ما الذي نخافُ منه حقًا، ويزرع الرعبَ في قلوبنا؟
على مستوى معرفيّ، ربما يُطلقُ هذا الرفضُ الذي نخافُ منه خوفًا أكبر؛ خوفنا من أننا ربما غير محبوبين، أو لا نستحقُ هذا الحبَّ، أو ربما من المقدر لنا أن تظل الوحدة رَفيقَنا الأوحد، ربما نحنُ بهذا السوء، وليست لنا سوى قيمة قليلة عند البشر، أو لا قيمة على الإطلاق، وعندما تسبحُ هذه الأفكارُ كسباحةِ أسماك القروش من حولنا، من الممكن ألا نشعرَ سوى بالتوتر، والرعب، وليس من المستبعد أن يلوح الاكتئاب في الأفق.
وهنا يلوحُ مركبُ إنقاذ في الأفق. يستطيعُ العلاجَ السلوكيّ الإدراكي أن يُمدَ لك العونَ، فيُساعد هذا النوعُ من العلاج الإدراكيّ على تحديد الأفكار المدمّرة الكارثية التي تَطرقُ بالنا، وأن نشككُ حول طبيعة وجودها، بل وكيف نبدِّلها بأساليبِ صحية للتفكير فيها بواقعية، فعلى سبيل المثال، فشلُ علاقةٍ ما، لا يعني بالضروة أنك فاشل.
ومن منطلق تجريبيّ كالعلاج باستخدام طرق التركيز المُوَجه، تُسفر مواجهتُنا لمشاعرِ الخوف من الرفض، أو مشاعر الرفض الفعليّ عن انفتاحنا على التجربة التي خُضناها بالفعل. فإذا استطعنا أن نبني علاقةً صحيةً وأكثر ودًا مع مشاعرنا التي تظهر نتيجة الشعور بالرفض، فإننا سنخطو قُدُمًا نحو طريقِ الشفاء، وسنصبح أكثر استعدادًا لمتابعة أمور حياتنا.
ربما يَكمنُ جزءٌ كبيرٌ من خوفنا من الرفض -بالأصل- في خوفنا من تجربة الشعور بالأذى والألم، فلا يُفيدُ عزوفُنا عن التجارب غير السارّة سوى بسلوكياتٍ لا تساعدنا في حياتنا، فنحنُ نفضلُ الانسحاب بعيدًا عن الناس بدلاً من أن نغامرَ ونقتربَ منهم. ونفضلُ أن نمتنعَ عن التعبير عن ذواتنا الحقيقية وأحاسيسنا المختلفة، فنقومُ بهجرِ الناس، وتركِهم قبل أن نُعطيهم حتى الفرصة في رفضنا.
نحنُ نبحثُ عن التقبلِ من قبل الآخرين، وأن نغذّيَ شعور أن نكون المُرادَ، فهذا جزءٌ من تكويننا البشريّ. من الطبيعيّ أن نشعر بالألم إذا رفضنا أحد، أو عندما نشعرُ بخسارةِ أحد ما، وإذا ما تجسَّدت أسوءُ مخاوفنا على الإطلاق، أكثرُ هواجسنا كارثية، وأصبحت واقعًا ملموسًا، ورُفِضنا من قِبَلِ أناسٍ آخرين، ستجد أجسادنا طريقة للشفاء في النهاية إذا آمنّا بعملية الشفاء الطبيعيّ، التي تُعرف باسم «الحزن»، فالحياةُ لها طرقها في تذكيرنا بأننا جُزءٌ من الحالة الإنسانية.
سنلتمسُ طريقًا للشفاء عندما نلاحظ كيف ننظر إلى أنفسنا، وكيف نميلُ إلى نقدِ أنفسنا بشدة، بل وكيف نغرقُ أنفسنا في متاهاتِ العار من الفشل؛ فأولُ الطريقِ هو التقبُّلُ. فإذا تقبلنا كل هذا، أو بالأحرى تقبلنا الألم، سنجد طريقًا لمتابعة حياتنا مرة أخرى، وسنستمرُ بالتقدم. يكمنُ السببُ خلف هذا الألم؛ أن معاناتنا وأوجاعنا تزدادُ حُلْكةً عندما نظن أن هناك خطبٌ ما بنا، ولا تقتصرُ على مشاعرِ الحزن أو الجرح التي نشعرُ بها فقط.
عندما نجازفُ ببوح ما في أفئدتنا تجاه شخص ما قد يرفضنا، فهذا لا يعني نهاية العالم. من المهمِ أن نسمحَ لأنفسنا بالحزن، والخوف، والفقد، والوحدة، والغضب، أو مهما كان الشعور الذي نشعرُ به نتيجة هذا الرفض. فتدريجيًّا، نحن نحزنُ عندما يموت أحدٌ ما قريب منّا، وتدريجيًّا نشعر بأن الوضع يصبح أقلَّ سوءً بدعمِ الأصدقاء والأهل، فهذا الشعور بالرفضِ ليس نهاية مشاعرنا، وتجاربنا في الحياة، فنحن بإمكاننا أن نتجاوزَ هذا الرفضَ، بل ونتعلمَ من هذه التجربة، التي ستجعلنا نَمضي في الحياة بصورة أقوى من ذي قبل.
ولكن ماهو العلاج السلوكي الإدراكيّ؟
هو أحد الطرق النفسية للعلاج الذي ثَبُتَ تأثيرها الفعال في معالجة عدة مشكلات متضمنةً الاكتئاب، واضطرابات القلق، ومشكلات تعاطي الكحول والمخدرات، والمشاكل الزوجية، واضطرابات الأكل، والمرض العقليّ الحاد. تَثني العديدُ من الدراساتِ البحثية على تأثير العلاج السلوكيّ الإدراكيّ لتأثيره المُذهل، وتحسينه لأداء المريض في حياته، فقد أثبت فاعليته وتأثيره كباقي طرق العلاج النفسي أو الأدوية النفسية، بل وأكثر منهما فاعلية أيضًا.
ومن الضروريّ ألا نغفل أن تطورات نتائج هذا النوع من العلاج تعتمد على البحث العلميّ، والممارسة السريرية. ففي الواقع، يعتمدُ هذا النوع من العلاج النفسي على قدرٍ وافرٍ من العلم المَبني على الأدلة، التي تُثبت بدورها أن أساليب العلاج التي تتطورت بالفعل تُحدث تغييرًا. وبالتالي، يختلفُ العلاج السلوكيّ الإدراكيّ عن أشكال العلاج النفسيّ الأخرى.
يعتمد العلاج السلوكي الإدراكي على عدة مبادئ رئيسية متضمنة الآتي:
- المشكلات النفسية التي تعتمد -بصورة جزئية- على طرق تفكير خاطئة أو غير مُفيدة.
- المشكلات النفسية التي تعتمد -بصورة جزئية- على أنماطٍ سلوكية غير مُفيدة.
- يستطيع الناس الذين يعانون من مشكلات نفسية أن يتعلموا طرقًا أفضل في التعامل مع هذه المشكلات، وذلك عن طريق التعرُّف على أعراضهم، وبالتالي سيستطيعون أن يؤدُّوا مهامهم في الحياة بصورة أفضل، وأكثر فاعلية.
غالبًا، يحُثُّ العلاج السلوكيّ الإدراكي الناس على بذل جهدٍ لتغيير طرق التفكير، ومن ضمن الاستراتيجيات التي يستخدمها:
- المساعدة في التعرف إلى تشوُّهات التفكير لدى المرء التي عادةً تسبب المشاكل، ومن ثم العمل على إعادة تقييمها في ضوء الواقع.
- تكوين فهم أفضل عن ماهية سلوك الآخرين ودوافعهم.
- استخدام مهارات حل المشكلات لحل المشكلات الصعبة ومواكبتها.
- تنمية الثقة في مهارات الإنسان وقدراته الخاصَّة.
وكما ذكرنا سابقًا، يتضمن العلاج النفسي العمل مع الأشخاص لتغيير أنماطهم السلوكية، ومن ضمن الطرق التي يستخدمها:
- مواجهة مخاوف المرء بدلاً من الهروب منها.
- استخدام تقنية «تمثيل الأدوار» لمساعدة المرء في التحضير لمواجهة كافة الاحتمالات التي قد تخلق مشاكل مع الآخرين.
- مساعدة المرء على تهدئة العقل واسترخاء الجسد.
وبالطبع، لا يتم معالجة المشكلات بكل التقنيات التي سبق ذكرها، بل يعمل المُعالج النفسيّ مع المريض/العميل معًا لكي يُكَوِّنوا فهمًا مشتركًا عن ماهية المشكلة، وبالتالي استراتيجية العلاج.
لا يقتصر دور هذا النوع من العلاج في مساعدة الناس فقط في حل مشاكلهم، بل يُساعدهم على أن يكونوا هم أنفسهم معالجين نفسيِّين لمشاكلهم وحلَّها، فمن خلال تدريبات أثناء الجلسات، علاوة على «واجبات» منزلية خارج الجلسات، يُساعد المعالجُ المريضَ/العميلَ على تطوير طريقة للتكيُّف مع المشكلات، وتطوير المهارات التي من خلالها سيتمكَّن المرء من تغيير طريقة التفكير فيما يتعلَّق بالمشكلات، والمشاعر التي تنتج عنها بالإضافة إلى سلوكياتهم.
يُركز الأطباء النفسِيُّون في هذا النوع من العلاج على ما يحدث في حياة الشخص الآن، بالإضافة إلى العوامل التي أدَّت إلى مشكلاتهم، فبالطبع، لا بدَّ من معرفة تاريخ المريض، ولكن بالقدر المناسب والمطلوب، لا أقل ولا أكثر؛ حتى يكون من السهل التركيز على كيف بإمكان المرء أن يستمر في حياته، ولكي يُنمِّيَ الأساليب المناسبة له، والمطلوبة لتجعله يتكيَّف مع صعوبات الحياة بصورة أفضل، بل وكيف يتعامل مع مشاعره وسلوكياته.
ولذلك تذكَّر أن تكون «أنت» في هذه الحياة. لا تخجل من مشاعرك، ولا تخف منها. فمن الطبيعيّ أن تَخاف الرفضَ، ولكن اسأل نفسك: «ماذا إذا كان هذا الخوف فقط وهمًا؟ وماذا إذا كان هذا الشخص لديه نوع ما من المشاعر تجاهك أيضًا؟» وبدلاً من أن تسأل نفسك عدة أسئلة لا حصر لها، لمَ لا تحاول أن تفكِّرَ بمنطقية ووضوح حول الأمور، ولا تُكسبها صبغة يأس سوداء، وكما قال أبو العتاهية: «ولعلَّ ما تخشاهُ ليس بكائنٍ، ولعلَّ ما ترجوهُ سوف يكونُ».