كانت مملكة نوميديا الواقعة شمالي أفريقيا خلال الفترة (202-40 قبل الميلاد) مأهولة بصورة أساسية بواسطة عدد من القبائل الأمازيغية والتي انقسمت وقتذاك إلى قسمين رئيسيين: الأول هو اتحاد قبائل الماسيسيلي التي شغلت الجهة الغربية من المملكة، إلى جانب ائتلاف أصغر من بعض القبائل الأخرى عُرفت باسم المسيلي في الشرق، ولايزال أصل هذه التسميات غير واضح إلى الآن، وإن كانت بعض التقديرات تشير لكونها جزء من اصطلاحات السكان الأصليين وليست بتسمييات لاحقة، وكلًا من هذه القبائل أو التحالفات حكمت بواسطة ملك أو زعيم خاص بحيث امتلكت كل منها ثقافتها الخاصة والأصيلة حين استولى الفينيقيون على المنطقة التي ستصبح فيما بعد قرطاجة المجاورة حوالي (332 ق.م).
وقد كان كِلا الجانبين من القبائل أو الاتحادات بشكل ما حليف لقرطاجة خلال الحرب البونيقية الثانية -المعروفة أيضًا باسم الحرب الحنبعلية- في الفترة (218-202 قبل الميلاد)، وعلى الرغم من الإشارة المتكررة لهذه المناطق الخاصة باعتبارها ممالكًا إلا أنه من غير الواضح حينذاك ما إذا كان يحكمها في العادة ملك بالمعنى المتعارف عليه أو مجرد زعيم قبلي فقط، ولكن بنهاية الحرب البونيقية الثانية على كل حال كان قد تم إدماج هذين الجانبين في مملكة واحدة، فماسينيسا ملك الماسيلي والذي كان بالأصل حليفًا لقرطاجة خلال الحرب إنحاز في الأخير لدعم روما، فيما كان سيفاكس ملك الماسيسيلي في البدء حليفًا لروما إلا أنه أنشق لمساندة قرطاجة في المقابل.
وفي العام (203 ق.م) هُزمت قوات سيفاكس بواسطة ماسينيسا إلى جانب الجنرال الروماني سكيبيو الإفريقي بمعركة سيرتا، وذلك قبل انتصار الجيوش الرومانية بقيادة سكيبيو نفسه على هانيبال في معركة زاما بالعام (202 ق.م)، وبانتصار الإمبراطورية الرومانية صار ماسينيسا ملكًا على المنطقة بأسرها حيث قام بضم سائر الأراضي التابعة للماسيسيلي تحت قيادته ليشكل بذلك مملكة نوميديا الموحدة، ومنذ ذلك الحين فقد توارت قبائل الماسيسيلي من التاريخ.
ازدهرت مملكة نوميديا بصورة كبيرة خلال حكم ماسينيسا وكذلك تحت حكم ابنه مكيبسا في الفترة (148-118 قبل الميلاد) ولكن في أعقاب حرب يوغرطة مع روما (118-105 ق.م) فقد خسرت نوميديا جزءً كبيرًا من مناطقها الغربية لصالح مملكة موريطنية المجاورة، ثم وفي إثر الصراع الداخلي بالإمبراطورية الرومانية بين يوليوس قيصر وبومبيوس الكبير عام (46 ق.م) فقد تم تقسيم مملكة نوميديا بالكامل بين موريطنية وروما.
ويُعد الملك أرابيو هو آخر الملوك على مملكة نوميديا المستقلة، والذي بمقتله حوالي عام (40 ق.م) أضحت نوميديا إحدى المقاطعات التابعة للامبراطورية الرومانية، حيث تم تنصيب جوبا الثاني (29 ق.م-23 م) كحاكم للبلاد بواسطة أغسطس قيصر امبراطور روما، وعلاوة على ذلك فقد قام جوبا بنقل عاصمته إلى مملكة موريطنية المجاورة في بدايات عهده وركز أغلب جهوده على تلك المنطقة فقط، وحينما قَتل الامبراطور كاليجولا الملك بطليموس الموريطني ابن الملك جوبا عام (40 ق.م)؛ انتهت كذلك سلالة المسيلي أيضًا ولم يتم تسجيل أي شيء بخصوصهم مرة أخرى.
ثقافة المسيلي والماسيسيلي:
من المرجح بشدة أن يكون الدليل على التاريخ الطويل لقبائل الماسيلي والماسيسيلي هو موقع مسورة التابع للعصر النيوليثي (ويعرف أحيانًا باسم مزورة) بالقرب من مدينة أصيلا بدولة المغرب اليوم، والموقع هو عبارة عن حلقة مكونة من (168) جندل صخري محاذاة فلكيًا حول جثوة من التراب، بحيث تزعم الأسطورة بأنها مقبرة للملك آنتايوس (Antaeus) والمعروف عبر المثيولوجيا اليونانية-الرومانية من خلال حكايات هرقل، فطبقًا للقصة؛ فإن الملك آنتايوس لا يمكن هزيمته مادامت أقدامه تلامس الأرض وهكذا يكتشف هرقل ذلك فيرفعه في الهواء ويسحقه حتى الموت، وربما تكون جذور تلك الأسطورة مستوحاة بشكل ما من أحد الملوك النوماندين الذي استمد قوته من أرضه.
ومن جانب آخر فقد آمنت كلا القبيلتين نوعًا ما بتعدد الآلهه، وقاموا بتقديم القرابين لأرواح السابقين وتبجيل الموتى -الملوك منهم بشكل خاص- واتَّبعوا نوعًا من التقويم القمري، حيث قاموا أيضًا بعبادة الشمس والقمر، وإن الإدعاء اللاحق من قبل بعض الكتاب اليونانين والرومانين بأنهم كانوا يعبدون الأحجار على الأرجح يأتي من مواقع مثل المسورة وإن كانت على الأغلب غير صحيحة؛ فالنومانديون لم يقدسوا الحجارة أو يعبدوها بأكثر من شعبي بريطانيا أو اسكتلندا سواء في ستونهنج أو نيس برودجار -موقعين متشابهين في البناء إلى مسورة- ثم وفي فترة تاريخية لاحقة على ذلك بدأت عبادة أشكال من الآلهة الشخصية أو المجسمة -أي تلك التي تحمل بعض الصفات الإنسانية- حيث يزعم البعض بأنها أسفرت عن بعض من أهم الآلهة التي تم تصديرها إلى مصر القديمة مثل: أمون، وأوزوريس، ونيث، ويرجع البعض من المؤرخين القدماء أصول هذه الآلهة إلى ليبيا والتي تعني لحد ما نوميديا.
ويقدر بعض الكتاب اليونانين والرومانين أن الفينيقيين -كأسلاف للقرطاجيين- قد قاموا بالاستيلاء على هذه المنطقة بعد سقوط مدينة صور أمام الاسكندر الأكبر حوالي (332 ق.م) فعند بلوغهم تلك المنطقة واجهوا السكان الأصليين الذين كانوا يزاولون أشكال غير مستقرة من الحياة تشبه البدو لحد كبير، ومن ثم فقد تم وصمهم باسم نوميداي أي البدو والتي أدت في نهاية المطاف إلى اعتياد وصفهم بالنوميديين، وقد أشير إليهم تاريخيًا لأول مرة باسم النوميديين من قبل بوليبيوس (Polybius) حوالي القرن الثاني ق.م على الرغم من أنه غالبًا ما كان يتم الإشارة إليهم باسم الليبيين عبر الكتاب القدماء، في حين يبدو بأنهم هم من أطلقوا على أنفسهم أسماء الماسيسيلي والمسيلي إلا أن هذا غير مؤكد بشكل كبير حتى الآن وقد تكون هذه المصطلحات هي أسماء أطلقها الآخرون عليهم أيضًا.
إن عدم الوضوح فيما يتعلق بأسماء هذه القبائل وما إذا كانت بالأصل قبائل منفصلة أو ائتلافات قبلية يبرز مدى ضآلة ما عرفه كتاب التاريخ اللاحقين عنهم، فالتاريخ النوميدي لم يُدَون بواسطة نوميديون ولكن من خلال الكتاب اليونانين والرومانين، وبطبيعة الحال فقد قام هؤلاء بالتركيز فقط على تلك الجوانب من الثقافة التي أخذتهم، فعلى سبيل المثال: الكاتب الروماني سالوست (86-35 ق.م) كان حاكمًا على نوميديا وأبصر تلك الثقافة بصورة مباشرة إلا أنه يُغفل الكثير من التفاصيل التي ذكرها كتاب أخرون، ومن المحتمل أنه قام بذلك لأن هذه المعلومات لم تهمه بشكل شخصي.
وعلى الرغم من حقيقة أن نصوص التاريخ النوميدي كُتبت بواسطة آخرين؛ إلا أن النوميديون قد خلّفوا وراءهم قصصهم الخاصة وذلك بطريقتهم الشخصية، فكانت المخطوطة المعروفة باسم تيفاني (Tifinagh) مستخدمة منذ القرن الثالث قبل الميلاد فصاعدًا على أقل تقدير، بحيث كانت تمثل نوعًا من الأبجدية للكتابة بشكل ما، وبالرغم من أن النقوش الموجودة في تيفاني لا تشكل حتى الآن أي نوعٍ من النصوص المتماسكة إلا أنها تُعد شاهدًا على الأشخاص والأحداث الهامة حينذاك، ومن المحتمل أن النوميدون استخدموا تيفاني بذات الطريقة التي استخدام الاسكندنافيون بها الرونية (runes) -الأبجدية النوردية القديمة- في الاحتفاء بالأحداث الهامة والتواصل مع الآلهة، وليس كوسيلة من وسائل التواصل اليومي، ويبدو هذا مثيرًا للتأمل إلى حد كبير، فالمقابر والمعالم الآثرية كتلك المتواجدة في مدينة دقة التونسية، أو أطلال تيبازة بالجزائر، وضريح إيمدغاسن كلها تظهر ثقافة متقدمة للغاية ولكن لا يوجد نصوص تاريخية أو كتابات أو نقوش ترجع للسكان المحليين.
ووفقًا للمؤرخين اليونانيين والرومان فقد اتبع النومانديون في حياتهم نظامًا غذائيًا نباتيًا، وأعرضوا عن تناول الكحوليات، وتشاركوا في ممارسة التمارين الرياضية بصورة منتظمة، وكان الرجل عادة يتخذ زوجة إلى جانب عدد من النساء الأخريات المحظيات ولهذا فقد كانت العائلات عادةً كبيرةً، وكان الأطفال والبالغون عادة ما يخرجون عرايا حول منازلهم ويرتدون الستر الفضافضة بدون أحزمة في التجمعات العامة، وأحيانًا كانوا يرتدون الصنادل أو يذهبون حفاة، فأسلوب الحياة النباتي عالِ الطاقة إلى جانب مناخ المنطقة أتاح لهم حياة طويلة وصحة قوية.
وعادةً ما كان يتم الإشادة بالنوميديين من قبائل المسيلي لبراعتهم الشديدة في التعامل مع الخيول وترويضها أكثر حتى من نظرائهم في الماسيسيلي، ويتردد بأن الناس هناك قد نشأوا بنوع من الاتصال الوثيق مع خيولهم لدرجة أنهم شكلوا حالة من الارتباط الشعوري غير المحسوس مع خيولهم فلم يتطلبوا السرج أو اللجام للتعامل معها، وقد حاول الرومان وكذلك القرطاجيون استغلال هذا الامتياز فاستخدموا الفرسان النوميديين كجنود مرتزقة خلال فترة الحرب البونيقية الثانية، حيث وضعوا ضد بعضهم البعض بحسب ولاءاتهم المعلنة.
وكان الفرسان النوميديون عادة ما يتسلحون ببعضٍ من الأسلحة الخفيفة كالرماح أو ربما السيوف والخناجر، ونظرًا لقدراتهم الحربية الفائقة -حيث ركبوا الخيول باستخدام حبل حول عنقها فقط، وتمكنوا من السيطرة عليها من خلال صوتهم- فقد تم توزيعهم كقوات للصدمات خلال المعركة بحيث يستدرجون العدو إلى التورط في القتال ويلقون الرماح عليهم ومن ثم يتراجعون مرة أخرى، وعادة ما تسببوا في خسائر فادحة للطرف الأخر.
خلال الحرب البونيقية:
إبان الحرب البونيقية الأولى (264-241 قبل الميلاد) قاتل النوميديون في صفوف الجيش القرطاجي، لكن حينما خسرت قرطاجة الحرب أثقلت التعويضات الخزانة الملكية واستنزفت جزءً كبيرًا من مواردها بحيث لم تتمكن المدينة من دفع أجور المرتزقة والذين مَثَّلَ النوميديون جانبًا كبيرًا منهم، إلى جانب كونهم جزءً رئيسيًّا من جيش المتمردين ضد قرطاجة خلال حروب المرتزقة (241-237 قبل الميلاد) والتي بدأت بعدما انهارت كل المفاوضات حول إمكانية الدفع، وقد تم تسوية هذا النزاع من قبل الجنرال حملقار برقا (Hamilcar Barca) بطل قرطاجة خلال الحرب البونيقية الأولى والذي قاتل إلى جانب العديد من هؤلاء الرجال ضد روما لكن واجبه اضطره للدفاع عن مدينته.
قاست قرطاجة بشدة خلال الفترة التي تلت الحرب نظرًا لفقدانها بعضًا من أراضيها وسيطرتها على البحر المتوسط، ولكنها عانت على وجه الخصوص بسبب تحملها لتلك التعويضات التي أصرت روما على دفعها، والتي كانت أيضًا سببًا مباشرًا للحرب البونيقية الثانية (218-202 ق.م) حيث خاضها النوميديون إلى جانب هانيبال برقا نجل حملقار وكذلك لروما تحت حكم الجنرال سكيبيو الإفريقي، فكان الملك النوميدي جالا زعيم قبيلة المسيلي حليفًا لقرطاج في حين حارب سيفاكس ملك الماسيسيلي من أجل روما.
وحينما توفي الملك جالا حوالي (207 ق.م) خلفه ابنه ماسينيسا الذي حافظ في البداية على التحالف مع قرطاج حتى أدرك مدى فعالية الجنرال سكيبيو في المعركة وتحول إلى الجانب الآخر وذلك عندما شعر أن روما سوف تنتصر في هذه المعركة، في الوقت ذاته شعر سيفاكس بقدر من خيبة الأمل في روما وتحول لدعم قرطاجة على الجانب المقابل، وفي عام (203 ق.م) هُزمت قوات سيفاكس من قبل ماسينيسا وسكيبيو، وعلى إثر ذلك أُخذ سيفاكس كسجين في روما حيث مات هناك، وفي المقابل وكمكافأة لماسينيسا على ذلك خاصة بعد انتصار روما على قرطاجة في الحرب فقد تم منحه الأراضي القرطاجية في غرب أفريقيا بما فيها مناطق الماسيسيلي في نوميديا.
مملكة ماسينيسا والحرب البونيقية الثالثة:
تزوج ماسينيسا من الملكة سفنبعل (Sophonsiba) ابنة الجنرال القرطاجي صدربعل جيسكو (Hasdrubal Gisco) والزوجة السابقة للملك سيفاكس وذلك من أجل تعزيز الروابط القبلية بيم المسيلي والماسيسيلي، لكن الجنرال سكيبيو ادعى في المقابل أن الملكة من بين غنائم الحرب ويجب أن تقدم إلى روما مع الآخرين وأنه بعد نقلها إلى هناك يستطيع ماسينيسا العمل من خلال القنوات الرسمية المناسبة لاستعادتها مرة أخرى، في حين زعم الجانب الآخر أن الملكة سفنبعل كانت مخطوبة إلى ماسينيسا قبل أن ينشق لدعم روما في الحرب، وأنها تزوجت من سيفاكس فقط بعد أن تحول إلى جانب قرطاجة، وعندما أصر الجنرال سكيبيو على إرسالها إلى روما لتظهر ضمن موكب النصر أعطاها ماسينيسا قنينة من السم لتقتل بها نفسها.
ومع الدعم الذي وفرته روما، بدأ ماسينيسا مسيرة حكمه التي امتدت لأكثر من (50) عامًا حيث قام بتوسعة مناطق نفوذه، وبناء الآثار الضخمة، وإدماج القرى النوميدية مثل دقة وهيبون في مدن كبيرة، كما عمل على تأسيس عاصمته في سرتا وتطوير ميناء روسكادا على البحر المتوسط، فقد أطلقت روما له حرية التوسع الإقليمي طالما سعى إلى إحباط مصالح قرطاجة في المنطقة.
كما حرض ماسينيسا بصورة ما على مداهمة الأراضي القرطاجية بشكل مستمر في ذات الوقت الذي اقترحت فيه روما هدم المدينة كليًا وإعادة بنائها نحو الداخل لتسهل السيطرة عليها، وواجه القرطاجيون تلك التهديدات الرومانية والنوميدية بالقوة العسكرية بالمخالفة للمعاهدة التي أنهت الحرب في المرة السابقة، وهكذا بدأت الحرب البونيقية الثالثة (149-146 ق.م) والتي انتهت بتدمير قرطاجة نهائيًا، وتوفي ماسينيسا عام (148 ق.م) وانتقل عرش نوميديا إلى ابنه ميكبسا.
الملوك النوميديون:
ماستنابال (Mastanabal) الشقيق الأصغر لميكبسا كان له ابنٌ غيرُ شرعيٍّ يدعى يوغرطة (Jugurtha) والذي أظهر نفسه كجنديٍّ بارعٍ ومؤهلٍ لخدمة روما بشكل كبير، وبعد الحملة العسكرية في اسبانيا طُلب من يوغرطة العودة إلى سرتا مع توصية إلى ميكبسا بجعله وريثًا للعرش فيما بعد، وكان لميكبسا بالفعل وريثان للعرش هما أبناؤه هاميسبال وأدربال ولكنه أضطر لجعل يوغرطة وريثًا وفقًا لرغبات روما، غير أنه اشترط في وصيته أن تُحكم نوميديا بشكل مشترك بين الثلاثة بعد وفاته.
لكن بعد موت ميكبسا وقع خلاف بين هاميسبال الذي أهان يوغرطة فقام بقتله توًا على إثر ذلك، وبعدئذ قاد يوغرطة في مواجهة أدربال وقام بأسره وتعذيبه حتى الموت، ثم بدأ يوغرطة في اتباع سياسته الخاصة والقيام بما يرضيه على وجه الدقة وهو ما تسبب في دخوله بصراع إضافي مع روما، وبدأ ما عرف بعد ذلك بحرب يوغرطه منذ (112) وحتى (105 ق.م) والتي انتهت بسجن يوغرطه وموته بعد ذلك، في حين أن المناطق الغربية من نوميديا التي كانت تابعة في السابق لقبائل الماسيسيلي قدمت لبوكوس الأول (Bocchus I) حاكم مملكة موريطنية الذي ساهم بشكل فعال في خيانة يوغرطة والقبض عليه آنذاك، بينما أصبحت الأجزاء الشرقية من نوميديا تحت حكم الملك جودا (Gauda) الأخ غير الشقيق ليوغرطة ثم ابنه هاميسبال الثاني (Hiempsal II) الثاني من بعده.
ثم اضطر هاميسبال الثاني للتخلي عن العرش بضغط من الشعب إلا أن روما قامت بإعادته للحكم مرة أخرى، وخلفه ابنه جوبا الأول (Juba I) الذي انحاز إلى جانب بومبيوس الكبير خلال صراعه مع يوليوس قيصر، إلا أنه عندما شعر أن الهزيمة أصبحت حتمية في أعقاب معركة تابسوس عام (46 ق.م) قام بالانتحار، ولم يلبث قيصر سوى فترة قصيرة قبل أن يضم نوميديا إلى سيطرته بعد توافقه مع بوكوس الثاني من موريطنية والذي كان حليفًا له في الحرب، كما منح مدينة سرتا أيضًا وربما المناطق المحيطة بها إلى بابليوس سيتيوس (Publius Sittius) أحد المرتزقة الذين قاتلوا إلى جانبه خلال الحرب.
وفي العام (44 ق.م) قام محارب نوميدي يدعى أرابيو كان قد خاض الحرب ضمن جبهة بومبيوس، ثم هرب إلى اسبانيا بعد الهزيمة باستعادة المناطق الغربية من سيطرة بوكوس الثاني وإعدام سيتيوس وإعادة تأسيس مملكة نوميديا مرة أخرى، لكنه لسوء الحظ لم يتمكن من البقاء بمنأى عن التورط في النزاعات التي وقعت في روما عقب اغتيال قيصر، وتم إعدامه من قبل سكستوس بومبي (Sextus Pompey) نجل بومبيوس الكبير -خلال صراعه مع مارك أنتوني وإكتافيوس قيصر- وذلك بتهمة الخيانة، ومن ثم وبعد إعدام سكستوس نفسه أيضًا بعد إخفاقه في الحرب، حارب اكتافيوس وأنتوني كلاهما الآخر، وبعد هزيمة أنتوني في معركة أكتيوم عام (31) قبل الميلاد قام إكتافيوس بإعادة تهيئة وتنظيم مقاطعات روما من جديد.
وفيما بعد انتصار قوات يوليوس قيصر على بومبيوس خلال معركة تابسوس وانتحار جوبا الأول حينذاك تم نقل ابن جوبا والمعروف باسم جوبا الثاني (Juba II) إلى روما للمشاركة في موكب النصر، ثم مكث هناك في روما حيث تلقى تعليمه وفقًا للعادات والأعراف الرومانية وأصبح رومانيًا بالكامل تقريبًا، وخرج في عدد من الحملات العسكرية مع إكتافيوس وكان له دور أساسي وفعال في الانتصار بمعركة اكتيوم، هكذا وبالتالي، -وكجزء من تلك الإصلاحات التي قام بها اكتافيوس- كان من الطبيعي أن يتولى جوبا الثاني حكم نوميديا عام (29) قبل الميلاد.
وتزوج جوبا الثاني من الملكة كليوباترا سيليني الثانية (Cleopatra Selene II) ابنة كلًا من مارك انتوني وكليوباترا السابعة والتي حرصت على تشجيع الفن والعمارة المصرية في المملكة، ويرجع تاريخ أهرامات نوميديا إلى تلك الحقبة، كذلك الحال بالنسبة للضريح الملكي الذي لايزال قائمًا في مقاطعة تيبازة بالجزائر، وكان جوبا الثاني كاتبًا هامًا ومحترمًا للغاية ومؤلفًا لعدد من الأعمال التي استشهد بها عدد من المؤرخين القدماء في أوقات لاحقة، ويتردد بأنه لم يشرع في القيام أو المبادرة بأي حملات عسكرية وإنما قام برعاية عدد من البعثات الاستكشافية والبحثية وربما الأثرية، وإبان فترة حكمه أزدهر الفن والعلم والثقافة في نوميديا، وتواصل ذلك حتى بعد نقل عاصمته إلى مورطينية عام (27 ق.م)، وجعل جوبا الثاني ابنه بطليموس (Ptolemy) شريكًا له في الحكم منذ (27 ق.م) ولقنه أصول الحكم طبقًا للعادات والأعراف الرومانية.
ثم وبعد وفاة جوبا عام (23 ق.م) واصل ابنه بطليموس الالتزام بسياسته والاقتداء به كباحث وراعي للفنون، حيث كان عصره ناجحًا بشدة لدرجة أن مورطينية -التي احتوت في حينها على المناطق التي كانت يومًا ما غرب نوميديا- صارت واحدة من أغنى المقاطعات الرومانية، وفي العام (40) من الميلاد قُتل الملك بطليموس من قبل الامبراطور الروماني كاليجولا بعد أن دعاه لزيارته في روما، ويبدو أن الدافع وراء القتل لايزال غير واضحٍ حتى اليوم، وبوفاة بطليموس كتبت نهاية سلالة المسيلي في نوميديا هي الأخرى.
الخاتمة:
صارت مملكة نوميديا مقاطعة رومانية لفترة طويلة من الزمن بعد ذلك، بل وستستمر هكذا حتى بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في عام (476 م) وتحت حكم الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو البيزنطية غدت نوميديا هي الولاية الإمبراطورية للرومان في إفريقيا وذلك بالتحديد بعد هزيمة الفاندال (Vandals) في شمال إفريقيا (534 م) حيث عُرفت حينها بإكسرخسية إفريقيا، وظلت المنطقة تحت السيطرة البيزنطية حتى الفتح العربي لإفريقيا في القرن السابع الميلادي.
إعداد: محمد أمين
مراجعة: Matalgah Hamzeh
المصادر:
The Masaesyli and Massylii of Numidia [Internet]. Ancient History Encyclopedia. [cited 2018 Apr 6]. Available from: https://www.ancient.eu/article/1196/the-masaesyli-and-massylii-of-numidia/